بنية الخطاب السردي ودلالاته الإنسانية في رواية ( نساء) – محمود خيون
قرأت الكثير من الأعمال الأدبية التي تتحدث عن مأساة الحرب وأثرها على المجتمعات التي تخوض بلدانها حروب شرسة تكلفها خسائر في الأرواح والممتلكات وتخلف الويلات والأحزان ومنها ما تدعو الناس إلى الهجرة لبلدان أخرى تبعد مسافات شاسعة عن مدنها التي تشهد الدمار وعويل النساء وتناثر الجثث وتطايرها في الفضاء…ومن تلك الأعمال التي اشتهرت بعد الحرب العالمية الثانية هي رواية( الحرب والسلام ) ليو تولستوي ورواية( وداعا للسلاح ) لارنست همنغواي و( الثلج الحار ) ليوري بونداريف ورواية( مخاوفي السبعة ) للكاتب البوسني سلافيدين افيدتش ورواية( الساعة الخامسة والعشرون ) لقسطنطين جيور جيو وغيرها…وفي رواية( نساء ) للكاتبة إلهام عبد الكريم تتجسد تلك الحكاية المؤلمة عن الحرب والمأساة التي تعيشها الناس والمرأة بشكل خاص، والمعروف عن الكاتبة أنها فتاة جاءت من البصرة تحمل من الأحلام والآمال الكثير وهي تدخل العاصمة وتنبهر بالعمران وباصات نقل الركاب ذات الطابقين وخصلات شعر الفتيات حين تداعبها نسمات الهواء في الفضاء الطلق..ورغم كل ذلك التغيير ظلت إلهام عبد الكريم ابنة البصرة الفيحاء تتحدث وتكتب وتأتي بالأفكار عبر ذاكرتها البصرية مثلما تأثرت بقصائد السياب عن جيكور وما كتبه شعراء جيلها في تلك المدينة الغافية بين أحضان الجنوب والمطلة على شط العرب..وهي في رواية( نساء ) تذكرنا بروايتها السابقة( الصمت ) التي تتحدث فيها عن طفولة ضائعة وأحلام مزقتها مخالب اليقظة…( والفارق بين روايتيها أن ( الصمت ) دارت أحداثها في بدايات القرن الماضي سنوات الإحتلال البريطاني للعراق الذي كانت البصرة ثغر العراق مدخله، أما( نساء) فهي رواية الحاضر الممتد منذ بداية تسعينيات القرن الماضي يوم قصف العراق ثم حوصر ذلك الحصار المريع، وكانت الرواية راصدة لكل ما يجري ملمة بكل تفاصيل خرائط الخراب التي رسمها الاحتلال )) إلا أن الكاتبة أرادت في رواية( نساء) أن تؤكد حقيقة وهي أن الحرب وانشغال الرجال بالقتال وخوض المعارك على الجبهات وغيابهم لأيام وشهور عن بيوتاتهم ما يولد فراغا قاسيا للنساء حين يأخذهن الاشتياق لمعاشرة شركاء حياتهن، وهذا الأمر يجعل منهن مسلوبات الإرادة والرغبة وتبقى النشوة العارمة تموت بين احضانهن الفارغة إلا من الاسى والحسرة والحرمان..والرواية تدور احداثها حول خمس نساء من البصرة هن زهراء و موجة وساغيك وبريتون الكاثوليكية، وتركز الكاتبة على حياة بطلة الرواية ” زهراء” التي عاشت مأساة حقيقية بسبب زواجها من المجند في الحرب ” محمود ” والذي شغلته المعارك عنها وعن بناتها الثلاث وهي كانت إمرأة مشحونة بالرغبات وتحتاج إلى معاشرة الرجل خاصة عندما تعيش الوحدة في فراشها كل ليلة وهي كعادتها تتعطر وتتجمل في حلم أن يأتي زوجها ليجدها على فراشها بكل ما تحمله من جمال ورومانسية، ولكن الذي حدث يدخل لص إلى غرفتها من أجل سرقة ما تملكه من مصوغات ذهبية وأموال فيذهله منظرها على الفراش وهي غارقة بالنشوة والأحلام فينسى أنه جاء ليسرق فيذهب لمعاشرتها وهي غارقة في رغبة جنونية عارمة، ثم يسرق ما لديها ويذهب، لكنها سرعان ما شعرت بأنه ترك بين احشائها بذرته لتنجب منه ولدا كان زوجها ” محمود ” يتمناه ويحلم بقدومه. ( ربما كان في استطاعتي تجاوز الأمر بمرور الأيام، لكن تلك العلاقة القسرية الشاذة لم تنته دون أن تترك خلفها تذكارا مميتا لم أستطع التخلص منه أبدا )..
فراق الاحبة
هكذا أذن جسدت لنا الكاتبة إلهام عبد الكريم مكانة بنية الخطاب السردي ودلالاته الإنسانية في روايتها( نساء) ما عاشته وبضمير المتكلم الكثير من النساء تحت ظل الحرب التي خلفت الأحزان وفراق الاحبة وتركت في النفوس الخراب الذي تركته أصوات القذائف وهدير الطائرات المقاتلة وسماع الأخبار المتضاربة عن الكر والفر في سوح القتال..وتحت ظلالها المثقوبة تنام عشرات الأرامل وهن يتضرعن الصبر والحسرة..انها رواية من ذاكرة الحرب والموت استطاعت فيها الكاتبة وبكل حرفية ومهارة وتفوق في البناء الفني أن تعيد لنا حجم الأخطاء الكارثية التي عشنا فصولها وما تزال تعشعش في ذاكرتنا المتعبة.