بين مكتبتين وطنيتين – نصوص – عبدالرزاق عبد الواحد

ذكرياتي 57

بين مكتبتين وطنيتين – نصوص – عبدالرزاق عبد الواحد

كنت رئيسا لتحرير مجلة الاقلام ، وكان منذر الجبوري سكرتيراً للتحرير .أرسلتني الوزارة موفداً إلى بلغاريا، وعندما عدت وجدت منذر الجبوري قد أصبح رئيساً للتحرير وعينت أنا سكرتيرا للتحرير معه   !

 وحضرت كما ذكرت هيئات تحرير المجلات إلى نادي التعارف مدعوة لسماع الجواهري ، وقدمت لهم البيرة لأن النادي لم تكن لديه الامكانية المادية لشراء ويسكي لكل هذه المجموعة .. فما كان من الجبوري إلاّ أن ثارت ثائرته ، واعتبر البيرة إهانة ، أو غبناً لهم بينما يقدم الويسكي للجواهري .

دخلت في اليوم الثاني إلى منبر المجلات فملأ سمعي الضحك العالي ، وصوت منذر الجبوري وهو يلقي قصيدة في هجائي وزنها هكذا :

     لا رعاكَ الاله يا ابنُ اللئامِ

وعندما دخلت طلبوا منه إعادة القصيدة على مسامعي فأعادها وهم يضحكون .

أوّل ما خلّص منذر قصيدته في هجائي قلت له وانا أضحك ، على وزنه وقافيته :

صار عمّي ، وكان أمسٍ غُلامي

                           فاخرطي يا مجلة الأقلامِ   !

وسمع الوزير  صديقي الحميم الاستاذ شفيق الكمالي بالأمر  فجاءني صديق لنا معاً وهو يقول (: تعال أبو خالد شوف الوزير .. كَلت : خير ؟ .. كَال تعال واسمع بنفسك .( عندما دخلت على الاستاذ شفيق  رحمه الله  قال : (عبد الرزاق إحجيلي الصدك . إنته كَلت : فاخرطي يا مجـــــــــــــــــــلة الأقلامِ ، لو يا وزارة الاعلامِ )؟؟  ! . وكان يضحك حدّ أن كاد يسقط من كرسيّه   !

بين مكتبتين وطنيتين

مُنحتُ درجة مستشار خاصة وعيّنت مديراً عاماً للمكتبة الوطنية. كانت المكتبة الوطنية العراقية قد أقيمت – للأسف – على أنقاض المبنى العام .. وكان فيها من آثار المكان السابق موظفة في حوالي الخمسين من عمرها ، تستقبل موظفات المكتبة كلّ صبح بنفس الألفاظ التي كانت تستعملها في محلّها السابق  !       كان موظف الاستقبال في المكتبة العامة العراقية تنكجي سيارات .. يعمل في تصليح السيارات التي كسّرتها الحوادث ولا أدري كيف جاء موظف استقبال في هذا المكان   !

كنت كلما أحضر صباحاً أجد طلاب الكليّات يجلسون في باب المكتبة ، ينتظرون أن تفتح الباب لأنها لا تفتح الا بعد بدء الدوام .. يدخنون السكائر ، ويرمون أعقابها في الساحة الأمامية التي أجدها ملأى بأعقاب السكائر كلما جئت الى الدوام صباحاً . طلبت من أحد الفراشين أن يأتي بمنفضة خشبية كبيرة من داخل المكتبة ويضعها أمام الطلاب لكي يلقوا أعقاب سكائرهم فيها .. في اليوم التالي جئت الى الدوام فوجدت أعقاب السكائر كلّها ملقاة على الأرض .. أما المنفضة فلم يلتفت اليها أحد . قلت محتمل أنهم لم ينتبهوا اليها ، فبدأت أنا المدير العام أجمع أعقاب السكائر وألقي بها في المنفضة .. وإذا بأحد الطلاب بينما كنت منحنياً أجمع أعقاب السكائر يلقي عقب سكارته أمامي لألتقطه وأضعه في المنفضة   !  جُنّ جنوني . أتيت اليه وطلبت منه هويته فأعطاني الهوية . قلت : أنت بعد اليوم لن تدخل هذا المكان .. وكنت أتحدث معه وأنا أرجف غضباً . كان الطالب في كلية الهندسة فكتبت كتاباً لعمادتها شرحت به ما فعل ، ومن يومها لم يجيء الطالب إلى المكتبة  !

 وجدت المكتبة الوطنية حين جئت اليها مثل سوق هرج.. ! يقف موظف ليكلّم صاحبه بأعلى صوته .. الدوام غير منتظم في كل أقسامها .. وليس فيها مختص واحد في المكتبات ما عدا موظفي الميكروفيش الذي كان يجيئان سكــــــــــــــــرانين كل صـــــــــــــباح متأخرين عن الدوام !

كانت ابنتي يوماً ما جالسة معي في المكتب وكانت ما تزال صغيرة وقدم الموظفان تعاونهما متأخرين وعلامات السكر ما تزال آثارها بادية عليها ، طلبت مدير الادارة وقلت له : خذ هذين الموظفين الى وكيل الوزارة وقل له إن المدير العام لا يريدهما في المكتبة . عندما خرج بهما مدير الادارة من غرفتي أنتبهت الى ابنتي .. كانت تنتحب ودموعها تغسل وجهها . (كَلتلهه بابا هاي الشغلة ما تصلح لا الج ولا أبوج ).. وناديت على مدير الادارة ليعيدهما الى قسمهما يفتحانه لأن دارسين كانوا ينتظرون  !   ملأتُ جدران المكتبة بلوحات توجيهية طلبت من أحد الموظفين أن يخطّها على ورق فايل ويعلقها على جدران المكتبة :

(للمكتبة حرمة الجامع ) ( للمكتبة حاجة المستشفى الى الهدوء والصمت) .. عشرات اللوحات ملأت بها جدران المكتبة الوطنية لينتبه اليها لا العاملون فيها فقط ، بل الدارسون فيها أيضاُ  !

 وسافرنا ايفادا  ذات يوم أنا والاستاذ محمد جميل شلش ، والاستاذ سامي مهدي ، والمرحوم عبد الجبار البصري الى فنلندا  .. وزرت المكتــــــبة الوطنية الفنلندية  !

    استقبلني مديرها العام وكان عنوانه الوظيفي (البرزدنت) والذي أعرفه أن هذه الكلمة نفسها تطلق على رئيس الدولة أيضاً  !

استقبلني ( البرزدنت ) استقبالاً جميلاً ، معتذراً عن بداية دخولنا أن قسم الاستقبال مازال قليل الكفاءة لأن فيه موظفاً واحداً يحمل شهادة الدكتوراه  ! !

 والباقيان ماجستير  ! .

 أما الكتب فكانت تصعد الى موظفي الفهرسة والتصنيف بمدرجات كهربائية لا يمسها أحد ، يضعها فيها موظفو الاستقبال .. وجميع أقسام المكتبة ملأى بموظفين يحملون شهادة الدكتوراه  ! .. وتذّكرت أن مكتبتي الوطنية العراقية ، وريثة مكتبة أشوربانيال ليس فيها سوى موظف واحد يحمل شهادة بكلوريوس مكتبات !

 وقسم الاستقبال فيه موظف واحد هو تنكجي سيارات   !  في فنلندا تُرجمت لي مجموعة شعرية ، وألقي عبد الجبار البصري  رحمه الله  كلمة عنّي أعلن فيها أني شاعر العراق الوطني فاحـــــــــتجّ علــــــــــيه سامي مهدي  !

                  ……

ماذا يعني أن يهجر الأطفال بيوتهم ومنهم الى بيوت نائية ، ومدن نائية هرباً من الموت .يا حكومة العراق ؟؟

أقسم أنني فوجئت مفاجأة شديدة عندما تلقيت نداءً تلفونيا من بنت احدى أعزّ معارفنا .. تلقيت النداء من كركوك وأعرف أنها تقيم في تكريت !

سألتها ، وهي طفلة ، عمو .. ماذا تفعلين هنا ؟ وكيف تركتِ عمتّك التي تقيمــــــــــين أنت وأختك الاخــرى معها ؟ كيف جئــــــتِ من تكريت الى كـــــــــــــــــركوك ، ولماذا  ؟  !

قالت (عمو .. ماكو مدارس ، ولا أكو دوائر ، ولا أكو أمان الواحد ما يدري شوكت يموت . قصف باستمرار .. وصواريخ باستمرار ، ولا طلعه ولا طبّه  !   (اتصلت بعمتّها .. قلت (إفتحي النت أريد أن أتحدث معكِ ).. قالت 🙁 آسفة .. ماكو كهرباء)  !

بقيت الطفلة تتصل بي تلفونياً .. ترسل رسائل في التلفون : (عمو .. ما نكَدر نجي لعمان ؟؟ .. أخذونه عندكم إحنه وماما الى أن يفرجها بس يهدأ الوضع نرجع   !)

   ينايم عن حزنْ بغداد     شوكِتْ من نومتكْ تصحهْ ؟

غِدَتْ بغداد كَوم حجارْ    صفحَه تهدّمْ بصفحَه

غدَتْ بغداد بيهه الليل       ما ينعرف من صُحبَه

وأهاليهه على الصّوبين   مذبوحين فد  ذّبحًه

يلتؤمر وتنهه هناك     عينكْ هلكثُر  وَكحَه ؟

شتحَكُم موخست وناسْ      دمهم ما بطل نضحَه

شتحكم يالحملت زناد       ما يجدح ولا جدحَه

جثثْ ، وركَاب مكَطوعه     وهموم مصبحَه ومرَوحه

وحنّه عيون كلهه دموع    بجت لمّن غدت مَلحَه

تطشّرنَه بّلاد الغير     كل واحد حَملُ جَرحَه

ينام عن حزنُ بغداد       شوكِتُ من نومتك تصحَه ؟

 …

     قصائد للأطفال

      الى امي

ماما ماما ما أحلاكِ

يفرحُ قلبي حينَ أراكِ

في الصُّبح على وَهَج النّور

أفتح عيني كالعصفور

فأرى وجهَكِ يستر حنيني

ويدا عيني ويناغيني

وجهكِ صافٍ رغم التّعب

يبتسم لي ولأختي وأبي

ماما ماما ما أحلاكِ

         ما أقسى الدنيا لولاكِ !

              …

           العصفور الحكيم

يوماً من الأيام   تكلّم العصفورْ

قال أنا أبن الشجراد

عالي .. أنا ابن النّور

أحبّ كالاطفالْ

الضّوءَ والظّلالْ

أحبُّ أن أطير

في عالمي الكبير

أفرشُ في سمائه

جناحي الصغير

عِشْ يا صديقي الطفل حُراً

طِرْ كما أطير

ولا تكنْ أسيرْ

                 ولا تكن أسيرْ  !