بين جاكسون بولوك وأكرم شكري
روح طفل مدلّل وفرشاة لاعب متمرس
حسن الكيف
كثيراً ما آمنت بتكامل عناصر الحياة وبالتالي ينسحب ايماني بتكامل عناصر فن الرسم ، هذا العالم الذي يصنع أو يحاول صناعة مشهد حياتي بمنطق آخر وعاطفةٍ وآليات وجود وتأثير آخر .التراكم المعرفي جميعاً يبدأ من حيث انتهى الآخرين ، أما التراكم المهاري فلايمكن ملاحظة امتداده ،أو تمكين امتداده الا بالمرور بمحطات أساسية تبدأ بتحليل المهارة وآليات اشتغالها ومدياتها ومن بعدها اكتسابها والقدرة على خلق الاختلاف والتجدّد في منحاها الذي يختلف مما تراكم ، عندها يبدأ الصراع والمقارنة والحذف والاستحداث والعمل على تغيير النسق مرةً بنقس السياقات ومرات بسياقات تقود الى الاتزان الاسلوبي مع هاجس وقلق الخروج والعودة الى عباءة الأصل ، فيالها من مهمةٍ صعبة ومراس متعب ومطاولةٍ مرهقة.
الحركات الفنية والمدارس والمزاوجة فيما بين آليات وتقنيات اشتغالاتها لم تأتي محض صدفةٍ زمانيةٍ ومكانيةٍ هنا وهناك ، فالمزاوجة تعني مشكلةٍ في الخطاب والمشهد البصري ، وكذلك تنسحب هذه المشكلة على الخطاب الفكري ، فلايوجد اطلاقاً شكلاً وان كان يصل لمجرد الخط أو حتى النقطه الا ووراء تلك النقطةأو ذلك الخط فكرةً لها جذرها وجذعها واغصانها ، فتورق وتزهر وتثمر فتقاس وتُقيّم .
التعبير والتجريد يرافق ضروب الحياة، وبالدقة يرافق ضروب الفن مع أبجديات تأمل الفنان ، فان كان فناناً في الرسم فـتأمله للسطح التصويري سيكون مشحوناً بقدرات ذلك الفنان الرسام على ايجاد مكامن التعبير وقدراته على تجريد تلك المكامن واظهارها مبسطةً ،مختزلةً، مقننةً ، مضموناً وشكلاً ، بكيفياته والكم الذي يراه مناسباً لتلك المضامين والاشكال ، لذلك نرى الأعمال التي تكون مكتنزةً بالتعبير والتجريد على انهما جزء من امكانيات الرسام المهارية تكون أكثر عفويةً ، قليلة القصديةِ ، مقارنةً بالاعمل المشحونة بالرمز او طغيان المعالجات اللونية وبالتأكيد ينسحب هذا المفهوم على الاعمال الواقعية والكلاسيكية والتسجيلية المدروسة بعنايةٍ لتضمين كل شاردةٍ وواردةٍ في الواقع من خلال دراسته بدقةٍ وعنايةٍ وشمول.التعبير والتجريد لايمكن ضبطهما أصولياً ، فهما اجتراحان للعاطفةٍ باتجاه المضمون والشكل ، متفاعلان فيما بينهما وباقي المفاهيم العاطفية والعقلية بحكم اختلاف وطبيعة اللحظة الزمانية والمكانية الانسانية ومايرشح عن تلك اللحظة من اختلافات ومعطيات في الوعي والتأمل وماينتج من انطباعات آنية وراسخة، لذا ومن باب خصوصية الاصطلاحان (التعبير، التجريد ) ان يلحق بهما وعلى الدوام تساؤلان هما ( متى ؟، أين ؟ ) ويتعدى الى تساؤل آخر هو ( كيف ؟) فهما في صراع تفاعلي وتجادلي منتج على الدوام ، لذلك لايمكن لأي رسام يسخّر التعبير والتجريد في الشروع بتأملاته للسطح التصويري كجناحان تطير به عاطفته في فضاءات عمله الا وقد أحرز جانبان مهمان : أولهما – عدم القدرة على اقتناص فكرةٍ ما مسبوقة التناول في عمل سابق ، والثاني : عدم القدرة على تناص أشكال وردت في عمل سابق ، والجانبان يؤكدان أصالة ما سينتج من عمل جديد مهما حاول هذا الرسام التقرب أو التوأمة حتى مع عمل أو تأثيرات عمل سبقه اليه فنان ضمن مضمار نسق وسياقات مفهومي التعبير والتجريد .تجربتان للفنان جاكسون بولوك والفنان أكرم شكري ، كان للتعبير والتجريد وما اصطح على تسميته بالــ( التعبيرية التجريدية ) السمة الابرز في اعمالهما بواكيراً وفي فترات متقدمة في عطائهما ، وعلى سبيل الفرض لو تم اقتطاع جزء تفصيلي من اي عمل لهم لوجدته يشابه الكثير من الاعمال الانطباعية في معالجته التقنية المفعمة بالعفوية والتلقائية وأحياناً العشوائية المقننة ضمن حيّز مسيطر عليه بغية اظهار الاشكال كما تظهر للمتلقي بلا ايغال بالقصد واقحام الشكل بالتفاصيل المملة المتعبة للـــبصر ، باتجـــــاه جعلها أكثر تعبيراً بحركتها ودراميتها وتأثيرها العاطفـــــي المباشــــر بـــــأبسط اشكالها وأكــــثرها وأكثــــفها امـــتاعاً .حقيقةً هاتين التجربتين لبولوك وشكري ، كانتا الأبرز على هذا الصعيد ، في مشاهداتي الشخصية على الأقل ، حتى التقيت وفي رحلةٍ مع رفاق الفن والرسم الى السليمانية مع مؤسسة عشتار برسام كان لي اعجاباً بأعماله عند ( مخزن الباخره للمستلزمات الفنية في الكرادة ) ، وهو الفنان محمد عباس حلمي .محمد عباس حلمي يمتلك جوانب مهارية في اللعب على السطح التصويري بسرعة بداهة الانطباعيين ، بقوة وقدرات التأثيريين ، بانتاج تعبيري تجريدي مكتنز ورصين فكراً وشكلاً، وبثراء حياتي مفعم بروح البسطاء وعطاء لاينضب من الاشتغال المستمر والنوعي.
طاقة متجددة
فهو بذلك يرفد المشهد التشكيلي العراقي وربما الاقليمي الحالي بطاقةٍ متجددةٍ من اشتغال يرقى الى أن يكون واحداً من روافد بث روح التفاعل بين جذور هذا الفن العريق وايجاد منصةٍ للولوج الى عوالمها ومحاولة التجديد في خطابها الفكري المليء بالانفعال والشحن العاطفي الذي افتقدناه في الاعمال المعاصرة ، اعاده الينا الفنان محمد عباس حلمي بأبهى وأروع بث جمالي .عمله الأخير ( معشوقتي الصغيرة ) والذي يجسد فيه مشهد فتاة صغيرة العمر لكنها ليست بمراهقة بطريقة جلستها كالأميرات على عرش أنوثتها ، بسيطة الملامح . برداء أحمر ومخشلات ذهبية ذابت أشكالها مع الجو العام المفعم باللون ولمسات سريعة ومفعلة للفرشاة ، وكأنه يؤكد انتماء الفتاة له مع مايحيطها من فضاء ، هذه العاطفة التي تطفح من المشهد عشقاً وجمالاً ومحبةً .