بين الشاعرة العربية والروائية أهي جرأة أم إباحية؟
بشرى البستاني
يرى بعض النقاد أن الروائية العربية أكثر جرأة فِي بلوغ المناطق المحظورة من الشاعرة… وأنها قالت فِي الايروتيك فِي أقل من قرن ما لم تقله الشَّاعرة فِي قرون عديدة، لكن فات هؤلاء النقاد أن القضية ليست قضية جرأة قدر ما هي قضية رؤية للأدب وماهيته وطبيعة وظائفه وموقفٌ من القيم، وإذا عرفنا أن اللغة الشعرية ، ليست متوالية لفظية تمنحك معنىً مباشراً، بل هي الاستعمال غير الدارج وغير المألوف، وهي المنزاح عن الاعتيادي، وأن العلاقة الجدلية بين دوالها ومدلولاتها تنتج دلالات ذات طاقة جمالية هي ناتج الطاقة الفنية الكامنة فِي التشكيل النصي ذي القدرة عَلَى بثِّ قراءات ودلالات عدة، وعليه فما قيمة النص الآيروتيكي إن وصف لنا غرف النوم وما يجري فيها من فعل جنسي بين الأزواج أو الأحبة بشكل مباشر ولغة إباحية طينية ماجنة، وهل فِي هَذَا الوصف ما يثير الدَّهشة اليوم بعد أن امتلأت بيوتنا ومؤسساتنا بصور العري والإغراءات والجنس فِي الصحف والمجلات والأفلام والمسلسلات والأغاني حتى فقدت الأغنية وظيفتها الأساسية فِي منح متعة سمعية والتَّأمل بدلالتها حين تحولت لمشهد بصري عارم بالإثارة والإغواء والملاحقة ، دون أن تعرف من يغوي من ولماذا..متناسين أن الفنون تفقد قيمتها حالما تفارق القيم الراقية ، وأن الجمال لن يكتمل إلا حين يكون مندمجاً بالقيمة كما أكد الناقد الروسي يوري لوتمان ، أما بالنسبة للرواية والشعر، والشاعرة والروائية فِي التعبير عن هَذَا الموضوع، فيمكن القول إن هَذَا الرأي مأخوذٌ بعمومية ابتعدت عن الرؤية التحليلية أولا ، وأن الرواية الراقية تشكيلا ومقاصد كالشعر الجيد لا يقربها غير النخب وأقرب مثال على ذلك روايات أدوارد الخراط وبعض روايات صنع الله ابراهيم ، فقد قُدّر للفن الراقي أن يكون نخبويا ، ذلك أنه ليس مقالة ولا موضوعا ايديولوجيا ، أما الرواية التي تكتب بلغة الصيرورة الأفقية المسترسلة بسردها بعيدا عن كينونة الشعر وكثافته وترميز لغته الشعرية فقراءتها حتما ستكون أكثر سهولة واسترسالا. إن الروائية عَلَى الأغلب تبوح أفقيا مما يجعل بوحها واضحا، ومدرَكا بيسر، بينما لا يبوح الشعر الأصيل إلا بلغة شعرية تَتخفّى وتُخفي، وقد يحجب النص الشعري أسراره حتى عن مبدعه أحيانا، مما يجعل قراءته بحاجة لمعارف ولأفق ثري وجهد قرائي يبحث ويتأمل ويؤوِّل ليفكَّ التَّشكيلات الَّتِي تحيل عَلَى مقاصد النَّص ودلالاته، وهنا نجد الشاعرة قد قالت كل شيء بإيحاء اللغة الشعرية ، وعلى المؤول أن يتوقف ليكتشف ، هَذَا من جهة، ومن جهة أخرى فإننا نجد نموذجا آخر من شعر الايروتيك يبوح بصراحة حسية تمنح المتلقي كل دلالاتها دون عناء، وقد صار لهذا الشعر وحسيته وكشفه مواقع ومنتديات ومشاهد تلفزيونية وأخرى عَلَى النت، لكن النقد أحيانا يستسلم لأحكام جاهزة تجعله يغادر عناء البحث عن الحقيقة فِي قراءة النصوص والتنقيب فِي الدواوين الشعرية والعمل عَلَى الحفر فِي الرمز والأسطورة، وفي التناص كذلك، وقد يجد المستوى التأويلي لهذا البوح فِي الشعر الصوفي الَّذِي كتبته وتكتبه الشاعرة العراقية والعربية، ولأني مع منْ يرفضون الكشف والعري ولغة المجون أقول، لا يمكن للأدب الأصيل وقيمته الفنية أن ينزلق فِي مادية طينية مطلقة بعيداً عن محور ارتكازه الروحي والقيمي. إن رحلة التعري الجسدي فِي الغرب رافقها تعرٍ وتسطيح للكتابة لأن التَّعري والمباشرة يستلبان النص طاقته الإيحائية ويوقفان تعدد الصور الَّتِي ترسمها المخيلة بتأثير الإشارات الَّتِي يرسلها النَّص، فإذا كف النَّص عن إرسال إشارة أو علامة أو رمز أو تشكيل شعري يتسم بغلالة الغموض كفَّت المخيلة عن الإيحاء، والإيحاءُ جوهر الأدب وروحه النَّابضة، وحين شعر الأديبُ الغربي بما آلت إليه الحرية المطلقة وعريها من خسارة التخيل والتطلع والتشويق، عاد إلى السترابتيس (قطعة قماش لتغطية المناطق الحساسة من الجسد) وأدرك أهمية الحجب الَّذِي يبعث عَلَى الإيحاء والتوق والإثارة، ومن ثم إلى متعة التخيل والحلم وضرورة التأويل. ففي الحجب غموضٌ يعمل عَلَى تشكيل طاقة تأويلية،وفيه تطلعٌ نحو الكشف لإشباع رغبة المعرفة، وهذه كلها من متطلبات الشعر والآداب والفنون. تُرى، هل فِي ذلك الكشف الحسي والإباحي المباشر، وأحيانا الماجن موقفٌ توجيهي ومهمات تربوية، أم هو لغة الهبوط بالأدب وإشعال الغرائز وافتقاد القيم وفي طليعتها القيم الجمالية، ومن ابتكر هذه اللغة المكشوفة.؟ هل ابتكرها الرجال لإشباع حاجاتهم، وتناولتها الأنثى لإيقاع الرجل بها، أم ابتكرتها المرأة ثأراً من سلطة الرجل ومن عصور الكبت والحجر والحرمان لتسقط معها فِي مهاوي الإفراط والتفريط، ففي بعض روايات المرأة العربية لم أستطع مواصلة قراءة الرواية، لأني لم أجد فِي أي رواية عالمية قرأتُها ما وجدت فيها من إسفاف ومجون وسقوط وتهافت، ولأني لم أجد فيها أدبا ولا قيما ولا مشاعر ولا معاناة إنسانية ولم أجد فضاء روائيا ولا حركة شخصيات،ولا حواراً راقيا، بل وجدت امرأة تعاني من هستريا شبقية همجية مجنونة، تركض وراء رجل ما إن تلقاه حتى تخلع ثيابها دون مقدمة ولا حوار ولا سيمياء، ولا يسعني هنا إلا الاستشهاد بمقولة مهمة للمستشار الرئاسي الأمريكي باتريك جيه بوكانن بعد أن استهجن مجون الشعب الأمريكي وإباحيته وسقوطه الأخلاقي والعلاقات الجنسية خارج الزواج، وبعد إدلائه بإحصائيات عن معدلات الخصوبة الهابطة في أمريكا وتناقص السكان قال مؤكداً : (إن هذه هي إحصاءات مجتمع منحط وحضارة تموت، وإن الموت الأخلاقي هو صانع الموت البايولوجي، وأن بلدا مثل هَذَا لا يمكن أن يكون حراً ، فلا وجود للحرية دون فضيلة، ولا وجود للفضيلة بغياب الإيمان)، فماذا سنقول نحن أهل الفضيلة ودعاة الإيمان..!