بمناسبة ذكرى قيام الجمهورية العربية المتحدة عام 1958

بمناسبة ذكرى قيام الجمهورية العربية المتحدة عام 1958

الوحدة والسيادة والنهضة ومعاداة الهيمنة والطائفية

مبدر الويس

بغداد

تمر هذه الأيام الذكرى التاسعة والخمسون لقيام أول وحدة عربية حقيقية نواة في التاريخ العربي المعاصر، بين بلدين عربيين شقيقين هما مصر وسوريا وقيام الجمهورية العربية المتحدة في 21/شباط/1958 لقد بدأت مراحل الوحدة بين الدولتين بجلسة تاريخية عقدت في القاهرة في الأول من شهر شباط/فبراير/1958، وضمت ممثلي الدولتين، وكان الهدف من هذا الأجتماع أن يتداول ممثلو الدولتين مصر وسوريا، في الإجراءات النهائية لتحقيق إرادة الشعب العربي، ولتنفيذ ما نص عليه دستور الدولتين من أن شعب كل منهما جزء من الأمة العربية . وتذاكر أعضاء الوفدين ما قرره كل من مجلس الشعب المصري ومجلس النواب السوري من الموافقة الجماعية على قيام الوحدة بين البلدين، كخطوة أولى نحو تحقيق الوحدة العربية، الشاملة.

كما تذاكروا بشأن ما جرى في السنوات الأخيرة من الأدلة الثابتة على إن القومية العربية كانت روحاً لتاريخ طويل ساد العرب في مختلف أقطارهم، ولحاضر مشترك بينهم ومستقبل مأمول من كل فرد من أفرادهم . وأنتهى المجتمعون على أن هذه الوحدة التي هي ثمرة القومية العربية، هي طريق العرب إلى الحرية والسيادة وسبيل من سبل الإنسانية للتعاون والسلام، لذلك فإن واجبهم هو الإنتقال بهذه الوحدة من نطاق الأماني إلى حيز التنفيذ في عزم ثابت وإصرار . ثم لخص المجتمعون من هذا كله إلى أن عناصر قيام الوحدة بين الدولتين مصر وسوريا وأسباب نجاحها قد توافرت بعد أن جمع بينهما في الحقبة الأخيرة كفاح مشترك زاد معنى الإلتزام القومي وضوحاً، وأكدوا إنها حركة بناء وتحرير وعقيدة تعاون وسلام . لهذا أعلى المجتمعون أتفاقهم التام، وإيمانهم الكامل وثقتهم العميقة في وجوب توحيد مصر وسوريا في دولة واحدة أسمها الجمهورية العربية المتحدة . كما أعلنوا أتفاقهم الإجماعي على أن يكون نظام الحكم في الجمهورية العربية المتحدة ديمقراطياً رئاسياً، يتولى فيه السلطة التنفيذية رئيس الدولة يعاونه وزراء بعينهم ويكونون مسؤولين أما مه . كما يتولى السلطة التشريعية مجلس تشريعي واحد، ويكون لهذه الجمهورية علم واحد، وشعباً واحداً في وحدة يتساوى فيها أبناؤها في الحقوق والوجبات ويدعون جميعاً لحمايتها ويتسابقون لتثبيت عزتها وتأكيد منعتها، وقد تقدم كل من عبد الناصر وشكري القوتلي ببيان إلى الشعب . حيث ألقى عبد الناصر ببيانه أمام مجلس الشعب المصري في 5/فبراير/1958،كما ألقى شكري القوتلي بيانه في نفس التاريخ أمام مجلس النواب السوري، شرحاً ما انتهى إليه هذا الأجتماع التاريخي من قرارات، وشرحاً أسس الوحدة التي تقوم عليها دولة العرب الفتية،  ومن الجدير ذكره ما جاء في بعض بيان عبد الناصر حيث قال (لقد بزغ أمل جديد على أفق هذا الشرق، إن دولة جديدة تنبعث في قلبه . لقد قامت دولة كبرى في هذا الشرق، ليست دخيلة فيه، ولا غاصبة، ليست عادية علية ولا مستعدية، دولة تحمي ولا تهدد، تصون ولا تبدد، تقوي ولا تضعف، توحد ولا تفرق، تسالم ولا تفرط، تشد أزر الصديق وترد كيد العدو، لا تتحزب ولا تتعصب، لا تنحرف ولا تنحاز، تؤكد العدل، تدعم السلام، توفر الرخاء لها ولمن حولها للبشر جميعاً بقدر ما تتحمل وتطيق) وقد تم الأستفتاء على الوحدة وعلى رئيس الجمهورية العربية المتحدة في يوم 21/شباط/1958 .

وحدة دولتين

وقد وافق الشعب في سورياً بما يشبه الإجماع على وحدة الدولتين عندما سنحت له الحرية لإبداء رأيه، كما وافق أيضاً على انتخاب عبد الناصر رئيساً للجمهورية العربية المتحدة . لقد شكل قيام هذه الوحدة خطراً على مصالح الغرب في المنطقة العربية وعلى وجود الكيان الصهيوني في فلسطين وعلى وجود النظم العربية الرجعية الموالية للغرب . وفي مقدمتها السعودية المعادية للوحدة، حيث قامت الولايات المتحدة ومن خلفها الكيان الصهيوني في فلسطين بتوجيه السعودية على أغتيال عبد الناصر للتخلص من مشروعه الوحدوي الذي يهدد مصالح الغرب ووجود إسرائيل في المنطقة، فقامت السعودية في عهد الملك سعود بالإتصال بالمرحوم عبد الحميد السراج الذي كان يشغل آنذاك منصب رئيس المجلس التنفيذي في سوريا، وهو منصب رئيس وزراء وقدمت له شيك بمبلغ مليونا دولار لأغتيال عبد الناصر حيث كانت له زيارة معلنة إلى سوريا (الأقليم الشمالي) عام 1959، وقد سلم المرحوم السراج هذا الشيك إلى عبد الناصر، ويقال آنذاك إن عبد الناصر أستخدم هذا المبلغ في بناء برج القاهرة الحالي غير أن محاولات الغرب عموماً والولايات المتحدة خصوصاً والكيان الصهيوني والرجعية العربية واصلت مساعيها لفصل دولة الوحدة وقد نجحت في ذلك حيث شكل قيام الجمهورية العربية المتحدة نهوضاً قومياً وحدوياً لدى الجماهير العربية على أمتداد الوطن العربي من المحيط إلى الخليج بفعل المشروع الوحدوي النهضوي الذي قادته ثورة يوليو الناصرية منذ قيامها عام 1952 . حيث شكل قيام الجمهورية العربية المتحدة  طوق كماشة للكيان الصهيوني في فلسطين بين سوريا شمالاً ومصر جنوباً، كما أدى قيام دولة الوحدة إلى أستنفار القوى الإستعمارية والصهيونية العالمية ومعهم النظم العربية المرتبطة بالأستعمار، لمقاومة دولة الوحدة العربية، الوليدة (النواة) والعمل على إسقاطها . حيث كانت الجمهورية العربية المتحدة، تحمل مشروعاً وحدوياً تحررياً لإسقاط النظم العربية المرتبطة بالأستعمار والصهيونية من أجل تحقيق الوحدة الشاملة ولتحقيق هذا الهدف قادت الجمهورية العربية المتحدة حركة التحرر الوطني العربية دعماً وأسناداً فقامت الثورات في العراق حيث كانت على صلة بالضباط الأحرار وكذلك ثورة اليمن وليبيا، كما دعمت ثورة الجزائر منذ قيامها عام 1954 حتى أستقلالها عن فرنسا في عهد شارل ديغول عام 1962، وأذكر في لقاء مطول مع المرحوم المناضل أحمد بن بلا على دعوة عشاء في لندن أواخر تسعينات القرن الماضي قال إن عبد الناصر وقف مع الثورة الجزائرية منذ قيامها عام 1954 وقدم لها بشكل متواصل السلاح والمال وسخر وسائل الإعلام، لإسناد الثورة الجزائرية، وإن إشتراك فرنسا في العدوان الثلاثي على مصر مع بريطانيا وإسرائيل كان بسبب الدعم اللامحدود الذي قدمه عبد الناصر للثورة الجزائرية، وأضاف أن الولايات المتحدة قامت بإسقاط النظم التي تمثل كما سماها أجنحة لعبد الناصر، وهي نظام لومومبا وأحمد سكتوري في أفريقيا والنظام الذي يقوده في الجزائر بواسطة عميلهم عبد العزيز بو تفليقه ومعه هواري بومدين الذي وصفه بالشخص البسيط والذي كان سابقاً طالباً في جامعة الأزهر في القاهرة وهو الذي جلبه للثورة الجزائرية، وقد كرر في ثلاث مرات إنه ناصري، فالوحدة تمثل، إنجازاً تاريخياً للعرب حيث تخلصهم من التخلف العلمي والثقافي السائد الآن في البلدان العربية، وإنتشار الأمية والفقر السائد في مختلف الدول العربية بما فيها الدول النفطية بسبب التجزأة العربية والطائفية وحكم المتخلفين التي هي أساس كل الكوارث، التي حلت في بعض البلدان العربية وأدت إلى حروب أهلية وطائفية أو الصراع من أجل السلطة أو محاربة داعش، كما هو جاري اليوم في سوريا والعراق واليمن وليبيا والصومال، والسبب أيضاً الدكتاتورية وغياب الديمقراطية وبقاء الحكام في السلطة لعقود من الزمن في هذه النظم. والمعلوم إن داعش هي صناعة أمريكية، وهو ما أعترف به الرئيس الأمريكي الجديد ترامب في حملته الإنتخابية، من (أن إدارة أوباما هي التي جاءت بداعش) والهدف تدمير البلدان العربية التي تسببها حرب داعش لمصلحة الكيان الصهيوني في فلسطين . لذلك ليس مستغرباً أن يوافق الكنيست الإسرائيلي يوم 7/شباط/2007 مستغلاً الإنهيار العربي على قانون سمي بقانون التسوية يتم بموجبه بناء (4000) وحدة سكنية في الضفة الغربية و القدس، علماً يوجد الأن حسب المصادر الفلسطينية 600 ألف مستوطن في القدس والضفة الغربية، كل ذلك يجري في ظل غياب العرب و جامعتهم العربية في الدفاع عن الحقوق الفلسطينية التي أصبحت تحت سيطرة النظم العربية الرجعية المرتبطة بالغرب التي ترفض أي تفعيل لدور الجامعة العربية أو العمل على أصلاصها كما ترفض الوحدة كل أشكال الهيمنة والتبعية للقوى الإستعمارية، بفعل التجزئة والتشرذم العربي السائد الآن حيث تحقق الوحدة بديلاً لتلك التجربة التي تحقق السيادة العربية والأستقلال التام علماً إن كافة البلدان العربية الآن هي تحت الهيمنة والتبعية للغرب وخصوصاً الولايات المتحدة بشكل أو آخر . كما تحافظ الوحدة على الأرض العربية من الضياع والتجزئة والتقسيم،، فلو كانت هناك وحدة عربية، لما أستطاعت الصهيونية العالمية أغتصاب فلسطين بدعم الغرب وأسناده، ولما أنقسمت السودان بسبب الإسلام السياسي لحكم البشير الذي أضطهد المسيحيين في الجنوب وحاربهم والنتيجة إقامة دولة مسيحية في جنوب السودان ودولة إسلامية في شماله . والأهم من كل هذا إن دولة الوحدة تقيم الحضارة العربية وليس التجزأة العربية بحكم التكامل العربي للدول العربية المنظمة لدولة الوحدة أقتصادياً وعلمياً وثقافياً وبشرياً وأجتماعياً وغيره، حيث أن مقومات الوحدة وعناصرها متوفرة وقائمة في الشعب العربي المجزأ، تجمعهم العروبة أو القومية العربية ليس الآن بل  وقبل الإسلام فالقبائل العربية وإن لم تكن معروفة بهذا الأسم إضافة إلى اللغة والعنصر والثقافة والمصالح والأهداف المشتركة الواحدة غير أن القوى الأستعمارية ترفض قيام دولة الوحدة لأنها تضرب مصالحها التي لا تتحقق إلا في التجزئة العربية، كما هو سائد الآن . كما أن الدول بمفردها، كحال الدول العربية وهي صغيرة لا تستطيع في ظل الثورة العالمية المعاصرة ثورة الاتصال والمعلومات، وثورة الكومبيوتر، وهندسة الجينات ومعها إنتاج السلاح النووي، التكنولوجي ذات التدمير الشامل لا تستطيع هذه الدول فرادى أن تفي بحاجاتها التنموية مهما كانت قدراتها، كما لا تستطيع أن تحمي أمنها في مواجهة الدول الكبرى أو التحالفات الدولية، ذات القدرات التسليحية الهائلة، لذلك فإن وحدة البلدان العربية أصبحت ضرورة ملحة ليس فقط من أجل النهضة التي يحققها التكامل الاقتصادي وحده، وإنما أيضاً من أجل حماية أمنها في ظل دولة الوحدة التي تحفظ الأمن العربي في مواجهة التهديد الخارجي وردعه . والمعلوم أن القوى المعادية للوحدة هم الأستعمار والصهيونية العالمية والنظم العربية الرجعية وأحزاب الأسلام السياسي كلها، و أحزاب عربية سياسية كثيرة تبحث عن السلطة والمال ومنها حزب البعث الذي ساهم في فصل سوريا عن مصر وشارك في حكومة معروف الدواليبي الإنفصالية والموالية للغرب بوزير هو عبد الله عبد الدايم، وهناك وقائع كثيرة تثبت معاداة هذا الحزب للوحدة . فالشعوب المجزأة والتي تنتمي لأمة واحدة لها الحق في وحدتها، كما حدث في وحدة ألمانيا وإيطاليا في أوربا سابقاً وينطبق هذا الحق على الشعب الكردي المجزأ الذي ينتمي لأمة كردية واحدة، وهذا الحق مقرر في الإعلانات والمواثيق الدولية، بما فيها ميثاق الأمم المتحدة . كذلك فإن المناطق المحتلة التي يسكنها عرب تعتبر جزء لا يتجزأ من الأمة العربية كما هو الحال في منطقة الأسكندرونة ومينائها التي الحقها الأستعمار بتركيا عام 1939 وكذلك عربستان في إيران،وكذلك مدينتي سبته ومليله المغربيتين اللتان ألحقتا بأسبانيا، وفي هذا السياق لقد قامت ثورة الشباب عام 2011 في كل من مصر وتونس من أجل إقامة نظم ديمقراطية تضمن حقوق المواطنين وحرياتهم وتلبي مطالب الشباب في العمل والعيش بكرامة، غير أن تدخل الإدارة الأمريكية والمال القطري أحرفت هذه الثورات عن مسارها الحقيقي لصالح الإسلام السياسي فأستلم الأخوان السلطة في مصر والنهضة في تونس والذي سمي بالربيع العربي الذي تحول إلى ربيع أمريكي بأمتياز وهنا مارس الإسلام السياسي التمييز بين المواطنين في وظائف الدولة، وتعيين الموالين عديمي الكفاءات في مؤسسات الدولة ومرافقها العامة، وفي التدخل في شؤون القضاء ومارس سياسة الإقصاء لغير الموالين، كل ذلك بأسم الدين، مع ارتباط الإسلام السياسي بالإدارة الأمريكية، وقد أستطاع شعبي البلدين مصر وتونس لاحقاً إقصاء الإسلام السياسي من السلطة.

وضع مختلف

بيد أن الطائفية التي جاءت إلى بلدنا في العراق كانت في وضع مختلف حيث جاءت بها الإدارة الأمريكية في مؤتمر لندن الذي أقامته للمعارضة العراقية في 15 – 17/12/2002 حيث ترأس هذا المؤتمر خليل زاد الأمريكي من أصل أفغاني، وقامت الإدارة الأمريكية بجمع حوالي 600 شخص من العراقيين المقيمين في أوربا وبلدان عربية و أمريكا وتم الأجتماع في فندق هلتون في شارع (أجور رود) وسط لندن وقد دفعت الإدارة الأمريكية تكاليف هذا المؤتمر، وتمخض عن هذا المؤتمر تشكيل هيئة سياسية من 65 شخصاً تم تقسيمهم طائفياً وأثنياً سنة وشيعة و كرد وآشوريين وتركمان وغيرهم، وقد أنتقلت هذه الصيغة الطائفية نفسها على الحكومات العراقية المتعاقبة بعد سقوط النظام عام 2003، في عهد الحاكم المدني بريمر أبتداءاً بحكومة أياد علاوي ثم د. الجعفري، ونوري المالكي والآن حيدر العبادي وهكذا، وهي سياسة مدروسة من قبل الإدارة الأمريكية بهدف تدمير العراق وتخلفه بأسم الدين ولا قت ترحيب الكتل السياسية الطائفية السنية والشيعية لأن هدف هذه الكتل ليس إقامة مشروع حضاري، علمي أو ثقافي أو وحدوي، وغيره، وإنما مشروعها السلطة والثراء فحولت هذه الكتل الطائفية العراق إلى دولة غنائم، وقد سببت الطائفية في بلادنا ولا زالت التمييز الطائفي على أساس المذهب أو الدين، أي شيعي سني مسلم مسيحي وأدت هذه الطائفية إلى التمييز بين المواطنين في شغل وظائف الدولة وإلى الإقصاء بين المواطنين بسبب الطائفية السياسية، وبسبب هذا التمييز ساد العداء والكراهية، بين الطائفتين في الكتل السياسية السنية والشيعية على أساس المذهب أو بين الإسلام السياسي والمسيحيين على أساس الدين، وترتب على ذلك قتل عدد كبير من الأخوة المسيحيين الذين ساهموا في بناء هذا الوطن وهاجر عشرات الآلاف منهم إلى الدول الأوربية ولم يبقى منهم الآن إلاّ القليل، حيث يتمتعون بكفاءات علمية وثقافية واسعة . كما أدت الطائفية الى إنتشار حالات القتل والخطف الطائفي على أساس المذهب أو الدين في الشارع العراقي، وهي حالة قائمة ومتواصلة في عموم العراق . وقد شمل هذا القتل والخطف مقابل المال الآلاف من العراقيين وبينهم كفاءات علمية وأساتذة جامعات وأطباء وغيرهم، حيث ترتب على القتل الطائفي هروب الآلاف من الكفاءات إلى خارج العراق، إضافة إلى هروب مئات الآلاف من المواطنين العاديين إلى البلدان الأوربية كلاجئين، كل ذلك بسبب الأستبداد الديني الطائفي بأسم المحاصصة القائم اليوم في بلادنا، حيث تعيش بلادنا الوضع الذي كانت تعيشه أوربا في القرن الخامس الميلادي، من خلال الاستبداد الديني الذي كانت تمارسه الكنيسة والبابا على شعوب أوربا آنذاك، حيث أدى ذلك الصراع إلى ظهور حركات التنوير يقودها المثقفون وأساتذة الجامعات في مواجهة ظغيان الكنيسة والبابا الذي أدى في نهاية القرن الخامس عشر إلى سيطرة حركات التنوير على الكنيسة والبابا، فشرعت قوانين وضعية تم بموجبها فصل سلطة الكنيسة الدينية عن سلطة الدولة السياسية وحددت هذه القوانين مجال الكنيسة في الشؤون الدينية فقط دون التدخل في السياسة، وكذلك حددت سلطة الدولة كجهاز سياسي قانوني دون التدخل في الشؤون الدينية . بعد ذلك سادت الحرية شعوب أوربا بعد أن تخلصت من الأستبداد الديني . وفي أوائل القرن السادس عشر وحتى القرن التاسع عشر ظهر عصر النهظة الأوربية حيث تم وضع أسس وعناصر الديمقراطية للدولة الحديثة التي نعيشها اليوم مفكرين وفلاسفة أفذاذ مثل الحقوق والحريات، والمساواة  بين المواطنين، والسيادة وأستقلال القضاء وسيادة القانون، والتعددية السياسية وغيرها علماً إن الديمقراطية تعود في جذورها إلى عصر فلاسفة الأغريق العظام سقراط وأفلاطون وأرسطو بين القرنين الثالث والرابع قبل الميلاد . كما أدى إنتشار المليشيات في بلادنا إلى زيادة حالات الخطف والسطو على محلات الذهب والصيرفة والقتل أحياناً من خلال مداهمة البيوت وهي حالات، لم يذكرها الإعلام وإذا ذكرها يقول إنها حالات فردية غير إنها منتشرة في عموم البلاد . كما أدت المحاصصة الطائفية إلى شغل المناصب الرئيسة في الدولة، بما فيها بعض الوزارات و معظم أعضاء البرلمان من قبل عناصر غير مؤهلة وكفوءة بسبب الرشا بالمال والتزوير والحشد الطائفي للإنتخابات مما ساهم هذا الوضع في البلاد في الفساد الإداري والمالي حيث الرشوة والتزوير منتشرة في كل مكان في مرافق الدولة بما فيها القوات المسلحة من جيش وشرطة وأجهزة أمن وغيرها . كما أن المحاصصة الطائفية في سلطة الدولة أضرت بالسلطة القضائية التي تحولت إلى جهاز تابع للسلطة التنفيذية وعدم قدرتها في محاسبة المسؤولين عند أرتكابهم جرائم محددة . فالرقابة القضائية التي يجب أن تكون على تصرفات السلطة التنفيذية والقوانين التي يصدرها البرلمان وغيرها من الانتهاكات التي تمس حريات المواطنين وحقوقهم غائبة، علماً إن الرقابة القضائية هي أحد عناصر الدولة القانونية، لذلك يجب أن يشمل الإصلاح الجذري مجلس القضاء الأعلى بما فيه المحكمة الأتحادية، والتمييزية، والمدعي العام وغيرهم، فالسلطة القضائية لم تتدخل في كل ما يجري في بلادنا من فساد في الحياة السياسية، فهناك المال والرشا في كل الانتخابات التي جرت للبرلمان ومجالس المحافظات، وهناك المحاصصة الطائفية في سلطة الدولة ومؤسساتها وعلى خلاف المادة الأولى من الدستور التي تنص على أن نظام الحكم جمهوري، ديمقراطي، برلماني أتحادي، بل إن القضاء يأخذ بما يقرره المخبر السري بالتجسس على مواطنين واتهامهم بالإرهاب ومن ثم إعدامهم، وهي حالة لا وجود لها في دول العالم التي تحترم مواطنيها عدا العراق، فالمفروض بالقضاء العادل والنزيه والمستقل والمحايد أن يلغى على الفور هذا الأسلوب المتخلف في الحصول على الأدلة والمعلومات، علماً إن الحصول على المعلومات عن أي جريمة هو مهمة القضاء وحده وليس غيره ومن خلال قاضي التحقيق، ثم أن السلطة القضائية ساكته عن التعذيب الذي يجري بحق المعتقلين المتهمين وسحب اعترافاتهم بالإكراه وهذا يتعارض مع الإجراءات القانونية السليمة في التحقيق التي تلغي الحكم الذي تصدره المحكمة إذا صدر وفقاً لأدلة أخذت بالتعذيب حتى إذا كانت الأدلة صحيحة وهذا هو السائد في النظم القانونية المتمدنة ومنها بريطانيا.

إطلاق سراح

كما أن هناك آلاف المعتقلين الأبرياء موجودن في السجون منذ سنوات لم تصدر بحقهم أحكام أو يطلق سراحهم، وهذه مهمة القضاء في إطلاق سراحهم إضافة إلى التحقيق مجدداً بحق الذين صدرت بحقهم أحكام بموجب تقارير المخبر السري وإطلاق سراحهم، ومن الجدير ذكره هنا إن الكرد بالرغم من حضورهم مؤتمر لندن للمعارضة العراقية الذي وضع أسس الطائفية إلاّ أنهم أستبعدوا تماماً مسألة الطائفية في حكم الأقليم ومارسوا الديمقراطية بعيداً عن تدخل الدين في السياسة وبالعكس في حكم الأقليم وسلطته، بالرغم من وجود أحزاب إسلامية فاعلة لها ممثلين في برلمان أقليم كردستان، لذلك ليس في شعب الأقليم إقصاء أو خطف أو قتل طائفي، وبذلك تحول الأقليم إلى منطقة أمن وأستقرار ومنطقة جذب للعرب والعراقيين للأستجمام أو الإقامة في الأقليم . وكان على الحكومات العراقية المتعاقبة أن تستفيد من التجربة الرائدة للأقليم، وفي هذا السياق إن الفكر القومي الديمقراطي يرفض كل أشكال التعصب والمذهبية الدينية والطائفية السياسية في العمل السياسي وفي سلطة الدولة لأن هذه الأفكار البالية، تمزق وحدة الشعب، وتجلب العنف والجريمة . بل إن الطائفية تكرّس الإنغلاق والتعصب والتقوقع على المذهب الطائفي، من أجل صياغة المجتمع على أسس طائفية، مناقضة للأنفتاح الفكري و الثقافي المحلي والخارجي . كما أن البناء الطائفي للمجتمعات يخلق الجهل والتخلف، ويساهم في بلورة ردة فكرية ثقافية للإنسان . فالمجتمعات البشرية التي تبني على أسس مذهبية أو طائفية لن تتطور أو تتقدم أو تساهم في بناء الإنسان الحر والمبدع الذي يشيّد الفكر والثقافة والحضارة في بلده كخطوة أولى  للمساهمة في بناء الحضارة الإنسانية . وبحكم الطبيعة الفكرية والسياسية للفكر القومي العربي الديمقراطي، فإن هذا الفكر يرفض وبشكل قاطع أي سلوك أو ممارسة طائفية أو مذهبية في النظام السياسي . كما يقف الفكر القومي الديمقراطي دائماً في مواجهة الطائفية المذهبية أو الدينية، وفي النقيض منها ويعمل على ألغائها أو إزالتها في العمل السياسي . فالحركة القومية العربية تمثل أمة بعينها، في حين تمثل الطائفية، جزء صغير لأمة، فالأمة تضم أعداداً كبيرة من الطوائف والمذاهب والأديان إسلامية ومسيحية أو غيرها، تتعايش و تتجانس في ظل الديمقراطية تحت سقف واحد تمثله هذه الأمة، ومن الجدير ذكره هنا أن ثورة يوليو الناصرية عام 1952 رفعت راية القومية العربية على أمتداد الوطن العربي في خمسينات وستينات القرن الماضي، والتي تمثل بداية النهضة العربية، وهي فترة المد القومي، الوحدوي، التي أنحسر فيها نفوذ الأستعمار وهيمنة على البلدان العربية، وقامت فيها دولة الوحدة ممثلة بالجمهورية العربية المتحدة عام 1958 في زمن كانت فيه البلدان العربية خاضعة كلها للأستعمارين البريطاني والفرنسي . بل إن بعض البلدان العربية لم تكن قائمة آنذاك . وإذا كان القوميون الوحدويون عملوا على تجديد الفكر القومي على أسس ديمقراطية بكل عناصرها، فإن ذلك يعود إلى وعيهم السياسي والحضاري، وبسبب التطور الإنساني والحضارة الإنسانية التي أقامتها الثورة العلمية – التكنولوجية المعاصرة التي غيرت الكثير من المفاهيم التقليدية في الفكر والعمل السياسي . لذلك فإن الواجب يقتضي من علماء المسلمين ومراجعهم الأساسية الموكول إليها إبداء الرأي، العمل على إيجاد أجتهاد جديد للحاجات الجديدة والوقائع المستجدة التي أفرزتها وتفرزها الحياة الإنسانية المعاصرة بفضل العلم والتطور الإنساني لكي يتلائم ذلك مع التطور الحضاري للإنسان وتطور المجتمعات، حيث سبق للفيلسوف العربي أبن رشد قبل أكثر من ألف عام الذي كان مثالاً للتحرر والفكر الرصين، وكان يرى أن الوقائع الجديدة تحتاج إلى أفكار جديدة وإن التطور الجديد سببه الأفكار الجديدة، ولهذا قال (إذا حدث تعارض بين النص والمنطق، فإنه يجب الأحتكام إلى، العقل والمنطق لا النص)، وهذا القول يؤكد على أن النصوص والقواعد التي وضعت لحالة أجتماعية معينة، إنها ثابتة لا تتغير بتغير الزمان والمكان، في حين نجد المجتمعات هي التي تتغير بحكم التطور الحاصل في تلك المجتمعات، وهذا يؤدي إلى أن يصبح النص الذي وضع لمعالجة حالة معينة في هذا المجتمع أو ذاك قد أصبح متخلفاً وتخطاه الزمن بحكم التطور، أي أن النص لا ينطبق على الوضع الجديد، لذلك فإن تجاوز النص ليس خطأ أو خللاً، لأن النص لم يعد ملائماً لمعالجة الأوضاع الجديدة التي أوجدها التطور، وهنا تكون المعالجة بالأحتكام إلى العقل وليس النص، الذي لم يعد له وجود وتخطاه الزمن والتطور . إن الآراء التي طرحها أبن رشد في هذا المجال تساهم في تطور المجتمعات ورفض التخلف، فهي آراء تساهم في بناء الحضارة والتقدم العلمي التكنولوجي في أجيالنا المعاصرة، لذلك فإن الأفكار المتقدمة التي نادى بها الفيلسوف العربي أبن رشد يجب الأقتداء بها وتطبيقها في زمن أجيالنا المعاصرة، لأن هذه الآراء تصلح مع غيرها من أفكار جديدة متطورة في بناء النهضة والحضارة العربية، بالرغم من أن أبن رشد عاش في القرن الرابع الهجري في عصر الدولة العباسية، إلاّ أن أفكاره كانت سابقة لعصره، وهي صالحة للتطبيق في عصرنا الحاضر، عصر الثورة العلمية التكنولوجية المعاصرة، وفي هذا المجال لا يوجد هناك أدنى شك أن الفكر القومي العربي يسعى دائماً إلى توحيد أمة عربية جزأها الأستعمار ويتمسك حكامها منذ زمن بعيد بهذه التجزئة حتى اليوم، بهدف الحفاظ على السلطة والنفوذ وجمع المال، وهذا الواقع العربي المقسم والمجزأ يحقق مصالح وأهداف القوى الأستعمارية ومعها الصهيونية العالمية في التبعية والهيمنة على البلدان العربية وهو ما قائم اليوم . إن الفكر القومي الديمقراطي، يعمل على تحقيق أهدافه الأساسية في إجراء عملية تطوير وتجديد للوضع العربي السائد أجتماعياً وأقتصادياً وثقافياً وسياسياً للدخول في نهاية المطاف في عملية توحيد شاملة وكاملة لشعوب أقطار هذه الأمة المجزأة، بصرف النظر عن الانتماء الطائفي أو المذهبي أو الديني لأبناء هذه الأمة أو الإنتماء العشائري أو القبلي فيها . فالفكر القومي يمثل الإنفتاح الشامل نحو العالم، من أجل بناء حضارة عصرية، تقوم على العلم والتقدم، والأستفادة من ثقافة وعلوم الشعوب الأخرى، من أجل النهوض العربي فكرياً و ثقافياً وعلمياً والأعتماد على طاقاتنا العربية الخلاقة، لتعزيز هذا النهوض العربي والأبتعاد عن كل الشوائب والنزاعات أياً كان نوعها طائفية أو مذهبية التي تشكل عائقاً في تطورنا وتقدمنا الفكري والعلمي والثقافي . ويمكن القول إن الحرية بكافة أشكالها المقررة في الدساتير وكافة الشرائع والقوانين ولوائح حقوق الإنسان تخص الإنسان وحده ولخدمته،بهدف تطوير قدراته الفكرية والإبداعية من خلال تمتعه بالإرادة التي تمنحها الحرية، وإن هذه الإرادة تطلق الفكر والإبداع في ظل الحرية، حيث تشكل عامل أساسي في تعزيز الفكر القومي الديمقراطي وتطويره بجانب تطور العلوم والثقافة في الوطن العربي . فالفكر القومي يؤمن بالديمقراطية ويجب أن يطبقها في ممارسته لسلطة، الدولة، ويجب أن يضعها في صلب برنامجه السياسي، وأن يروج لها في مختلف المنابر الإعلامية المتاحة . لأن غياب الديمقراطية في النظام السياسي، بمعنى هذا حلول الديكتاتورية ومآسيها، وهذا يتنافى مع قيم العصر الذي نعيشه اليوم ومع الحضارة التي نسعى لتحقيقها . إن بناء الإنسان العربي الواعي والمبدع، لا يتحقق في ظل نظم عربية متخلفة ثقافياً وفكرياً وعلمياً ولا في ظل نظم معادية للديمقراطية تسعى للسلطة والحكم ولا في نظم طائفية تفتت الشعب وتعادي الحضارة.

نسف مشروع

كل ذلك يساهم في نسف المشروع العربي النهضوي من أساسه، والقضاء عليه وهو المشروع الذي تسعى القوى الحية في الوطن العربي لتحقيقه، حيث به نبني النهضة العربية، وتنطلق الأهداف القومية الوحدوية، وتقام الحضارة، عندها يأخذ العرب مكانهم الحقيقي بين الأمم المتحضرة في العالم ويتبأوا دورهم الفاعل في الشؤون الدولية . وأخيراً وبإيجاز شديد، إن الحلول الترقيعية للإصلاح التي تسعى إليها الكتل السياسية الحاكمة في العراق، مثل تعيين تكنوقراط في الحكومة أو مؤسسات الدولة أو المصالحة الوطنية هذه الأمور وغيرها لا علاقة لها بالإصلاح الحقيقي والجذري الذي ينقذ البلاد من الهاوية والمستقبل المجهول . فالوضع السياسي والإجتماعي والأقتصادي والثقافي في البلاد يسير من سيء إلى أسوأ، ولاحل في الأفق في ظل هذا الوضع القائم، فهناك حل وحيد لحل كافة المشكلات في العراق هو فصل الدين عن السياسة في العمل السياسي أي عدم تدخل الدين في السياسة وبالعكس وما يتبع ذلك إلغاء المحاصصة الطائفية في العمل السياسي، وحرمان العمل السياسي للأحزاب التي تمارس السياسة بأسم الدين، وإقامة ديمقراطية حقيقية في البلاد بعناصرها الأساسية، وهي الحريات العامة ومنها الحريات الشخصية وفي مقدمتها حرية التعبير، والمساواة بين المواطنين دون تمييز بسبب اللغة أو الدين أو المذهب أو العنصر أو اللون أو الثروة أو الحسب أو النسب وغيره، وتطبيق سيادة القانون أي خضوع الحكام والمحكومين للقانون دون تمييز ودون قيود أو تدخل من الدولة كما يحدث الآن في العراق في قانون الأحزاب الأخير الذي وضع تفصيلاً لصالح الكتل الحاكمة الثرية وهو مرفوض في النظم المتحضرة . مع إحداث ثورة علمية ثقافية في البلاد ويشمل ذلك الدراسات الأولية والثانوية والجامعة والدراسات العليا مع فرض التلعيم الإلزامي للدراسة الأبتدائية فالشعوب لا تنهض و تتطور إلا بالعلم والثقافة، إضافة إلى إقامة الصناعات المختلفة وتطوير الزراعة وعدم الأعتماد على مصدر وحيد هو النفط . فاليابان وألمانيا لا تملكان النفط ولكن بسبب العلم والثقافة هما الأن ثالث ورابع أقتصاد في العالم، وحل كافة المليشيات في البلاد أو العمل على أنتماء أعضائها بشكل منفرد للقوات المسلحة كجنود و تحت القيادة العسكرية إذا كنا جادين في بناء دولة مؤسسات بلا ميليشيات أو طوائف لأن وجود هذه المليشيات هو أحد أسباب الفوضى في البلاد مع رفض كل أشكال الهيمنة والتبعية للقوى الخارجية من أجل الحفاظ على سيادة البلاد وأستقلالها المستباحة الآن والعمل على بناء قوات مسلحة مهنية بعيدة عن السياسة والانتخابات وإعادة التجنيد الإلزامي، للحفاظ على سيادة الوطن و أمنه وهذا هو شأن الجيوش في العالم، إن ما ذكرناه مجرد نقاط محدودة للإصلاح وإن كانت جوهرية  وهناك نقاط كثيرة أساسية وفرعية لا مجال لذكرها، حيث بدون هذا الإصلاح أو التغيير وبقاء الوضع على حاله فإن الفوضى ستستمر وتزداد ويتجه العراق نحو المجهول.

مشاركة