سعدي يوسف من الغربة إلى الغربة
تخطيط القصيدة يخلق إنسجام المؤثرات
علوان السلمان
بغداد
بدءا نقول:
بين بياض الشعر..
ورمش العين..
وتلك الشفة العليا..
ونبض الشفة السفلى
ناب فضى حاورنى..
كان قصيدة…
أما أراغون فيقول (يستطيعون أن ينتزعوا عني الحياة..لكنهم لن يطفئوا غنائي)..
وروجيه غارودي يقول (الفنان مطالب لا بالاكتفاء بتفسير العالم ولكن بالمشاركة في تغييره)..
والمبدع يبدأ إبداعه حين يكون لديه أيمان بأن ألجمال هو الحقيقة المطلقة التي يبحث عنها دون الاعتزال عن هموم الإنسان.. لأن هم الشاعر يكمن في معاناته المستمرة من أجل الخلق فهو يحلم من أجل بناء مملكته الأفلاطونية عبر العذابات والآلام والتأمل المستمر المتعلق طرفه بحبال التوتر.. لأن العملية الإبداعية تجعل الشاعر قلقا غير مقتنع بما يصل إليه.. لذا فهو يطمح إلى ما هو أكثر إبداعا وتكاملا.. لأنه يسعى لإنهاء نقص العالم نتيجة إحساسه بفظاعة الواقع وشدة وطأته على النفس.. ونتيجة هذا الإحساس يختل توازن (الأنا) لدى الشاعر وكلما اشتد اختلالها تصبح الصورة أكثر قابلية لاكتساب دلالات جديدة من خلال التأملات التي هو هدفها..
يقول بيكاسو (إن الإبداع يبدأ بالتأمل) فالشاعر بتأمله وبحثه المستمر من أجل أن تكون قصيدته اكتشافا مستمرا يجب أن يكون ضمن حركة العصر والإنسان والواقع فهو يربط تداعياته ورؤاه مع الحسي والمتخيل..
حالة توازن
والإبداع الأدبي هو تعويض عن الغربة من أجل أيجاد حالة التوازن لدى المبدع المغترب بينه وبين العالم المحيط به.. وهو برغم غربته (الداخلية أو الخارجية) يظل يحس الوطن متجددا بوعيه وإدراكه..
لم تضع أو تضيع .. فأنت الحقيقة
منثورة من التراب
الذي نتنفس أو نجتلي .. أنت، عبر العراق المسافة..
تاريخه القرمزي وأطفاله القادمون
أنه صوت الشاعر سعدي يوسف الممثل ألأول للرعيل الثاني المتمثل بالبياتى والنواب ولميعة عباس عمارة والذي سبقه رعيل السياب والبريكان وبلند الحيدري وحسين مردان ونازك الملائكة..
قدم نفسه لإثبات وجوده بالتصاقه بالوطن والإنسان عبر منظور غير ساكن للكلمة الشعرية فهو شاعر ذو حضور واع لفنه الشعري.. فالشعر عنده امتداد مدروس لمعطيات الزمن وصراعاته.. وهو يرى أنه لا يمكن بناء قصيدة على أساس مقطوع الصلة عن الماضي المليء بالتراث.. لذا فهو يحقق لذاته التواجد الدائم والمستمر بالانسجام مع الجمالي والجماعي بمجاميعه الشعرية (أغنيات ليس للآخرين) و(51 قصيدة) و(النجم والرماد) و(قصائد مرئية) و(بعيدا عن السماء الأولى) و(نهايات الشمال الأفريقي) و(الأخضر بن يوسف ومشاغله) و(تحت جدارية فائق حسن) و(الليالي كلها) و(الساعة الأخيرة).. وقد طبعت هذه الأعمال في كتاب واحد (الأعمال الشعرية من 1952 – 1977) والتي اتخذناها مصدرا لدراستنا هذه..
ومن متابعة هذه الأعمال نجد أن شعر سعدي تميز بخصوصية التعبير فهو ذو إيقاع داخلي منسجم مع الإيقاع الخارجي والصورة الشعرية عنده موقف يطرح فكرا مع تلوين مناخاته الشعرية بالطبيعة (الريف.. والنخيل والقرية.. والبحر..الخ)..
إننا في ليل حمدان نقول:
ثم إذ نام النخيل
عندما تشرق في قرية حمدان النجوم
تطفأ الأكواخ والمسجد والبيت القديم
انه النوم الطويل..
تحت همس السعف الشاحب.. الموت الطويل..
إنها حمدان سل ونخيل
نحن لا نسمع في حمدان إلا ما نقول:
ليلنا والنخل والحلفاء والنهر القديم
إن لغة الشاعر لغة تمتاز ببساطتها المعمقة التي تنتمي إلى (السهل الممتنع) وفي قصائده مزج نثري لتعميق الواقع في ذهن القارئ..
شربت الماء الأسود في ظلال التوت..
لامست التماع الطحلب النهري والأسماك
حدقت به عشرين عاما
يا مياها لم أجد وجهي عليها..
بالإضافة إلى استخدام الغنائي العامي والوسيط من اللهجة واللغة..
لن يذكروا يا طفل عبد الله.. أغنية سخية
كنا نغنيها معا (للناصرية تعطش وشربك ماي..
للناصرية)
وقوله:
يوم انتهينا إلى السجن الذي ما انتهى..
وصيت نفسي وقلت المنتهى ما انتهى..
يا واصل الأهل خبرهم و قل ما انتهى..
الليل بتنا هنا و الصبــح في بغـــــداد..
لذا فسعدي يخطط لقصيدته كي يسجل حضوره المنسجم مع تنامي المؤثرات النفسية والحسية والثقافية في مجمل لغته وتعبيره..
انه يفكر بصمت ثم يميل إلى وعي عبر استلهام أبعاد الممكن للواقع الحي لذا فقصائده مشبعة بتأثيراتها الغنائية على نفسية المتلقي لأنها قريبة من وجدانه وإرادته وأفكاره وهو يعتبر الكلمة وسيطا بينه وبين الإنسان والزمن والواقع والحلم.. لذا ظل حضوره الواعي داخل الوطن.. والإنسان.. حتى وإن كان بعيداً فهو يخاطب الذاكرة بتقنية تتخطى القوالب المكررة لدى البعض..
حين أدركت إن الصباح ما يزال بعيدا
وان على الأرض أن تبتدي
كنت اقرب أن تبتدئ..
إن قصائد روح السياب نحس طعمها ورائحتها في شعر سعدي واضحة المعالم و مرد ذلك كونهما ابني قريتين متجاورتين في أبي الخصيب وعاشا معا في صباهما لذا فمناخ محيطهما واحد.. يقول الشاعر (علاقتي بالسياب علاقة شخصية قوية فنحن من قريتين متجاورتين وكانت علاقتي به مثمرة جدا فانا تعلمت منه كثيرا وكنت اعرض عليه عددا من قصائدي وكان يكتب لي ملاحظات ساعدتني في مسيرتي الشعرية..)
إذ ولد سعدي يوسف في قرية بابي الخصيب سنة 1934 وبدأت محاولاته الشعرية الأولى عام 1948..
وفي قصائده تنطلق الذات من الحفاظ على التراث وفي نفس الوقت لا يعني هذا الاقتصار عليه بل يمتد إلى الحاضر بخلق صورة المستقبل المثال لذا فهو يمزج الذات بالوجود وبالموضوع ويعطي وحدة متراصة يضئ المعرفة وكل ما يتعلق بعالمه من اجل التغيير..
فلتفتح أبواب الخشب الصحراوية
أبواب الأكواخ والقصدير
وأبواب الكتب الممنوعة في غرفات القرويين
لنفتح باب الموت.. وباب الصمت..
وأبواب القصر الملكي
لننسفها بالحجر الطالع من أشجار
لنبن العالم أجمل.. أجمل.. أجمل..
معروف إن الشعر الحقيقي هو الذي يدخل القلب دون جواز سفر والذي يولد وسط المعاناة الفردية وصدقها لغرض تحقيق عنصر التأثير في ذاكرة المتلقي والتفاعل معها وان صلة الشاعر بالتراث والواقع وثيقة كثيرا ما استلهم مداركه وجوهره في شعره وقد وظفه أداة رمزية وأداة خصب لإغناء التجربة الشعرية وتوسيع مدارك خياله و رفع مستوى التفتح الوجداني إلى مجالات واسعة تعطي اللفظة أبعادها النفسية الجمالية المؤثرة وتجعل الشعر طيعاً ومنسجما مع عصر الشاعر ومرحلته إذ إن الشاعر عاش في بيئة ريفية واقعها الشعبي يعتمد مادة أساسية في بناء وتهذيب الشخصية لإثبات انتمائها إلى وسطها الاجتماعي لذا فسعدي واحد من أكثر الشعراء معرفة بالفلكلور وقد وظفه في قصائده كثيرا لكنه لا يقحم هذه المعرفة إقحاما في شعره بيد انه يستخدمه كعنصر أساسي من عناصر بناء القصيدة مما يعطي هذه القصائد طعما ورائحة شعبية..
سلمان عبد الله يا قمر الدواسر يتبعونك
بنادق متأرجحات
أبدا ورائك يركضون
فعيونهم تخشى عيونك
لكنهم قد يقتلونك
لقد لجأ الشاعر إلى الرفض عندما لا يتبين أمامه حل لمشاكل الواقع المحيط به وقد يحيل ذلك الواقع إلى ذكرى أو ماض ويتوجه بكل مشاعره نحو واقع كامن في المجهول الآتي..
فتنمو الصورة عنده تحت وهج العذاب و الغربة حين يضطر إلى الاغتراب والهجرة حاملا معه هم وطنه وموروثه الإنساني والثقافي والذي يتلاقح هناك مع ثقافات الشعوب ويكون الإبداع والتواصل إذ أن بعد الشاعر لا يعني تخلية عن وطنه بل هو موجود بداخله على مستوى الواقع والتاريخ والحلم والمستقبل يلوح لنا في قصائد الشاعر ملجأه الوحيد آخر المطاف فالغربة هي غربة الشاعر في عالم لا يعترف بقيمة الإنسان..
والشعر والإبداع في مجالاته المختلفة والشاعر في غربته يبني مدينته المثال في ظل موطنه الثاني الشعر.. فالقصيدة عنده مشبعة بتأثيرها النفسي على المتلقي لأنها قريبة من وجدانه ومشاعره وأحاسيسه.. لذا فهي تضيف وعي الشاعر إلى وعي المتلقي.. فهما متقابلان دائماً بحضور القصيدة التي تشبعت بتصوير المعاناة.. وهذا يعطي الشعر نفساً عالمياً بانفتاحه وشموليته الإنسانية مع الاحتفاظ بواقعيته وخصوصيته..
ودعته أمس.. وكان العراق
في وجهه المتعب
يا ايها العابر ليل الفراق
أخاف أن تذهب
وفي الغربة يستمر الإبداع الشعري متدفقا أملا ولوعة لأنه تعويض عنها من اجل إيجاد حالة توازن بينه والعالم المحيط به وهو رغم الغربة يظل يحس الوطن الآتي متجددا بوعيه وإدراكه لقد استطاع سعدي يوسف أن يتفنن في التقاط زمن الغربة وجزئياته والتعبير عنه وقد سجل حضوره الدائم رغم بعده داخل الأزمنة والوطن وصدى الغربة يتجلى عند سعدي في الكثير من قصائده..
غريب أنت في الأرض التي تمتد بين جداول البصرة..
وأسوار الرباط..
رايتها غصنا فغصنا..
صخرة صخرة..
لقد استطاع سعدي يوسف أن يخترق حزنه ليرسم الحب المتألق عبر مناخاته المختلفة.. فهو يقول..
كان بين العراق وبيني رمل الجزيرة..
قلت انتهيت..
ولكني حين فتحت عيني.. أبصرت عينيك..
سعدي يوسف شاعر مغترب عن مضمونه الشعري ورؤيته الفنية وفي شعره يقول.. ادونيس (شعره شعر سفر دائم في الداخل والخارج من اجل استحضار عالم جديد ما يزال عصيا على الحضور) فاغترابه إبداعي حتى انه لا يكتفي به ليكون وحده جسرا يوصله للعالم إذ لا بد من ملاحظة الاغتراب الاجتماعي المرتبط به جدلا والجسدي المرتبط بالاجتماعي وهذا يعني إن تجربة الاغتراب التي مر بها سعدي قد أكسبته خبرة وأتاحت له النظرة إلى تجربته الشعرية عن بعد نظر..
فغربته غنية بالتجارب و الشعر ففيها يحس الأرض غريبة تزخر تحت وطأة أقدام الطغاة والعالم كله غربة..
بلادي لست اعرفها..
ولست أرى لها وجها..
والشاعر عرف في هذا البحث المستمر عن بلاده في خارطة الوجود يسير مع الجمع الباحث أيضا عنها لكنه بغربته يحس إن خطوته وحيدة منفردة عن الآخرين (أسير مع الجميع وخطوتي وحيدة)..
لقد كان سعدي يوسف مثلما (الأخضر بن يوسف) الرجل الذي يقاسم الشاعر شقته وقهوته وحتى خزانة ملابسه ولكنه حين يحقد يرفض كل شاعر دفعة واحدة ويشغل نفسه بأي عمل انه كان كالأخضر له مشاغله وطموحاته تتلخص في الخلق والإبداع والحياة.. خلق القصيدة التي تحمل همه والآخرين وحياة الإنسان التي ترفض اليأس حتى لحظة الموت.. فالموت عنده لم يكن عدميا بل طريقا سهلا إلى حياة اكبر (حياة الناس) فالموت عنده صمت لا غير (حتى ولو كان على حبل المشنقة المشاهد (فالحبل لم يترك على شفتيك إلا قطعتين من الرماد) لذا فالموت هو ليس موتا مخيفا بل هو موت شيق كتجربة يعيشها كل إنسان و يحلم بها إنها جهاده من اجل الحياة هذا الموت الذي هو ضد الحياة يصبح مساويا للحياة..
هكذا القتلى..
أحياء في الليل يستيقظون..
عيونهم مفتحة أبدا..
يمشون في الأزقة بين الناس يغنون.. رغم الأفواه المحشوة بالرصاص وحين يغادر الأخضر بن يوسف وطنه يستخدم اسم الشاعر ووجهه ويقدم جوازه لرجال الجوازات فيختمونه وهم يعلكون النبيذ الرديء..
(الأخضر بن يوسف هو سعدي يوسف الشاعر الذي نجا من مجزرة الطغاة بغربته..)
إن التجربة الشعرية الإبداعية عند سعدي يوسف مرسخة أعطت انضج ما أعطت ففيها تتحد اللغة بالفكرة والفكرة بالوعي والوعي بالواقع ويتحد المستقبل الذي هو تحد للذات والموضوع لذا يقول الشاعر في بنائه للقصيدة (إنني لست غير واع بما اصنع إنما العكس فانا كنت حقا شاعرا بفضل الله فانه لحق أيضا إني شاعر بفضل التقنية والجهد وبفضل كوني اعرف تماما ما هي القصيدة)..
أما ما قاله الشاعر احمد عبد المعطي حجازي بحق سعدي (سعدي يوسف صوت فريد لامع فيه خلاصة فن من سبقوه لغته صافية مختارة شجن مسمى إذا نفحك شممت ريح سعدي يوسف بل انه على كتفيه من غبار المعركة وأحزانها أكثر مما على فرسانها المعدودين) انه الصوت البصري الذي غطى الطرق.. انه العاشق لشعره أكثر من نفسه.. العاشق للناس أكثر من شعره..
كل الأغاني انتهت إلا أغاني النــــاس
و الصوت لو يشتري ما تشتريه الناس
عمدا نسيت الذي بيني وبين الناس
منهم أنا مثلهم والصوت منهم عاد.