تاريخ قضاء الصويرة – الجزء الأول – جزيرة سلندي 7

تاريخ قضاء الصويرة – الجزء الأول – جزيرة سلندي 7

تبادل السلع مبدأ العمل التجاري والأصواف والدهون أبرز منتجات التداول

عبد الرضا اللامي

الكوت

إن العملية الزراعية في عموم مناطق الصيرة، تعتمد على الجهد الفردي الذي يبذله الفلاح، وكان هذا الكائن، لبؤسه، يؤوساً قنوطاً. لأنه يعرف نتائج الحصاد وما مقدار حصته من المنتوج سلفاً.

تأسيساً على تلك الأوضاع العقيمة، كان الفلاح غير مبدع لعدم توفر أسباب الإبداع وإن ما يستهلكه من السعرات الحرارية لا يتناسب مع الجهد الذي يبذله في الانتاج المطلوب. لذلك تجد الاقطاعي والمُلاّك يستخدمون أكبر عدد من الفلاحين الى جانب الحيوان لترصين المردود الانتاجي.

 ب- الفلاحون: إن أغلبية سكان منطقة الصيرة، نعني بهم سكان قصبة الصيرة المدينة والارياف والقرى. مع ناحية الزبيدية، والعزيزية، والحفرية، وكل المناطق التابعة لها آنذاك، زُرّاع يفلحون الارض، أو لهم صلة بهم بشكل أو بآخر، لذا تعتبر الطبقة العاملة الزراعية السائدة في الصيرة، معظم مكوناتها من الفلاحين. والسبب يعود برأينا الى أن المنطقة مهيأة للزراعة، أو هي عبارة عن أراض واسعة معظمها خصب مع توافر الموارد المائية لها.

والسبب الاخر هو عدم وجود حِرَف أو مهن أخرى بكثرة، أو أشخاص كُثُر لممارسة تلك المهن والحرف ليتوالدوا ويتوارثوا حِرَف السلف.

كان الفلاح في منطقة الصيرة، كأخيه في سائر مناطق العراق مُسَخَّر وليس له حق الاختيار، إنه في عِـيشةٍ مزرية.

 وقد ظل رهينة الاساليب الزراعية البدائية المتوارثة التي يشكلها محراث الخشب الذي يعجز عن شق أثلاماً عميقة في التربة، الأمر الذي يضطره الى إعادة الحراثة مرات ومرات، كما انه يستخدم المنجل كأداة للحصاد، وهي آلية بطيئة متعبة. وكذلك يدرس المحصود (اي دوس الحاصل) عن طريق ربط حيوانات مثل الحمير أو البقر بوتد وسط البيدر لتدور حول نفسها عليه، مرات وكرات، كي تتفتت السنابل وتصبح (دريخاً).

ثم يذرى الكدس بواسطة (الرفش) ذو الاصابع، أي المذراة، وللرياح عزل القش (التبن) عن الحبوب، وتلك طريقة هي الأُخرى ترتب ضائعات في المنتوج وقلة في الناتج النهائي.

فالفلاح بتعريف مهذب، (هو العامل الذي يشتغل في أرض الشيخ أو الملاك بأجر عيني، ومدة بقائه منوطة برضائهما، غير أنه في حقيقية واقعه منقوص الحقوق بل ومملوك للإقطاعي يتصرف به كيفما يشاء، إذ أنه تابع كما الارض لهما فلا يتحرك الا بأمر من سيده).

ومن جانب آخر، وحيث أن الزراعة في منطقة الصيرة تعتمد على زراعة الحبوب (الحنطة، الشعير، الدخن… الخ) ولا أحد يمارس زراعة الخضروات الا بشكل محدود، كون مزاولة زراعة الخُضَر تلحق بزارعها عيوباً اجتماعية، فهي مرذولة في تلك الفترة.

وعلى ذلك انحصر جهد الفلاح بالزراعة الموسمية، وأغلبها شتوية، فكما لو ان الفلاح وضع في قالب محدد، فقيد عقله وبات نهباً للفقر و المرض جسديا ونفسيا وكانت القاعدة المادية لآلامه، سوء معاملة مالكي الارض، فهو في نظرهم جزءاً من ملحقات الأرض، في حين انه السبب الأكيد لثرائهم وطغيانهم.

إن ارتباط العمل الزراعي بنوعية التربة، ومصادر الري، والتعلق بأسباب الامطار، وترادف سوء الأحوال الجوية، كانحباس الأمطار، وعدم وجود الآلات المتطورة وانعدام مواد المكافحة للأمراض، وآفات الزراعة، والتسميد، كل ذلك أدى الى معاناة لازمت الفلاح طيلة حياته.

 فطبقة الفلاحين وهي الأغلبية الساحقة، مسحوقة بشكل منظم، ولا أحد يلتفت اليها لينتشلها من مهاويها.

كما نجد الفلاح الذي يزاول العمل الفردي في الزراعة، على بقعة بعيدة عن مكامن المياه، في حالة ليست أكثر رفاءً من سواها، لأنه يضطر الى أخذ السلف واستجداء وسائل وأدوات العمل والبذور، إن ذلك يؤدي الى وضع معصميه في قيد الدائن قبل الحصاد.

إن استثمار الارض زراعياً يبقى مشروطاً بالجهد البشري، فكيف الحال وفي تلك الفترة لا تتوافر البدائل ولا الوسائل، بل هي محصورة بجهد فردي يبذله الفلاح ويسنده الحيوان فقط. تأسيساً على ذلك يعمد الاقطاعي الى امتصاص آخر جهد من جسد الفلاح الناحل.

عليه نرى، ان الفلاح كان في تلك الفترة هو المُقَوِّم للخصائص الذاتية للزراعة، الى جنب تشكل خصائص الانتاج، ” إن الخصائص الاجتماعية والملكية الزراعية والخصائص التنظيمية الفنية، تمثل الدور الاقتصادي الذي تمثله الزراعة في الاقتصاد المحلي “.

 عندما نشير الى الفلاح، نعني محاولة الكشف لمعرفة كمية الجهد الذي يبذله الانسان في عملية الانتاج الزراعي. ذلك الجهد الانساني يعني تهيئة التربة الى البذار ومن ثم الحصاد ورعاية الحيوان والمحافظة على الانتاج. وعليه نجد ان ذلك الجهد يتمثل بكل ما تبذله العائلة الفلاحية، بنسائها واطفالها الى جنب الرجال، هؤلاء جميعاً، هم الايدي العاملة الزراعية، وأما دور هذه القوى العاملة فيرتبط بسعة الارض المزروعة.

ج – شخصية الفلاح:

إن توصيفنا لشخصية الفلاح في منطقة الصيرة، نرسم ملامحها من خلال فهمنا لمعاناته الثنائية، والمتمثلة من جانب بعدم ملكيته لقطعة أرض زراعية أو أية أداة من أدوات الانتاج، ومن جانب آخر تضوره من جور السلطة القابضة على زمام الأمور بشكل واقعي.

 فالحرمان المزمن الذي صار ثوباً لعمر الفلاح، أقعده عن التطلع للمستقبل، وأفقده الاحساس بالأمل، لأتساع الرقعة بين ما يريد وبين ما هو كائن، ضد رغباته. إن الكبت والحرمان وَلَّدا في نفسه القلق الدائم، والانكفاء والانطواء، لعلمه المسبق أن لا حول له ولا قول.

كما يترتب على هول تلك المعاناة، من الجانب الصحي الجسماني والاجتماعي والأخلاقي، ما يثقل همته، عليه فإنه ذو هَمٍّ يومي، من نقص الأغذية وما ينتج عنه من أعراض سوء التغذية التي تولد الحالة الصحية الأسوأ فيتردى في حقول الأمراض، فضلاً عن مراوحته في مستنقع الجهل لأمور الحياة المختلفة، لذا نجد الكثرة الغالبة من المرضى في صفوف الفلاحين، إذ يتعرضون للإصابة بالأمراض والأوبئة كالتراخوما والدزنتري والبول الدموي وسائر الأمراض الجلدية والسل.. الخ.

إزاء تلك الأوجاع لم ينتصر للفلاح مدافع أو مُعين، لا من بقية قطاعات الشعب ولا من رجال السياسة ولا من رجال الدين، فالسعرات الحرارية التي يتناولها الفلاح ليست بالمستوى الذي تُقَوِّم جسمه وتجعله قادراً على المقاومة والمناعة.

وإن طعامه اليومي خالٍ من المواد الحيوية أو ما يمكن أن تمده بالسعرات الحرارية. وانحطاط مستواه المعيشي متأتٍ من محدودية دخله، وَتَرَديه في مهاوي الجهل عَمَّقَ الهوة بينه وبين الحياة الصحية اللائقة به كانسان. لقد رافق الهزال أبدان الفلاحين، وإن مخالب المرض نهشت من أحضان عوائلهم العديد من الأطفال دون مستوى النضج. كما عَزَّزَ ترسانة الأمراض، انعدام السكن اللائق ببشرية الفلاح. إن كوخ القن لا يرد عنه قَرُ البرد ولا لفح الحر. وبقى يتلوى على تراب فسحة كوخه لافتقاره للأثاث البسيط أو الافرشة مهما كان نوعها. كما كان الأغلبية من الفلاحين مَن تقاسمه حيواناته السكن ذاته.

علماً كان يشرب الماء العكر، ويتناوله مباشرة من مصادره، كالترع، بل وحتى من ماء الضحاضيح، وإذا عطش وهو خارج بيته يضع على الماء في الترعة أو غيرها، طرف كوفيته أو ثوبه لكي لا يبتلع الحشرات وهو يشرب الماء. كان الفلاح في عموم منطقة الصيرة، والى أمَدٍ قريب، لا يستعمل الصابون ولا يملك مرافق صحية كالحمام أو المرحاض، ويتغوط في العراء، أو على حافات الانهار التي يشرب منها الماء إذا عطش.

ونجمل القول، إن شخصية الفلاح كانت ثنائية، هلامية، لا أبعاد تأثيرية لها على أرض المجتمع، وإن تأثيره في سير الاحداث، ليس أكثر من كونه منفذاً لما يصدر له من أوامر. وما تزال آثار تلك المعاناة منغرسة في تكوينه البنيوي، وتنعكس في سلوكه الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، إن تلك الآلام بنى عليها العديد من الفلاسفة نظرياتهم الثورية مثل (ماوتسي تونك) و (فانون) وسبقهم انبياء الديانات المختلفة بغية التطويح بالأنظمة الاقطاعية والمتخلفة، وما خلقته من أوضاع شاذة. لقد طُبِعَت شخصية الفلاح (بالثنائية) في سلوكه الاجتماعي، أي أنه يتبنى الشىء وضده في آن واحد، للأسباب التي مَرَّ ذكرها مجتمعة، وليس كما يدعي الدكتور (علي الوردي) عند تشخيصه لشخصية الفرد العراقي، في كتابه – دراسة في طبيعة المجتمع العراقي، 1965 – على أنه كسائر أفراد المجتمع العراقي، مصاب بمرض (الإزدواجية)، نتيجة للصراع الذي يعانيه من تصادم القيم البدوية المترسبة في أعماق نفسه والقيم الحضارية التي واجهته بعد استقراره في المدن، أي ما يسميه الوردي (صراع البداوة والحضارة). وهذا المصطلح ليس من عندياته بل من أفكار (ابن خلدون) المفكر العربي التونسي.

الإزدواجية: مرض سايكولوجي، يعني انفصام الشخصية، – أي الشيزوفرينيا -.

الثنائية: ظاهرة اجتماعية، تنمو نتيجة لتراكم عادات وتقاليد، وَتَـقَـيّـُدٍ بأنظمة تتعارض مع ما يجب أن يكون وما هو واقع فعلاً في الممارسات اليومية.

المبحث الثاني

الاوضاع الاقتصـادية

– المطلب الاول: سمات الاقتصاد الزراعي

– المطلب الثاني: الانتاج الزراعي والحيواني

المطلب الاول – سمات الاقتصاد الزراعي:

1- المدخل:

عند نشوء مدينة الصيرة، لم تكن هنالك فوارق اقتصادية حادة بين السكان كون معظم القادمين اليها من نسق اقتصادي متقارب، وقد هبطوا المنطقة لجس النبض ومعرفة مدى قدرة المنطقة على استيعابهم،وهل إن مقومات العيش بالمستوى المنشود. وعلى مر الأيام تصاعد العمل ونشطوا كل في مجال معرفته، حتى أمست ملامحهم الاقتصادية أكثر وضوحاً، خاصة بعد أن تملكوا،أو حاز بعضهم على أرض زراعية بشكل أو بآخر، واستغلوها هم وعوائلهم،والمتمكنون استأجروا عمالاً زراعيين قاموا بتلك المهام وظلوا هم في المدينة لمزاولة عمل آخر.

إن سكان الصيرة الذين بدأوا العيش بمستوى الكفاف، غمرتهم بعد حين النعمة ومنهم من فاضت وفرة النعمة على قياساته التي توقعها لمسيرته، غير أن الفقراء منهم، أي الذين لا يملكون رأسمالاً نقدياً أو عينياً، وليست لهم خبرة بمهنة أو حرفة، ظلوا يراوحون في مستنقع الجهل والحرمان والمرض، كما هو سابق عهدهم. وكذلك كان شأن الفلاحين في قرى وأرياف الصيرة، من المدائن الى النعمانية ومن جبلة الى بدرة، يتخبطون بين الحاجة والعوز لأنهم كانوا وما برحوا رهينة للانضباط الإقطاعي الذي استنزفهم، فانتفخ الاقطاعي وهزل الفلاح. وبعد تراكم الثروة بيد بعض المتنفذين الى جانب الاقطاعيين، برزت على سطح الاقتصاد المحلي ثلاث فئات اقتصادية تمثلت بمُلاّك الأرض الواسعة ومُلاّك الأرض المحدودة والفلاحين.

كما ان النظام الاقطاعي السائد تفاقم خطره، فشمل قاعدة عريضة من الفلاحين، إذ أحاطت سلطة الاحتلال العثماني ذلك النظام بتشريعات تَمَتَّع الاقطاعي من خلالها بسلطة اضطهاد وقمع شغيلة الأرض. ولم تكن رعاية الاحتلال للإقطاع لوجه الله بل لتمتين روابط التعاون بينه وبين بعض الشيوخ والملاكين الكبار لزيادة حجم الضرائب والمردود الاقتصادي من الزراعة الواسعة. وهكذا سيطر المحتل على كل مرافق الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. حتى ظهرت افرازات ذلك الواقع المتخلف على ملامح الفلاح، إذ كان منهوك القوى جاهلاً يتناهبه المرض والتخلف، وكان ذلك بائناً على ريف الصيرة بشكل أدق.

2 – أبرز سمات الوضع الاقتصادي:

لكل منطقة ظروف محددة، تتعلق بطبيعة مواردها الزراعية وكثافة سكانها، لأنها تشكل الشروط الضرورية لتنميتها الاقتصادية، لذلك واجه أهالي الصيرة صعوبات وعراقيل مختلفة وهم يسعون للارتقاء بمستوى إنتاجهم، لرفع مستوى معيشتهم.

وكثيراً ما تعسر الأمر عليهم، وقُيِّدَت الحركة الاقتصادية، بسبب تخلف أدوات الانتاج، وتخلف عملية طرق الاستثمار، لقلة الموارد الطبيعية ورؤوس الاموال ويمكننا إجمال معايير ومظاهر التخلف وكما يلي:

أ- هناك معايير كمية، يجب توافرها لتبيان وقياس التخلف، وهي معدومة بشكل جدي في المنطقة، لتخلف القائمين على عملية الاقتصاد، فهم يمارسونها بشكل بدائي ولا تخضع لأي ترشيد، بل همهم تمشية الامور للبقاء على قيد الحياة.

ب- انخفاض مستوى دخل الفرد وسوء توزيعه: إن هذا المستوى يعد من أبرز المعايير التي تؤشر درجة التطوير الاقتصادي لأي منطقة.

ج- هيمنة الزراعة على اقتصاديات الصيرة: إن القطاع الزراعي يحتل المكانة الواسعة في عموم العراق، وينعكس ذلك في مدى مساهمته في الانتاج القومي الإجمالي، وفي ارتفاع عدد العاملين فيه (الفلاحون) بالمقارنة مع عدد السكان الإجمالي.

وعلى الرغم من أهمية القطاع الزراعي، غير أنه يعاني من مشكلات حيوية جراء سيادة العلاقات الانتاجية المتخلفة، لأنها علاقات إقطاعية، فينتج عن هذه العلاقات تأثيرات سلبية في مقدمتها انخفاض مستوى الانتاجية قياساً بعدد الفلاحين وما يترتب على استخدام الادوات البدائية. كما تبرز من جانب آخر مشكلة الغذاء، بسبب هبوط نصيب الفرد من الانتاج قياساً بزيادة عدد السكان.

 وكان لتلك الأسباب وغيرها التأثير الفعال، على اقتصاديات الصيرة، والعمل التجاري فيها، إن جاز التعبير، هو ندرة رؤوس الاموال والموارد التمويلية فيها.

وقد جاء المنطقة من الحلة أحد كبار المزارعين المدعو (نور الدين باشا) ولما شاهد نهر البدعة قد غمرته الرواسب، جمع الفلاحين وأوعدهم بسلف مغرية، فقاموا بتطهير النهر، وفعلاً قام بتسليفهم (على الاَخَضَر) وابتنى له قلعة لسكنه فأحيا الزراعة مرة أخرى.

وهناك مؤثر آخر، هو انعدام المهارات والخبرات وانحطاط الاوضاع المعاشية والصحية والمعرفية. وعلى الرغم من كل تلك المثبطات تواصلت الحياة فاشتغل البعض بجلب الاخشاب وجذوع النخيل والحيوانات ومنتجاتها وبعض المحاصيل الزراعية مثل الحبوب، وقاموا بتصديرها الى جهات الطلب وكانت سوق بغداد مشجعة لهم، وَدَبَّ الحراك التجاري في مفاصل العمل اليومي إذ أخذوا يجلبون السلع الاستهلاكية والادوات المصنعة من بغداد وغيرها من المدن المجاورة.

3- حالــة الســوق:

كانت منطقة الصيرة ذات اقتصاد زراعي، إذ لم تشهد المنطقة آنذاك نشاطاً اقتصادياً بمساحة مميزة لفرع آخر غير السمة الطاغية للأنشطة الزراعية على مناشط الحياة كافة. أما ما كان من وجود بضعة دكاكين لبيع وتبادل بعض السلع، أو قيام البعض بجلب الاخشاب وجذوع النخل وبيعها محلياً، أو الى المدن القريبة منها أو بيع السلع المنزلية والحاجات البسيطة وتبادل السلع بالمنتجات الحيوانية والزراعية من قبل أشخاص يدورون على القرى وبضاعتهم على ظهور خيولهم، كل تلك المناشط لا تضفي صفة التجارة أو العمل الاقتصادي الكبير.

إن محدودية النشاط وعدم استقراره، أو دوامه واستمراره، ذلك ليس من صفات التجارة، إن التجارة مفهوم واسع يخضع لأصول وقواعد وقوانين اقتصادية تنظم التعامل في انشطتها، ولها عناوين لم يستوعبها سوق الصيرة آنذاك.عليه لا ضير من الإشارة الى كيفية قيام التعامل التجاري بين الافراد في داخل مدينة الصيرة، أو بينها وبين القرى والارياف، فأبناء العشائر هم الذين يُنَشِّطون المساعي لجلب السلع والمواد الضرورية لتداولها في سوق الصيرة، حتى شمل أسواق المدن المتاخمة للصيرة.

لذا كانت دكاكين الصيرة شبه متخصصة، فمنها من اختص ببيع الاقمشة وأخرى لشراء وبيع التمور والدبس واللبن أو لبيع السكر والشاي والتبغ والقهوة والنفط، ومنها ما اشتمل على أكثر من سلعة لا رابطة بينها، وتخصص البعض الآخر ببيع وشراء الحليب ومشتقاته (اللبن، الجبن، الدهن الحر… الخ) والريافة وتصنيع العقال والمسبحة. ومنهم، أي رجال سوق الصيرة المتمكنون مالياً، مَن طَوَّرَ عمله واشتبك مع عمل الفلاح، إذ قاموا بتسليف الفلاحين (على الأَخضر) لتمكين الفلاح من شراء البذور وتهيئة الارض للزراعة. ومن هذه المرحلة (التسليف) بدأت عملية استغلال الفلاحين وربطهم بعجلة ذوي اليسار المالي، عن طريق القروض والتسليف طويل الامد.

كما تَمَيَّزَ العمل التجاري في تلك الحقبة بأسلوب تبادل السلع، أي أن البائع يعطي الفلاح المواد الاستهلاكية أو أي حاجات أخرى ويعطيه الفلاح بدلها الحبوب والأصواف أو الدهن أو سائر المنتجات الحيوانية، وبمقدار يتفق عليه.

أما العملة التي بمقتضاها يتم البيع والشراء في سوق الصيرة، فكما في سائر أسواق العراق عملة معدنية وليست ورقية ومنها (الليرة العثمانية، وهي مسكوكة ذهبية وتعادل أربعة قروش) والى جانبها تداولوا (الشاهية، والمنكَنة، وقران ومجيدي وبيشلغ).

كانت الأسعار السائدة في البيع والشراء في أسواق الصيرَة تُحَدَّد في ضوء أسعار شراء السلع مضافاً اليها ربحية بسيطة، وعلى العموم فهي زهيدة ومتهاودة، خاصة أسعار السلع الاستهلاكية، وأغلب الظن يرجع السبب الى عدم شيوع استعمالها الذي ينتج محدودية الطلب عليها.

وقد استخدموا اثناء عمليات البيع والشراء، أدواتاً لتحديد كميات المواد التي تتطلبها عمليات البيع لِزِنَة الكمية، واعتبرت معايير متفق عليها في سائر مناطق العراق ومنها الصيرة، وقد اختفى معظمها وانقرض مثل (الحقة أو الأقة، وتعادل بمعيار اليوم كيلو غرام وربع) أما أدوات القياس المعتمدة في بيع الاقمشة فهي (الذراع أو الباع) ثم استخدموا (الياردة وتبعها المتر).

مشاركة