تداخل الخنادق

تداخل الخنادق

عصام فاهم العامري

يكتنف المشهد العراقي منذ العاشر من الشهر الجاري ليس  فقط الكثير من الغموض والكثير من اختلاط وخلط الاوراق ولكن التداخل ايضا في الكثير من الخنادق .. الامر الذي عقد صورة المشهد وبالتالي أضفى عليه المزيد من التشويش والتشويه ، ومن شأن ذلك ان يتسبب بفهم خاطئ او قاصر لحيثيات المجريات القائمة واسبابها ومآلاتها .. ومن الطبيعي ان الخطأ والقصور في الفهم ان ينعكس على آليات المعالجة والتعاطي .. كما ان القنابل الدخانية التي اطلقتها وسائل اعلام مختلفة والضجيج الاعلامي المتناقض والمتباين بدوره شوه تضاريس المشهد ، حتى صار المراقبون كما الناس في العراق والوطن العربي حائرين حول ما يحصل هل هو موجة إرهابية  صاخبة جديدة ام  ثورة شعبية ؟  وكيف ستتحدد الاصطفافات والخنادق ؟ .. فضلا عن اسئلة فرعية عديدة وأسئلة تنبت في سياق جزئيات معينة من المشهد .

ولعل أحد ابرز عناصر المشهد ما حصل فجر العاشر من الشهر الجاري عندما تم الاستيلاء على مدينة الموصل عاصمة محافظة نينوى وثاني اكبر مدن العراق سكانا  من قبل عناصر من تنظيم الدولة الاسلامية في العراق والشام  المسماة اعلاميا ( داعش ) بمساعدة جماعات اسلامية وقومية مسلحة متمردة  تتمثل بحزب البعث وجيش الطريقة النقشبندية والجيش الاسلامي وكتائب ثورة العشرين وضباط سابقين إثر انهيار شبه كامل للقوات الامنية من جيش وشرطة في المدينة ؛ تاركين اسلحتهم واجهزتهم ومعداتهم الثقيلة وعرباتهم وحتى ملابسهم  . ليستمر زحف المسلحين الى مدن محافظة صلاح الدين وديالى ، وليستمر بالمقابل الانهيار المذهل للقوات الامنية .

ما حصل كشف عن تداخل الخنادق بين المسلحين الذين يناؤون المالكي –  وربما بعضهم يعارض النظام العراقي بأسره – وبين داعش التنظيم الارهابي المرفوض من مجمل العراقيين بما فيهم سكان الموصل وصلاح الدين وكركوك وديالى والانبار . بالطبع التفسير الواضح   عدو عدوي صديقي  يمكن ان يفسر جزء من تداخل الخنادق في هذه الحالة ،، وبحسب ما تقول عناصر في فصائل المسلحين من غير داعش انهم ارادوا الاستفادة من امكانيات داعش في سبيل دحر  قوات المالكي  .. وقد اعتمدت هذه الفصائل تكتيك  امتطاء الوحش  للتخلص من العدو من جانب ولاصابة الوحش بالاعياء من جانب أخر ،، سيما ان داعش في الاصل موجودة واستطاعت عبر وجودها في سوريا ان تستولي على مخازن اعتدة وذخيرة كبيرة  وبالتالي اضحت اكثر قوة مما سبق .

وهنا يظهر لدينا اختلاط في الاوراق .. بشأن انهيار القوات العسكرية ،، هل تم ذلك بأوامر من قبل قياداتها العليا في بغداد ؛ ولاسيما من المالكي كما أثير بغية استمراره في السلطة او بغية استدعاء الايرانيين أو لغيرها من الاسباب التي قيلت بهذا الخصوص من قبل البعض . وفي اعتقادي أن سبب ما حصل يتحمله المالكي ، فهو عمل خلال السنوات الماضية على تطهير الجيش العراقي من بعض قادته الأكثر قدرة. وبدلا من التركيز على تدريب وتجهيز الجيش، فإنه أضحى  يستخدم كل أدواته لاستهداف خصومه السياسيين، وكان الجيش والاجهزة الامنية في مقدمة هذه الادوات . سوء التدريب او انعدامه حَرَفَ الجيش عن مهماته وأضعف الروح القتالية لديه ؛ سيما وانه في الاصل يفتقر الى العقيدة العسكرية . كل ذلك جعل الجيش يُنظَر إليه من معظم العراقيين انه جيش المالكي ، وهذا بالفعل ما أضحى يشعر به حتى افراد هذا الجيش ، وبالتالي صار افراده لا يريدون الموت من اجل المالكي  . كما أن خطة الهجوم على مدينة الموصل قد تضمنت عدة عناصر في مقدمتها انتشار اعداد من المسلحين في احياء الموصل ، كما تم الاتصال بافراد وضباط الشرطة والجيش في بعض وحدات  بغية حثهم على الانسحاب بعد أن  أُشيعَ أن هجوما صاعقا سيحدث ، ونتيجة ذلك حدثت انسحابات من وحــــــــــدات الشرطة والجيش .

كما تم اطلاق قنابل صوتية و تفجير بعض العبوات الناسفة قرب مقرات الجيش والشرطة ،  ولانه أصلا هناك انسحابات في الوحدات العسكرية فقد انهارت الروح القتالية المتداعية لجيش المالكي فحدث الانهيار الاول ، والانهيار الاول انتقل مثل كرة الثلج فحدثت الانهيــارات الاخرى .

خلط الاوراق تم عندما فسر المالكي ما حدث بانه  مؤامرة  قام بها منافسون سياسيون له  بالتواطؤ مع عسكريين ، وعندما اعتبر كل ما حصل هو من عمل داعش دون الالتفاف لمشاركة الجماعات المسلحة الاخرى  ، وتصوير تعامل عدد من سكان الموصل وحتى تكريت باللامبالاة واحيانا بالسعادة بعد انهيار الجيش فيهما على انه ترحيب بالارهاب .

تداخل الخنادق يبرز أكثر في التعامل مع داعش كصديق واحيانا كحليف في اطار العداوات والسياسات المناوئة ليس فقط في العراق كما هو حاصل الآن ، وانما حصل ذلك في سوريا  من دون النظر الى ايديولوجية داعش وتوحشها وظلاميتها وتطرفها ومنهجها التدميري الذي يستهدف الجميع من دون استثناء  . والواضح ان أعداد كبيرة من العراقيين سواء من الجماعات المسلحة او حتى المدنيين العاديين شكلوا مجددا حاضنة شعبية لداعش ،  بعد ان تم رفض هذه الجماعة خصوصا وتنظيمات القاعدة اجمالا وتمت محاربتها أيضا  في السنوات السابقة من خلال تشكيلات الصحوات ،، وبالفعل تم الحد من نشاطها بل كاد ان يُقضى عليها لولا قيام حكومة المالكي بتفكيك الصحوات .. بالطبع عادت في السنوات الاخيرة داعش لتنشط مرة اخرى ؛ الا ان الرفض الشعبي ظل متواصلا لداعش ولوجودها .. ولكن الذي حصل خلال الايام الماضية من تعاون بين  بعض الساخطين والمتمردين والمسلحين من الجماعات الاخرى وبين داعش وكذلك ترحيب عدد من السكان المحليين في الموصل وبعض مدن محافظة صلاح الدين بهجمات داعش وان كانت جاءت كرد فعل غاضب على اجهزة وادوات حكومة المالكي التي استبدت وظلمت هؤلاء السكان ، خصوصا وان هذه الاجهزة والادوات وجهت تُهم الارهاب والتمرد  للجمهور السني بالمجمل  لمجرد احتجاج هذا الجمهور على سياسات المالكي وممارساته . المهم ان هذا التداخل نتج عنه التباس خطير هو تداخل الثورة بالارهاب ، كما إنه  سمح لداعش ان تقوى وتستبد وتعبر عن ذات سياساتها الظلامية الاجرامية  السابقة  ، فأصدرت  وثيقة المدينة  في الموصل ؛ وفيها أعلنت ثوابت وتعليمات لإدارة شؤون الموصل وحرمت المجالس والرايات بشتى العناوين من حمل السلاح . وأضافت الوثيقة إن  الأموال التي كانت تحت يد الحكومة الصفوية (المال العام) أمرها عائد إلى إمام المسلمين وهو يتصرف بها بما يراه مناسباً وليس لأحد أن يمد يده إليها ، وحذرت من  مراجعة العمالة ومغازلة الحكومة وتجارة الخمر والدخان وباقي المحرمات  وقالت انها ستتعامل مع هذه المحرمات وسواها بقطع الرؤوس  . وتابعت :  موقفنا من المشاهد والمزارات الشركية في العراق هو أن لا ندع قبراً إلا سويناه ولا تمثالاً إلا طمسناه ، داعياً النساء في الموصل إلى  الحشمة والستر والجلباب والخدر وترك الخروج من المنزل  . ثم قامت عبر مكبرات الصوت  بتحذير الجماعات المسلحة التي شاركتها هجوم العاشر من حزيران من  سرقة انتصار  مجاهدي دولة الاسلامية في العراق والشام  ، وانتقى عناصر داعش بعض رجال الشرطة والموظفين الحكوميين  لإعدامهم من دون محاكمات امام اعين الناس بتهمة مخالفتهم تعليمات وتحريمات داعش  .

وفي الواقع ان تداخل الخنادق مارسته سوريا من قبل ؛ او بالاحرى مارسه النظام السوري ليس فقط عندما كانت الأجهزة السورية ومنذ عام 2003 تدير إدخال وإخراج الجهاديين العابرين باتجاه العراق. ولكن ايضا ظهر هذا التداخل مع داعش مطلع عام 2013. اذ لم تسع داعش إلى مواجهة الجيــش السوري، وكان شاغلها هو بسط سيطرتها على أراضي  سورية متصلة هي جسرها إلى العراق. وسيطرت على قرى ومدن ؛ فوضعت اليد على الرقة والحسكة ودير الزور، وصادرت مستودعات سلاح المعارضة واغتالت بعض قيادييها، ثم استهدفت المناطق النفطية، وسيطـــــرت على عائداتها وعلى  تجارة   الرهائن الغربيين.

 وفي وقت لاحق من عام  2013، حلّت شراكتها مع النصرة ( ممثلة تنظيم القاعدة العالمي )  . ونأت قوات الأسد بنفسها عن استهداف داعش ؛ وسهلت لداعش ان تواجه قوات الجيش الحر والفصائل العسكرية الاخرى التي تقاتل نظام بشار الاسد . وأضحى مقربون من نظام الأسد يشترون النفط من داعش . وانه طيلة الفترة السابقة لم تحصل مواجهة او قصف من جانب داعش على القوات الحكومية السورية او بالعكس . وهذا يوضح مدى اختلاط الاوراق وتشابك الخنادق والاصطفافات ؛ فبينما تتحالف حكومة المالكي مع نظام الاسد في سوريا وتمده بالميليشيات التي تقاتل الى جانبه وتسهل وصول الاسلحة الايرانية له ، فان نظام الاسد  يهادن  داعش التي تقاتل حكومة المالكي والعراقيين من دون استثناء .وبالطبع يتجه هذا التشابك الان للتغيير ، إذ انه ولأول مرة قام الطيران الحربي السوري بقصف المناطق التي تسيطر عليها  داعش في سوريا  بعد سيطرتها على الموصل وبعض مناطق صلاح الدين .

وحقيقة ان التداخل في الخنادق في سوريا امتد  لعلاقة الحكومة التركية بداعش حسب بعض التقارير و التصريحات ومنها تأكيد النائب عن حزب الشعب الجمهوري رفيق أريلماز وقوله  أن  بعض الأسلحة التي يملكها ما يسمى تنظيم /دولة الإسلام في العراق والشام/ هي أسلحة أرسلتها حكومة حزب العدالة والتنمية  .

 في حين أشار نائب  أخر عن حزب الشعب الجمهوري التركي محمد علي أديب أوغلو أن تنظيم داعش على  علاقة وثيقة بحكومة حزب العدالة والتنمية حيث يقوم ببيعها النفط الذي يسرقه من سوريا  . ويحصل هذا في الوقت الذي قامت فيه عناصر داعش في اليوم التالي من احكام سيطرتها على الموصل بمهاجمة القنصلية التركية واحتجار موظفيها ، كما خطفت عدد من سائقي الشاحنات التركية ( من المواطنين الاتراك ) المتواجدين في الموصل .

على اي حال ، ان تطورات المشهد في المستقبل يمكن ان تضفي المزيد من التداخلات والتعقيدات المستقبلية ، فالان يجري الحديث عن تفاهمات وتعاون بين ايران وامريكا بشأن مواجهة داعش في العراق ، كما يجري الحديث عن أن السلطات الكردية استثمرت تمدد داعش واتجهت لتأسس الدولة الكردية المستقلة .