ترانيم الغواية تاريخ قضية ووطن – اضواء – علي خيون

ترانيم الغواية تاريخ قضية ووطن – اضواء –  علي خيون

 ترانيم الغواية” هي الرواية الثامنة للروائية المبدعة الأستاذة ليلى الأطرش، فقد أصدرت اولى رواياتها (وتشرق غربا) عام 1988، وآخرها رواية “أبناء الريح” عام 2012،وبهذا فنحن إزاء قلم متمرس على هذا الفن الصعب الجميل.

  صادف صدور ( ترانيم الغواية ) ـ ضفاف 2014، في أثناء زيارتي الى عمان ، وفور عودتي، شرعت بقراءتها ، فأخذني جمال العبارة، ورشاقة الأسلوب، وجودة الحبكة الروائية الى عالمها الزاخر الذي قادتنا فيه الى فلسطين، ذلك الموضوع الذي يظل يشغلنا ، ولا نمل الحديث عنه ، وعن حكاياته المعبرة عن تاريخ قضية ووطن، فهي رحلة الى داخل قضية لم تنته ولن تنتهي.وعجيب قلمها ، فقد طوع الابداع الروائي الى غوص سلس وعميق في ثنايا التاريخ من نهاية العهد العثماني حتى بداية القرن العشرين ، لنرحل مع الكاتبة في عمل شائق وشاق، غايته توثيق حياة القدس بكل ما نعرف وما لا نعرف من تاريخها الطويل الحافل بكل المتناقضات.

بيد أن الرواية ، لا تقف عند حدود التاريخ وإلا لانقلبت روايتها كتابا سرديأ عن تاريخ قديم ، لكنها في الواقع ، مشت باتجاهين متداخلين ، تاريخي ـ توثيقي، واجتماعي ـ انساني، تبرز فيه العاطفة الى جانب التحولات التي تكون دوافعها المباشرة علاقات وعواطف تتحرك ضمن سياقها الطبيعي المألوف.

  تبدأ الرواية، بحديث راوية بنت عيسى ، وقد قررت زيارة القدس لتسكن مع عمتها ميلادة، وهناك تخطط لتصوير فيلم عن القدس. وفي بيت ميلادة ، تجد راوية أوراقا ومذكرات عن حب الخوري لميلادة نفسها ، تلك الغواية التي غيرت الرجل وأحرقت فؤاده وقدمت صورة عن حب لا يموت.    من هنا ، نمضي جميعاً مع راوية في رحلتها الى الماضي فنتعرف الى (ميلادة)،وننبش الصندوق القديم ، فنقرأ أوراقا مشوقة ، يختلط فيها الحب بالألم،فكأن ميلادة وحكايتها مع الخوري هي المعادل الموضوعي لتاريخ القدس .

    أعجبني أسلوب الكاتبة المطواع الذي تستطيع فيه أن تقدم المعلومة دون تكلف ، عبر كلمات موجزة وجميلة تأتي في صورة تداع نفسي : ” ألون الايام بالأمل ، وضعتُ تصورا لفيلم يوقظ بشر المدينة من عباءة التاريخ، يناصر نوازعهم على قدسية الحجر، ويروي عن حب عاصف تحدى الاعراف والكنيسة ، وعن نساء الظل في قدس الاديان”.

   ونجد الغواية ، في تحولات الخوري متري الحداد، حين يغمره الحب،فيحوله الى كائن يضيق بحاله ، فيعذبه ضميره الذي جبل على ان الحب ” غواية ” من غوايات الشيطان. لكن ذلك لم يغير من الحقيقة شيئا فقد أحب ، وقد أخرجه الحب عن طوره ، وما فطر عليه من طقوس ومحرمات، ولذلك قصة ومعنى ومغزى .

  وحين نصل الى الصفحات التي تعد مذكرات خاصة بالخوري العاشق، تبلغ الكاتبة الذروة في الابداع حين تصيغها على هيئة سيرة من تحولات النفس وعذاباتها في فرحها وندمها، في تقواها وغوايتها ، فنقف مرة أخرى على معادل موضوعي آخر بين سيرة الحب وسيرة المدينة، فيقول :” هل أكتب سيرتي ؟ أم قصة مدينة ؟ بتعدد اجناسها وتنوع مللها ؟ والصراع المعلن والخفي بين طوائفها “.

رواية ” ترانيم الغواية ” من الصعب تلخيصها ، فكل سطر فيها يحمل معنى ، وهي تتدفق كمياه تجرف كل شيئا ، الذكريات والشخصيات التي ارتبط اسمها بفلسطين ، والدسائس والمؤامرات والانتكاسات والبطولات والمواقف الصعبة.وحين ننتهي من آخر صفحة نعود تلقائيا الى اول صفحة لنقرأ من جديد: ” مصلوب بحيرته ذاك المولود في مدينة منذورة لله ، ظاهرها قدسي ، وباطنها إنسي، معلق على الحد بين طهارة الحجر ونوازع البشر، بأنوار أنبيائها تشع مدن السماء ، وسواد ليلها غواية ورغبات دفينة”. إن الموضوع المهم الذي طرحته الرواية هو أنها ألقت الضوء على تنويعات  الصراع القديم الجديد، ظهر ذلك في أكثر من صورة وأكثر من مشهد ، فكانت القضية حاضرة في الماضي كما هي في الحاضر.

نعلم أن المهمة النبيلة انتهت (لراوية) ، وانتهت أيضا للمؤلفة ليلى الأطرش التي زارت المنطقة ـ موضوع الرواية  ، وجمعت مادة روايتها ، وقد وضعت أسماء المراجع التي استندت اليها والكتّاب الذين أرشدوها ممن ارتبطت أسماؤهم بقضية القدس وفلسطين ، ومع النهاية يشتد إعجابنا بالمؤلفة ـ البطلة في صدقها الفني الذي صاغ الأحداث على وفق رحلتها الإبداعية المباركة .   نعم، وصلنا الى النهاية ، إذ تعود ” راوية ” بأشرطة فيلم عن مدينتها ، مثلما عادت ليلى برواية عن قضيتنا جميعا ، وتظل الرواية ـ الفيلم ، شاهداً على واقع جرى ما جرى فيه في ظل غياب روح الوئام ، وغلبة التعصب ، وسيادة الأنانية ، وسوء تقدير لحجم القضية التي هي ” قضية وطن ” قبل كل شئ.