تجليات الرحيل والعودة – فاروق سلوم

خيمياء الحنين العراقي

  تجليات الرحيل والعودة – فاروق سلوم

1

” قد يكون الغريب صديقا لم تتعرف اليه بعد ” ذلك هو تقريب مفضل لقبول الغريب القادم الى المدن البعيدة ، على امتداد قوس دول اللجوء والهجرات والمنافي ,  ذلك ان الأغتراب ذلك ان الأغتراب مهما كان اختيارا او طريقا قسريا فأنه ترحال بين عواصف الثلج ،وبرد الغابات والسفرالمجهول بين المسافات اللانهائية والدروب المعتمة والجبال  العصية ، والمدن الحجرية الغريبة حيث تصيح وليس سوى الصدى ، وحيث يختبرك الموت او يقترب منك مرات عديدة وانت لاتعلم اين سيكون مثواك او نهايتك .

 تلك هي حقيقة الأغتراب ” حيث تصعب الحياة وتشعرك كم انت عاجز ووحيد ، وحيث تجرب كيف تعيش مقطوعا ووحيدا بالقليل من كل شيء ؛ الماء والطعام  بينما تهددك العواصف والثلوج والرياح ولكن لا احد يقترب منك او يمد يدا لغريب .

في هذه القدرية تنمو ” النوستالجيا ” وتأخذك موجات “الحنين” الدائم الى صور حياتك وذكريات ايامك فتستعيد وتحلم .. ولكنك بعيد ومنفرد يعصف بك الحنين كلما جربت طاقة التحدي لديك لتكتشف ضعفك وحاجتك الى احد! . و”النوستالجيا” في كل القواميس والنصوص والألسن هي “الحنين” الى الماضي ، وهي جمرة الكآبة في الغربات حين يتنسم الغريب عطرا او يسمع صوتا او يتذوق طعاما فيتذكر بيتا واهلا ومذاقا ومزاجا وشمسا وحياة يفتقدها في المدن الغريبة كل يوم  .

الخيمياء

وفي اختيار”الخيمياء” فأنها تتمثل في اختلاف الرأي بين ان يكون “علما” او “منهجا” فلسفيا ، فأن كان علما فأن رواده قد مزجوا الكيمياء بالعلوم المختلفة من اجل بلوغ الكمال في الحياة الأرضية عبر تحويل المعادن الرخيصة الى ذهب ، والوصول الى تصنيع اكسير الحياة للبشر من اجل الخلود والصحة وقوة البقاء .وهنا اتساءل هل اثارت رحلة ” جلجامش” في البحث عن زهرة الخلود خيال رواد الخيمياء في بلاد الأغريق واوربا والشرق ليسعوا الى بلوغ ذلك الكمال الأرضي !.

اما الخيمياء ؛المنهج الفلسفي فيزهر فيه معنى الجوهر والجمال والكمال كأهداف سامية  في الحياة ، حيث ينتهج الخيميائيون اعتماد عناصر الأرض الأربعة  ” الهواء والماء والناروالتراب”  اضافة الى عناصر اخرى ضرورية مثل ” الملح والزئبق والكبريت” لبلوغ الحياة الخالدة السليمة من كل داء بأكتشاف اكسير الحياة وجوهرها الجميل الباقي .

2

قبل كل هجرة ٍ كان قوس الرصاص والتهديد والفوضى يؤطر حياتك . كانت معجزة “الكلاشنكوف” تبتكر لك كوابيس ايامك بأقواس الرصاص الليلي ، وكانت التفجيرات المدبرة ، بملاحقتها العجيبة تسمي مدينتك بأسماء الفناء وتردد اسماء من فقدوا وسط ذلك الكابوس الرهيب الذي اجتاح المدينة حيث لاصديق ولاجار ولااحد يستطيع ان يمنحك عزاء في كلمة تطمين او عبارة مؤازرة  ممكنة ، وكان كل يفكر كيف ينجو بملامحه الشاحبة ووجدانه المشتت بين عواطف شتى .

 وهكذا اخترت كل طريق لتعبر نحو ما تسميه المنافي ، لمجرد ان تعطي انطباعا لأختيارك الحر، وهو ليس اختيارا حرا . لقد كان الثلج والعصف والبرد القاسي و الوحدة القاسية اطار الصورة التي تعيشها في غربتك ، حيث لااحد! لقد كنت احاول ان امزج ذلك الحنين الذي يغمرني طوال الوقت ، بكل جمال ممكن بقي معي بعد رحلة العذاب ، ان كان ذلك الجمال الممكن في الذكرى او العبارة او في الشعر والتصوير، ومثلها كنت افعل في دورة تعلم اللغة الغريبة والتدريب على العمل والموسيقى والرسم والرياضة لكي لا يتسلل الوهن الى جسدك المنفي وسط عواصف الشمال البارد.

كان الوطن يحاصرك في صور شتى .. في النشرة الجوية والأخبار الصباحية  التي تبتكر لك لوعة عراقية خاصة منذ الفجر وانت تستمع عن بعد الاف الكيلومترات الى اصوات الأنفجارات والتهديد وموجة الأرهاب الدموية واخبار الموت في الأذاعات العربية القليلة ؛مونت كارلو و بي بي سي عربي وكأن مهرجانا لقدرية الموت والمحو لأهلك وبلادك يقام كل يوم . سيظل هاجسك في كيف تظل متماسكا ازاء ذلك التهديد الذي يكتب قدرية البلاد واهلها وتهديد الغربة بكل مجهولاتها واختباراتها. لقد كنت افعل الكثير من اجل ابتكار مطاولة العيش بين مجهولات الغربة  وكوابيس الوطن الذي يحاصره العنف والموت لمجرد ان ابتكرت مفردات الفناء والمحو. واذ سعيت لهذا التدوين للذاكرة والحنو والشوق ان  اسميت تلك العملية “خيميائي “التي اردت فيها ان اخفف احساسي بالوحدة والأغتراب بألأنشغال بجمع كل منجزات العقل والخيال والعلوم والفنون لأضفيها على ذلك الحنو الى البلاد  الذي بقي يعذبني طوال قرابة عقدين من سنوات الغربة . لقد اعتبرت ذلك المزيج العجيب من المفردات والأفكار والعناصر والوسائل الممكنة بحيث اسميت ما انتجه هوخيميائي الخاص الذي حاولت فيه تحويل معدن الحنين الداخلي في مداهمته لحياتي ليصبح غنىً وسموا ورقيا في فن المطاولة والبقاء والحلم بالعودة .

3

في ليالي الأغتراب الطويلة كانت ” بودل لودربيري ” المذيعة الليلية للبرنامج الثاني المتخصص بالموسيقى الكلاسيكية  في الراديوالسويدي ،  تشرح لي كل ليلة و طوال سنوات من السهر معنى اسماء السيمفونيات ودوافع المؤلفين من كبار الموسيقيين لتأليف سمفونياتهم ، وتحول تلك الليالي الى متعة من المعرفة الموسيقية .. ولكنها معرفة مشوبة بالحنين الى موسيقاك التي نشأت على مقاماتها .

وحين بلغت المذيعة اسن التقاعد عام 2013 افتقدت كيمياء الكلاسيك في تركيبة خيمياء الجمال والكمال والحنين العارم .

 ولذلك كان مجلس الثلاثاء الثقافي الذي اخترته ليجمعنا ولو مرةً واحدة كل اسبوع في المكتبة الملكية السويدية في مدينة فيستروس محاولة  لجمع الكلمة والروح النهرينيين ويحميهما من التبدد في تلك الغربات ، وبكل اسف كانت سنوات النار والرماد توزع بأنتظام وجبات الفرقة والشك والأرتياب بحيث بدت كلمات التسامح والأقتراب والمحبة مطبات وخنادق ونهايات حمقاء لكل محاولة للحوار والحلم والأمل لبقائنا معا في ذلك الصقيع عنوانا لوحدة الشعب ومستقبل البلاد . لقد حفرت المناطقية والمحاصصة والريبة والتحزب الديني والسياسي في تلك السنوات المبكرة بعد عام 2003 وعمقت الهوة بين من اجتمعوا ليقولوا كلمة حق بوطنهم واهليهم وهويتهم النهرينية. كانت سموم الفرقة والعنف والأقتتال والتيارات المريبة تمنع اية فكرة بريئة لأستمرار ا للقاء كل ثلاثاء ، بينما كان ممكنا ان تبددك الشكوك وعدم الثقة والريبة بالآخر حول اية فكرة تحمي المكونات والأقليات والمجموعات السكانية العراقية بالشكل الذي يمنح اطمئنانا بأننا سنكون دائما معا ، وكلما كنت اشرح ذلك لبعض من يتصل او يسأل ويستفسر من داخل البلاد كان الأستغراب يأتي بهيئة سؤال ” حتى في المهاجر انتم ممزقون .. ويسود الصمت وينتهي الحوار او المكالمة بخيبة متبادلة غير معلنة .

4

اكتشفنا مع الوقت ان محنة الوطن تكمن في الثقة وفي تبادل القدرة على خلق تلك الثقة بعد تجاوز خطابات الفرقة والمحاصصة والأحتراب والأرهاب . واكتشفنا ان محنتنا هو اننا في هجراتنا ومنافينا صرنا مرايا تعكس تشتتنا في الداخل وتكرّس تشتتنا في الغربات بينما نحن افتقدنا حسنا في النظر الى الغد بطريقة تقوم على معطيات الفكر والتعدد والتعايش التي نشاهدها هنا لبلوغ صورة البلاد في المستقبل مهما بلغت التحديات.

كان الفن والشعر وانواع الكتابة في الغربات تقدم في تجارب فردية او عبر جمعيات اجتماعية خاصة ، وكانت الموسيقى تقدم بحذر وتجمع حضورا نوعيا للبكاء على الكلمات وموسيقى الأغاني . وكانت الندوات تقدمها جمعيات اثنية او قومية تمثل مكونات المهاجرين

وتستعيد افكارا هي اقرب للحنين منها الى الثقافة او المعرفة. وبرغم ذلك ، كنا نواصل نوعا من العاطفة في الفن والشعر والندوات بحضور نوعي قليل من المهاجرين ممن يريدون ان يتشبثوا بأستنتاجاتهم ان هذه الثنائية واللقاءات القليلة الحضور ماهي الاّ شمعة امل تضيء الأمل المقبل ليعود الوطن الى طبيعة الناس والفتهم النهرينية وتقاربهم وتصاهرهم ومحبتهم الرافدينية التي لاتبددها اية عاطفة مضادة او عدوانية او استهداف . وهكذا ابتكرت خيميائية الحنين عناصر اللقاء والتوحد والمحبة والعودة .

مشاركة