ترتيلة الغياب – لهيب عبدالخالق

ترتيلة الغياب – لهيب عبدالخالق

لا دربَ يفتحُ لي ذراعيهِ،

الدروبُ تَغَـلّـقَتْ،

غصّتْ بكلِّ عظامِ أجدادي،

وتاريخي،

وأبنائي الذين تواتروا

جيلاً يلمُّ نثارَ تلك الحربِ،

آخرَ ينكفي ستراً ويغوي نشوةَ الترتيلْ ..

لا فرقَ بين مرتلٍ سفرَ الوجودِ،

أو الذين يرتلونَ على قبورِ الراحلينَ نياطَهم،

يُذكونَ حزناً يستفزُّ سماءهمْ،

تلكَ التي مازالَ يغشاها الغبارُ،

ولم تزلْ تترقرقُ الدمعاتُ حاسرةً صداها،

لا سبيلَ لمن تخطاهُ السبيلْ.

لا يومَ يمكنُ أن يكونَ على غصونِ الليلِ،

والنيرانُ تعصفُ بالذرى،

بالقلبِ،

بالروحِ التي ظمأتْ لنهرٍ خالدٍ،

بمدينةٍ نَضّتْ رمادَ خيولِها

وطوتْ سرابيلَ الأصيلْ.

لا دربَ يمكن أن يكونَ،

هنا رسمنا فوق طينِ الأرضِ

أسراباً من الطيرِ المجلّـلِ بالسنا،

ومَضَاتِ فجرٍ كنتُ أركضُ خلفها بين الشوارعِ،

بين أقبيةِ الفصولِ

وأغنياتِ الثائرينَ

وبينَ رشْقاتِ المطرْ.

كلُّ ما جمّعتُه أضحى سراباً،

صارتِ الدنيا سفيناً هارباً

كالريحِ تندبُ صبحَها،

وخبتْ خطايانا،

وأسوارٌ رسمناها سدىً،

وصراخُ قتلانا،

أنينُ الثاكلينَ

الراحلينَ

العاكفينَ على كوانينٍ ترجّل خُبزُها،

ذابتْ كما ذابَ الصهيلُ،

أَكُنتَ بينَ سنابكِ الاقدارِ

تومضُ لي

وتحرقُ مهجتي شوقاً،

وبيتاً،

موطناً،

سُوَرَاً من الفرقانِ

ترقِينا بها الجَدّاتُ في ليلٍ ثقيلٍ غادرٍ

أو نهدةٍ بين الشجرْ..

حين انضويتَ على السواترِ

كان قلبي يستكينُ إلى هواجسهِ

ويوشكُ أن يقيلَ سنينَهُ

ويزمُّ أوردةً سقتَها آلهاتُ الحبِّ،

كنتُ أرمّمُ الأشياءَ

بعضَ طفولةٍ

ثـنْياتُ ديوانٍ من الشعرِ الذي أهديتَني،

ما قُـلـتَهُ حين انبريتَ تحيطُني

من كلّ طائشةٍ رمتَها العادياتُ،

وتختفي بين الجذوعِ،

تهزّها كي ما تساقطَ وهجَها

وترصَّ أوراقي وأطيافي

وزهوَ سنابلي،

 حجراً على حجرٍ،

ولكنّا بقينا في العراءِ

طرائداً،

لا سِفرَ نقرؤهُ

ولا حتى جدارٍ أو سماءٍ

أو فوارسَ تمتطي سرجَ الألوهةِ

أو تسلُّ شغافَها وطناً،

بقينا محض أسئلةٍ

تناورُ كل حينٍ موتها..

لا شيءِ يمكن أن يكونَ بديلَ ذاكَ الحبّ،

ذاكَ الوجدِ،

والنخلِ الذي ظلّلتُهُ حين القيامةُ أشعلتْ

في كلِّ أركانِ الزمانِ جحيمها،

أودعتُ ذاك النهرِ كلَّ نوارسي،

وشذا الليالي،

ما تلظى من جروحٍ،

صبوةً كنا نخبّئُها

ونركضُ فوق أجنحةِ السرابْ.

وترجلت كل المدائن،

لم نكن يا دارُ ندركُ أنّ ذاكَ الدربُ

يأخذنا إلى ما لا نريدُ

وما نريدُ،

تغيرتْ كلُّ الوجوهِ،

شواطئُ النهرِ المقدسِ،

أغنياتُ الحقلِ،

أشجاري التي أودعتُها سرّ المرايا،

كل شيء غاب في جب الترابْ.

لا دربَ يفتحُ لي ذراعيهِ،

الدروبُ تغلّقتْ،

ما عدتُ أقوى والضبابُ يلفني،

حتى وجوهُ الناس غابتْ

وانطوتْ،

أشلاءَ أخيلةٍ تناهت

في ترانيم الغياب…

مشاركة