فلسفة قانون الشركات العامة العراقي
رقم 22 لسنة 1977
بين الإقتصاد الموجّه وإقتصاد السوق الحر – محمد سلطان حسن
من أجل بيان فلسفة شيء ما، لابد من البحث في ماهية هذا الشيء ، والبحث في الماهية يقتضي حتمًا البحث في أجزاء ومكونات هذا الشيء ؟ ، وما هو المقصد والغاية من وجوده ؟ . واستنادًا لذلك لابد أن نُبين مفهوم الشركة العامة وفق فلسفة المشرع العراقي وقت التشريع، وكذلك نوضح الأسباب الموجبة لتشريع القانون ، كذلك نشير إلى المذهب الذي كان يعتنقه المشرع العراقي وقت تشريع القانون ، وهل أصبحت الحاجة ملحة لتغيير القانون في الوقت الحاضر؟.
عرف المشرع العراقي في المادة (1) من قانون الشركات العامة الشركة بأنها: ( الوحدة الاقتصادية الممولة ذاتيًا، والمملوكة للدولة بالكامل ، التي تتمتع بالشخصية المعنوية والاستقلال المالي والإداري). ولو قمنا بتفكيك النص أعلاه لوجدناه يتكون من ثلاثة عناصر، وكالآتي :
أولاً: وحدة اقتصادية مملوكة للدولة
والمقصود بذلك أن الشركات العامة مؤسسة حكومية ذات نشاط اقتصادي، ويكون هذا النشاط منعزلا عن أنشطة المؤسسين، وتمارس نشاطا هو من جنس نشاطا الأفراد ، وكذلك يستطيع الأفراد ممارسة نشاط يشبه نشاط الدولة. وقد يكون هذا النشاط الاقتصادي ذا طبيعة صناعية ، أو تجارية ، أو زراعية ، و كذلك جميع أموال الشركة تكون أموالا عامة ، فلا يجوز حجزها ، أو التصرف بها ، أو تملكها بالتقادم.
ثانيًا: ممولة ذاتيًا
وفق المفهوم العام يقصد بالتمويل الذاتي : هو أن تكون للشركة موازنة خاصة بها ، تتضمن تقديرات لنفقاتها ، وإيراداتها ، فالشركة تمول نفسها دون ممول خارجي. أما المشرع العراقي فقد عرف الإدارات الممولة ذاتيًا في المادة (1) من قانون الإدارة المالية الاتحادية رقم (6) لسنة 2019 بأنها: تشمل الشركات العامة المملوكة للدولة والهيئات والمديريات التي تتمتع بالشخصية المعنوية والاستقلال المالي والإداري والتي تعتمد على مواردها الذاتية في تمويل موازنتها. والحقيقية أن المشرع قد جانب الصواب في هذا التعريف ؛ فهو قام بتعداد الإدارات الممولة ذاتيًا دون بيان ماهية التمويل الذاتي ، فالتمويل الذاتي هو توجه مالي ، أو سياسة مالية ، يكون الغرض منها مواجهة الالتزامات بموارد الشركة نفسها ومن أرباحها.
ثالثًا: التفرد المالي والإداري والعمل وفق أسس اقتصادية
إن أي عمل يحتاج إلى تنظيم ، والتنظيم بدوره يجب أن يقترن بهيكل تنظيمي حتى يسير العمل بشكل مستمر دون توقف ، وهذا الهيكل التنظيمي يطير بجناحين : المورد البشري ، والمال ، ويختلف تنظيم هذين الأخيرين بحسب التشريع المنظم للمؤسسة أو التشكيل ، والشركات العامة لا تخرج عن هذا الفلسفة ، فهنالك نصوص نظمت الموارد البشرية ونصوص أخرى تطرقت إلى المال، فالشركة العامة وفق قانونها لها مجلس إدارة ، ومدير عام يتولى إدارة شؤونها ، وكذلك لها حساباتها الخاصة التي تختلف عن حسابات الدولة بل حتى الوزارة التابعة لها، هذا من جانب ، ومن جانب آخر يجب أن يتم العمل وفق أسس اقتصادية ، فتفكير المشرع عند وضع التشريع ، وكذلك تفكير المؤسس وتفكير العامل يجب أن يكون وفق طريقة الإدارة الاقتصادية ومنافسة المشاريع الفردية ، وتحقيق الأرباح.
مما تقدم أعلاه نقول: حتى يطلق على المشروع العام _ وفق تصورات المشرع العراقي_ شركة عامة لا بد من توافر العناصر أعلاه.
أما عن أسباب أو فلسفة تشريع قانون الشركات العامة ، فشرح هذا الموضوع يحتاج إلى عودة تاريخية إلى الوراء فالفلسفة في جزء منها تاريخ.
في عام 1760 ظهرت الثورة الصناعية والتي على أثرها شهد العالم انفجارا معلوماتيا هائلا، وتطورا تكنولوجيا غير العالم ، فقد توالت الاكتشافات ، وابتُكرت العديد من الاختراعات مثل المحرك البخاري ، وتطورت صناعة القطن نتيجة ظهور ماكينات جديدة ، كما نجحت الفلسفة الطبيعية والتي كان من آثار نجاحها ظهور العلوم الطبيعية مثل : الفيزياء وهي دراسة الكون بكل وسيلة متاحة ، كما كان من نتائج هذه الثورة تشجيع الملكية الفردية.
وفي هذه العقود ظهر مذهب الحرية الفردية أو اقتصاد السوق الحر، ويقوم هذا المذهب على امتناع الدول عن التدخل بصورة مباشرة في الاقتصاد ، فجُل عمل الدولة هو تنظيم السوق، وحرية التنافس، وحرية التعاقد للأفراد ، وتحارب الاحتكار ، فلو حصل أي انحراف في السوق سوف تتدخل لمنع هذا الاحتكار، فمثلاً تضع شروطا معينة لمنتج لكي تسمح بدخوله للدولة ، أو تضع شروط سلامة في السيارات ، فالدولة تعد اليد الخفية التي تضبط الملايين من القرارات المتعارضة، وكذلك ملايين المستهلكين والمنتجين ، وتجعل هذا التضارب يصب في مصلحة الجميع.
لكن هذا المذهب لم يستمر على نفس الوتيرة من النجاح ، فقد ظهرت الأزمات الاقتصادية التي لم يستطع مواجهتها ، الأمر الذي جعل الدول تبحث عن نظام بديل ، وهكذا اتجهت خطوة بخطوة نحو الاقتصاد الموجه ، فأضحت مضطرة للتدخل لتقديم خدمات كانت حكرًا على النشاط الفردي ولا سيما بعد الحرب العالمية الثانية لكي تواجه الأزمات الاقتصادية ، وقد أدى ذلك إلى استحواذ الدول التي تؤمن بالأفكار الاشتراكية على غالبية النشاط الاقتصادي ، ولكن هذه الدول وجدت بعد ذلك أنها أسيرة إجراءات وتعقيدات وروتين خطير قد يعطل الغاية من وجود النظام الاشتراكي أصلًا ، فنتيجة لهذا الروتين وجدت نفسها لا تستطيع مواجهة النشاط الفردي إلا بإنشاء الشركات العامة الاقتصادية. إذًا فلسفة إنشاء الشركات العامة هو نتيجة للأفكار والمبادئ الاشتراكية.
ولو جئنا إلى المشرع العراقي لوجدناه ينص على هذه الفلسفة ، فقانون الشركات العامة لسنة 1997 وضع في زمن كان الحزب الحاكم أنذاك يؤمن بالمبادئ الاشتراكية ، وهذا الأمر قد انعكس على التشريع في ذلك الوقت ، لذلك جاء نصَ المادة (2) من قانون الشركات العامة يعكس هذه الفلسفة بشكل واضح وجلي حيث أشار إلى إنه : (( يهدف هذا القانون إلى تنظيم الشركات تأسيسا وإدارة وتصفية ، بأحكام وأسس مالية وإدارية موحدة لبلوغ اعلى مستوى من النمو في العمل والإنتاج واعتماد مبدأ الحساب الاقتصادي وكفاءة استثمار الأموال العامة وفاعليتها في تحقيق أهداف الدولة ورفع مستويات أداء الاقتصاد الوطني)) ، ومبدأ الحساب الاقتصادي الذي أشار إليه النص : هو وسيلة خاصة بالاشتراكية تُعبر عن علاقة اقتصادية تقوم على الملكية العامة لوسائل الإنتاج والخدمة، وكذلك تقوم على المركزية في الإدارة مع منح تفرد واستقلال نسبي لتلك الشركات ، والغرض من المركزية في الإدارة هو للسيطرة على تلك الشركات ، أما الاستقلال فالغرض منه هو تحفيز الشركات اقتصاديًا لتمويل نشاطها من مواردها الذاتية ، وكذلك رفد الاقتصاد الوطني من أجل تحقيق التنمية الوطنية .
أما كفاءة استثمار المال العام وفاعليتها ، هو مصطلح اقتصادي براد به إدارة الأموال العامة بطريقة صحيحة، عن طريق استخدام أقل وقت ، وأقل موارد وجهد ، مقابل الحصول على منفعة كبرى. أما الفاعلية فهي نسبة الأهداف المحققة إلى الأهداف المحددة ، مثال على ذلك : شركة عامة قامت بتحقيق الأرباح المحددة لها كل شهر ، هنا حققت الأرباح بفاعلية عالية جداً ، ولكن لو حققت نفس الأرباح بموارد وجهد أقل هنا تحققت الكفاءة والفاعلية.
الحاجة الملحة لتعديل القانون
بعد عام 2005 وبعد وضع دستور 2005 العراقي أصبحت الفلسفة الاقتصادية للعراق شوهاء ، فلم يعد توجه العراق الاقتصادي واضحًا ، هل هو اقتصاد السوق أم الاقتصاد الموجه ؟، فأصبح العراق يأخذ شيئا من الفلسفة الاشتراكية وشيئا آخر من فلسفة اقتصاد السوق ، ممل يؤدي إلى عدم وجود تناغم وتلاقح بين فلسفة قانون الشركات العامة وفلسفة الدستور الحالي ، صحيح أن الدستور قد نص في المادة (25) منهُ على أنه ((تكفل الدولة إصلاح الاقتصاد العراقي وفق أسس اقتصادية حديثة وبما يضمن استثمار كامل موارده وتنويع مصادره وتشجيع القطاع الخاص وتنميته)) ، إلا إن عبارة (تشجيع القطاع الخاص ) لا تعني اقتصاد السوق الحر مطلقًا ، فجميع الدول والأنظمة الاشتراكية في العالم تشجع القطاع الخاص في حدود ضيقة جدًا يعمل وفق الخطة العامة وبما يحقق الوظيفة الاجتماعية للقطاع الاشتراكي ، والعكس صحيح فالدول التي تأخذ بفلسفة السوق الحر قد تكون تدخليه و اشتراكية في بعض المواطن والمرافق العامة فالفلسفة الاقتصادية نسبية غير مطلقة ، ولكن هذا لا يعني أن يكون الفكر الاقتصادية في الغالب الأعظم منه غير واضح ، فالتوجه الاقتصادي للعراق غير واضح مطلقًا ، وهذا الأمر يجعل قانون الشركات العامة دائرة حكومية مقيدة بروتين الإدارة الذي ينعدم فيه روح الابتكار وتفقد الحكمة والفلسفة من إنشائها ، عليه نقترح الآتي :- 1- العودة إلى نظام الاقتصاد المختلط أو كما يطلق عليه الاستغلال المختلط والذي أصبح هباءً منثورا نتيجة لسيطرة الفلسفة الاشتراكية بعد الحرب العالمية الثانية ، ويقصد بالاستغلال المختلط هو أن يشترك القطاع العام مع الأفراد في إدارة تلك الشركات ، فمن جانب نقلل من الإدارة المباشرة والروتين المعقد ، ومن جانب آخر نتلافى عيوب الإدارة بالامتياز التي يكون هدفها الربح فقط.
2- أما كيفية تطبيق هذا الاستغلال المختلط فيكون في صورة شركة مساهمة تخضع في شكلها العادي لقانون الشركات التجارية العراقي رقم (21) لسنة 1997 تكتتب فيها الشركات العامة مع الأفراد ، لكن مع مراعاة ما يأتي :
أ- تكون نسبة اكتتاب الشركات العامة أكثر من نصف رأس المال حتى لا تصبح الدولة تحت رحمة القطاع الخاص .
ب- يبقى الموظفين التابعين للشركات العامة موظفين عموميين ؛ والسبب في ذلك لا يمكن الأخذ بالشركات المساهمة على أطلاقها ، يجب أن يكون للسلطة العامة حق الرقابة لتحقيق المصلحة العامة ، ورقابة السلطة العامة لا تتحقق إلا عن طريق ممثليها وهم الموظفون العموميون.
ج- بما أن هذه الشركات (الاقتصاد المختلط ) تشكل خروجا على قانون الشركات العامة وخروجا على قانون التجارة الأمر الذي يجب معه تعديل قانون الشركات العامة عن طريق تخصيص فصل كامل ينظم هذا الأمر وحذف الفصل التاسع الذي ورد في قانون الشركات العامة بعنوان –( تحول الشركات العامة ) لكي ينسجم مع الواقع الجديد .
3- تلغى المادة 35 من قانون الشركات العامة وتصبح كالآتي (( يجوز تغيير طريقة إدارة المرفق العام الذي يدار بأسلوب الشركات العامة إلى شركة مساهمة بناء على توصية من الوزارة المؤسسة وقرار يصدر عن مجلس الوزراء)) .