بين دهاليز الذات والقارئ

بين دهاليز الذات والقارئ
التوسير عارض ماركس بشأن دور الإنسان في التاريخ
حسين سرمك حسن
كرّر االدكتور عبد الحسين شعبان ــ وسمة التكرار من السمات السلبية الواضحة في حواراته الكثيرة في أكثر من حوار أجري معه الفقرة التالية أو قريبا منها في الصياغة، ولكن متطابقة معها في المضمون
يمكنني القول لا يمكن اختصار الماركسية بماركس، وينبغي قراءة الماركسية بمنهج جدلي، أي بمنهج ماركس لا بتعاليمه فتلك تصلح له ولعصره، وعلينا اكتشاف قوانيننا. كان ألتوسير يردد إن فهم التاريخ هو في قراءة الوعي بضده، وتلك أزمة المنهج التي يمكن بواسطته قراءة الواقع بضده، كما أن الفكر يُعرف بضده. واجب هو نعم. وهذا أمر لا يختلف فيه إثنان.
فماذا يقول ألتوسير؟
يقول ألتوسير لا توجد حتمية تاريخية ولا مادية، والتاريخ يسير وفق مبدأ التصادفية المادية ؤؤ
هكذا ينسف مركز المنهج الماركسي المادي الجدلي التاريخي.
لكن ما هي المادية التصادفية؟
إن لدى ألتوسير نظرية في هذا المجال عنوانها، هو المادية التصادفية aleatory materealism التي طرحها في سلسلة نصوص كتبها بين عامي 1982 و1986، غيّر فيها ما طرحه عن السببية البنيوية structural causality ، وهي النظرية التي طرحها في الستينات. وقد أكد ألتوسير من خلال نظريته الجديدة في التصادفية المادية على أن التاريخ يقوده عامل الصدفة .
وتشمل هذه النظرية إقالة ما يسميه ألتوسير مبدأ السببية the principale of reason ، أو فكرة أن الكون أو التاريخ له أصل أو نهاية. وأن تستبعد من هذا التقليد ليس فقط المشتبه بهم المعتادين في تقليد عقلاني، ولكن أيضا المادية الجدلية والميكانيكية ومنطقها في الحتمية الميكانيكية والجدلية. وترفض أيضا، كما يدّعي، هو، خرافة أن الفلسفة مستقلة، وأن الفلاسفة بطريقة أو بأخرى مستقلون وموضوعيون، وأن الفسلفة ترى العالم من الخارج وبصورة موضوعية. وألتوسير يرى أن الفلسفة ليست علما كما أنها ليست علم العلوم كما تعرّف عادة، ولا تنتج حقائق كونية أبداً. على العكس من ذلك إنها تنتج حقائق عارضة وطارئة، وبالإرتباط بحقائق معاكسة لها، وإذا كان هناك من موضوع للفلسفة، فهو الفراغ ، وليس العالم الكائن ـ بل ما يمكن أن يكون .
وصحيح أنه يؤمن بعدد من الأطروحات thesis منها أولا، وعلى خطى ديمقريطس، أن لا وجود إلا للمادة في هذا العالم، وثانيا أن الحظ أو الصدفة قائمان في أصل كل العوالم مهما كانت. إن مسألة أن الأنماط والطرز التي تحدد هذه العوالم وتكوّنها يمكن أن تُعرف وتوصف وتُتوقع وفق قوانين وأسباب معينة هي حقيقة أيضا. ولكن هذه العوالم تنتظم وترتبط وفق تلك الطرز والأنماط حسب عامل المصادفة، وأن تلك الطرز والأنماط نفسها تحصل بصورة محايثة وعرضية.
ثالثا إن العوالم الجديدة والنظم السياسية الجديدة نفسها، تنشأ بفعل المواجهات التي يفرضها الحظ chance بين العوامل المادية القائمة مسبقاً. وعندما تتصادم العوامل المادية فإنها إما أن تؤخذ وتؤثّر وينشأ نظام جديد، أو أنها لا تؤثر ولا تُستوعب ويستمر العالم القديم 3 .
بالنسبة لألتوسير، فإن الإفتراضات والأطروحات التي لها قيمة تفسيرية على المستوى الأنطولوجي والكوني، لها قيمة أيضا على مستوى الفلسفة السياسية. وبعد أن ابتدأ أولا بروسو وهوبز كمثال على الفلاسفة الذين أدركوا أن أصل واستمرار وجود النظم السياسية هو أمر تصادفي، تحوّل ألتوسير إلى مكيافيلي وكارل ماركس كنماذج يدعم بها أمثلته على الكيفية التي تشتغل فيها التصادفية المادية في الحقل السياسي.
واللاغائية الطبيعية، والنزعة اللاإنسانية antihumanist التي طوّرها ألتوسير في الفلسفة الماركسية على مدى حياته المهنية تعمل بشكل جيد مع الميتافيزيقيا المادية. في هذا الفهم الألتوسيري للفلسفة الماركسية يُنظر إلى المجتمعات والبشر كأنماط من النشاط والفعاليات متوقعة ويمكن التنبّؤ بها. وعلى الرغم من أن العلماء يمكنهم دراسة ووصف هذه الأنظمة في خصوصيتها، فإن الفلسفة لا تبدو للوهلة الأولى قادرة على أن تفعل الكثير باستثناء تصنيف هذه التفاعلات على المستوى الأكثر عمومية. ومع ذلك، وبالإحالة إلى عمل ماركس مرة أخرى، وأخذ الإيحاءات من مشروع مكيافيللي، فإن ألتوسير يزعم أن الفيلسوف المادي يمكن أن ينجز أكثر بعض الشيء من هذا من خلال توصيفاته وانتقاداته وتوقعاته. وهذا لأن الفيلسوف، ومن خلال دراسته للنظام السياسي من خلال عرضيّته وتصادفيّته ، وليس من منظور ضرورته، قد يكون قادرا على التفكير في إمكانية تحوله وتغيّره. فإذا ابتسم الحظ، واستمع البعض، ووقعت الحوادث والتأثيرات، فإن العوامل المادية قد تعاود الإتحاد، وقد ينشأ نظام سياسي جديد. وهذا يعني وبصورة مؤكدة أن ألتوسير يعزو للفيلسوف دوراً محدوداً وقدرة عرضية في التأثير. 4
وهذه نقطة خلاف جديدة وجذرية حيث أعلن ماركس في عبارته الشهيرة المعروفة أن الفلاسفة قد اكتفوا حتى الآن أي حتى ظهور نظريته بتفسير العالم، وقد حان الوقت ليقوموا بتغييره، فأين القدرة على تغيير العالم التي يعزوها ماركس للفيلسوف في نظرية ألتوسير الذي يعيدنا إلى نقطة الصفر، ويعلن أن بإمكان الفيلسوف أن يوصّف وينتقد ويتوقع الظواهر فقط، ولكنه لا يستطيع فعل إلا القليل القليل وذلك لأن الصدفة والحظ يحكمان العالم وحركته والتغييرات التي تجتاحه؟
اعتراض وجيه
وقد يعترض أحد السادة القراء بالقول إن ألتوسير أخذ كارل ماركس أنموذجا لإثبات نظريته كما قلت أنت بنفسك يا حسين سرمك حسن قبل قليل، فكيف تقول أنه نقض الماركسية؟
والجواب هو أن هذه هي المصيدة التي يقع في شباكها القرّاء الإنطباعيون والسريعو القراءة والـتأثّر. فهم حين يقرأون مؤلفات ألتوسير يجدونه في كل مناسبة يأتي باستشهادات وتعابير ومصطلحات ماركسية من مؤلفات ماركس الأصلية. لكنه يأتي بها، ليقلبها على بطانتها كما يقول المثل العامي، وينقضها جذريّاً، ويصل إلى استنتاجات مضادة لمنهج وفكر ماركس. بعد قليل سيرى القاريء ما هو أكثر غرابة وإثارة للدهشة في مجال تفسير ألتوسير للتاريخ وإلغاء دور الإنسان فيه، وعلاقة البنى التحتية بالبنى الفوقية، ودور الإيديولوجيا، ودور الفلسفة تحديدا، وإلغاء تراث ماركس الشاب والتشكيك في تراثه الناضج، ورفض مفهوم ماركس ذي النزعة الإنسانية عن الإغتراب، وافتعال مفهوم القطيعة المعرفية، وقلب نظرية المعرفة الماركسية وعلاقة المادة بالوعي راسا على عقب، وغيرها الكثير من الإنقلابات والتغييرات والرفض التي تصل حدّ عدم اعتبار ماركس فيلسوفا
اعتذار مطلوب
يهمني هنا أن اقدّم اعتذاري للسادة القرّاء الأكارم لأنني سوف أطيل بعض الشيء في عرض فلسفة التوسير وأفكاره، ولكن عذري هو أننا نريد الوقوف على سمة متأصلة في سلوك الكتاب العرب المتعلقة بتسليمهم بما يقرأونه من بحوث ومقالات وكتب وافكار غربية المنشأ، ينبهرون بها سريعا من دون تحليل عميق وتفحص ثاقب، كما أننا نريد التعرّف المنهجي والدقيق على موقف الكاتب عبد الحسين شعبان من فكر لوي ألتوسير وفلسفته، ومدى التزام الأخير بالمنهج الماركسي التقليدي المتصلّب الذي رفضه الأول. فأرجو من السادة القرّاء أن يتحملوا هذا الجهد التحليلي الشاق والمضني لأنه في مصلحتنا جميعا، فهو سوف يساعدنا على تحقيق القراءة الذكية المتأملة والمتأنية والغائرة عميقاً في متون النصوص من دون انبهار ولا انقياد.
إن ما أقدمه هنا هو محاولة خطيرة لكشف مخاطر القراءة التقليدية التجميعية التي تقوم على التقاط النتف، وهي القراءة السائدة بين قطاعات واسعة من الكتاب والقراء العرب، ولتقديم نموذج تطبيقي محكم وميسّر عن القراءة التحليلية الصبور والذكية التي يجب أن نعتمدها في التعامل مع أطروحات الفكر الغربي.
وهناك ملاحظة ضرورية جدا يجب أن أطرحها أمام السادة القرّاء، وهي أنني ارجو منهم أن لا يتصوّروا من خلال هذه المداخلة والمراجعة النقدية أنني أؤيّد كل الأطروحات الماركسية. إنني أتعامل مع الفلسفة الماركسية بالعين الفاحصة الدقيقة التي تعتمد المنهج الجدلي التحليلي النقدي الذي تعاملت به مع أفكار ونظريات ألتوسير، ولكن هذا البحث ليس مخصّصاً لمراجعة الماركسية نقدياً.
التوسير يلغي الإنسان
لننتقل، الآن، إلى ما لا يقل خطورة من تطويرات ألتوسير، وهي تحريفات وقلب جذري لأطروحات ماركس، وهو موقف الماركسية من الإنسان ودوره في حركة التاريخ. ألا نتفق ماركسيون أو قارئون للماركسية على أن ماركس قد منح الطبقة العاملة البروليتاريا دورا حاسما في عملية القضاء الثوري على الرأسمالية؟ ألم يعتبرها الطبقة الأكثر ثورية التي سوف تحقق منطق الحتمية التاريخية بالإطاحة بالنظام الرأسمالي وتحقيق الإشتراكية وصولا إلى مجتمع شيوعي عادل ومتساوٍ بلا طبقات؟
لا أعتقد أن اثنين سوف يختلفان في ذلك.
فقد اعتبر ماركس الطبقة العاملة الطبقة الثورية الوحيدة، لأنها الطبقة التي تتحمل أكبر قسط من الإستغلال، وتواجه خصما لا مجال لإصلاحه. وكما جاء في البيان الشيوعي فإن المجتمع الرأسمالي يخلق عوامل هدمه بنفسه.. ، أو كما قال ماركس في خطابه بلندن في 14 نيسان 1856 التاريخ هو الذي يحكم عليه بالموت، والكادحون هم الذين يتولون تنفيذ حكم التاريخ . وإن هدف الحركة العمالية كما صوره كارل ماركس هو القضاء على الضياع والإغتراب والإنحراف عن جوهر الحياة الإنسانية. فالإقتصاد الرأسمالي جعل من العمل وسيلة لتشويه هذه الحياة الإنسانية لأنه جعل العامل غريباً
1ــعن نتاج عمله، لأنه لا يملك في هذا المجال اية قدرة على تقرير شيء ما.
2ــعن العمل، لأن النظام الرأسمالي جعل منه جحيما للعامل. فهو أقرب إلى السخرة.
3ــعن طبيعته الصميمية، أي عن ذاته.
4ــعن أقرانه من البشر.
هكذا يصل الضياع بالإنسان في ظل النظام الرأسمالي إلى درجة يصبح فيها غريباً عن الجنس البشري. وقد بقيت آراء ماركس وأنجلز الخاصة برسالة البروليتاريا ؛ أي في القضاء على الشروط اللاإنسانية في المجتمع الراهن، وتحريره من الصراع الطبقي عن طريق هدم النظام الرأسمالي وبناء الإشتراكية، تشكل في نظر لينين العنصر الأساسي في النظرية الماركسية 5 .
أي أن الماركسية ترى أن هناك دورا للإنسان ممثلا في الطبقة العاملة في صنع التاريخ، وأن لهذه الطبقة رسالة تاريخية كبرى تتمثل في هدم النظام الراسمالي وبناء الإشتراكية. وليس أدل على موقف ماركس هذا من تأييده المتحمس هو وأنجلز لتجربة كومونة باريس التي قامت على إثر انتفاضة 18 آذار 1871 ولم تدم طويلا، لأن القوى المعادية للثورة قد تألبت عليها وطوقتها وقضت عليها في 28 أيار 1871، فقد نظر إليها ماركس على أنها الشكل السياسي الذي يمكن أن يتحقق في ظله التحرر الإقتصادي للعمال .
ماذا يرى التوسير؟
الجواب هو
إن ألتوسير يرى عكس ذلك تماماً، فلا دور للإنسان في التاريخ، ولا رسالة للطبقة العاملة ولا.. ولا.. ودعونا نستمع علميا لما يقوله التوسير الذي استشهد عبد الحسين بتمسكه المنهجي الصارم بالماركسية وتصلّبه التأطيري كما وصفه.
سلسلة حلقات من مخطوطة كتاب لكاتب المقال عنوانه عبد الحسين شعبان ما له.. وما عليه ، سوف يصدر في القاهرة قريباً بإذن الله.
AZP09

مشاركة