بعد خمسين عاماً على إنشاء القسم العربي في الإذاعة البريطانية

بعد خمسين عاماً على إنشاء القسم العربي في الإذاعة البريطانية
تجديد الشباب وكسب مستمعين جدد
سلوى جراح
في أواسط الثمانينيات عُدتُ لفترة إلى قراءة الأخبار. في أحد الأيام كنت في الأستوديو أقوم بالربط بين البرنامج، دخل علي مدير وحدة البرامج وطلب مني أن أترك العمل في الأخبار لأقدم وأعد برنامجاً جديداً، يهدف إلى جذب الشباب للاستماع إلى البي بي سي، ويتحدث عن طموحاتهم في الدراسة والعمل ومشاكلهم الصحية والنفسية. وافقت وأنا أتحسر على ترك العمل مع روني آيك، وبدأت بإعداد وتقديم البرنامج الجديد الذي حمل اسم مع الشباب . بعد الفرحة والترحيب بالبرنامج الجديد، وجدت نفسي في الاسابيع التالية أبذل جهداً لا يستهان به في إقناع الرجل الذي لم يكن عقله الباطن قد تقبل بعد فكرة البرامج الخفيفة، بجدوى ما اخترت من مواد. كان يرى أن الموسيقى غير مهمة ومضيعة لوقت البرنامج، والرياضة من اختصاص البرنامج الرياضي، أما الصحة فتصلح لبرنامج لكل سؤال جواب، والحديث عن الجامعات البريطانية تعدٍ على برنامج صور من بريطانيا. كنت أخوض المعارك معه كل اسبوع حتى قلت له يوماً مغاضبة لم لا تعد وتقدم البرنامج بنفسك؟ نظر إلي بعدم اكتراث، ربما لأنه كان مدركاً أنه غير قادر على إعداد برنامج من نصف ساعة وأنه لم يفعل ذلك حتى قبل أن يصبح رئيساً لقسم البرامج. هنا لابد أن أقول إن إدارة البي بي سي كانت تطمح إلى تطوير القسم العربي لكن عقلية المدير العربي كانت تفسر الأمور حسب أهوائها، عقلية جيل يرفض المتغيرات الجديدة ويريد التشبث بالماضي، ويتعالى في دواخله على القادمين الجدد وأفكارهم الشابة. مع ذلك كانوا يُصرّون على إلحاق الموظف الجديد بالعديد من الدورات التدريبية، ربما لأنهم كانوا يعتبرونها امتحاناً صعباً.
عيد ميلاد اذاعة
كنت أستمتع جداً بالدورات التدريبية في بوش هاوس التي يديرها متخصصون في التدريب الإذاعي، وتجمع العاملين في البرامج من كل أقسام اللغات المختلفة ومنها القسم العربي، الذي كان، أكبر قسم بعد الإذاعة العالمية للبي بي سي. دخلت العديد من الدورات في إعداد البرامج وإجراء المقابلات وإدارة الحوارات وتعلمت منها الكثير، بل جعلتني أفكر في أساليب جديدة لعمل البرامج. في إحدى هذه الدورات المبكرة، أعددت برنامجاً بالإنكليزية من عشر دقائق عن نظرة الرجل إلى جمال المرأة، الرشاقة والامتلاء، رياضة الإروبيكس التي كانت منتشرة في الثمانينيات. أجريت مقابلات قصيرة بوب بوكس ، واستعنت ببعض الأغاني الشائعة. حين استمعت اللجنة لبرنامجي قالوا لي لم لا تعرضينه على إذاعة البي بي سي العالمية وسيذيعونه. تمنيت أن يكون مديري حاضراً في تلك اللحظة.
في عام 1988 احتفل القسم العربي بمرور خمسين عاماً على تأسيسه، وبدأت فكرة تجديد شباب الإذاعة العجوز التي اشتهرت بتغطيتها الإخبارية الجيدة المدعومة بتقارير مراسليها حول العالم وبرامجها الثقافية القوية. كانت الإدارة العليا للبي بي سي تدرك أن الزمن يتغير خاصة مع ازدياد شعبية إذاعة مونت كارلو وأن عليها أن تواكب وتقدم البرامج الخفيفة المسلية إضافة إلى برامجها الثقافية الناجحة. كان أول تلك البرامج قمة أغاني البوب . قدمت الحلقة الأولى وأنا أحاول أن أكون دي جي عربية وأمازح المستمعين. ثم توالت البرامج المتنوعة وبدأت بعض البرامج القديمة تختفي ببطء شديد.
في تلك السنوات كنت أعد وأقدم برنامج الواحة الذي يستضيف شخصية مرموقة ويضعها في عزلة لتتحدث عن نفسها وأحلامها وتختار كتاباً ومقطوعة موسيقية يؤنسان وحدتها. التقيت العديد من الشخصيات المهمة من المخرج يوسف شاهين والمطربة صباح ونزار قباني ونضال أشقر، إلى سميح القاسم ومظفر النواب، ومحمد رشدي والروائي يحيى حقي ونجم السينما أحمد مظهر. وكنت كلما ذهبت لحضور أيام معرض الكتاب في القاهرة، أو زرت بلداً عربياً، أستضيف العديد من الشخصيات الأدبية والفنية في الواحة. وحين تقاعدت زميلتي أولجا جويدة بدأت بإعداد برنامجها الثقافي موزايك . كان فرصة للانطلاق في عالم الادب والسينما والمسرح. أحببته وتفانيت في العمل فيه. إحدى حلقات البرنامج التي أعددتها من القاهرة من معرض الكتاب، عن أزمة الكتاب العربي، تضمنت مقابلات قصيرة مع كل من نجيب محفوظ وعبد الرحمن الأبنودي وأحمد بهاء الدين وجمال الغيطاني ويوسف القعيد ولطفي الخولي. أحسست بالسعادة البالغة وأنا أستمع لنتاجي. وبالمناسبة كان مديري السابق قد تقاعد وتم دمج وحدة الموسيقى بوحدة البرامج وبدأ عصر جديد.
اشهر البرامج
نهاية الثمانينيات كانت بلا شك بداية عصر جديد. تطورت تكنلوجيا الاستوديوهات وأصبحت المقابلات عبر الهاتف سهلة، كما بدأ عصر البرامج الحية، البرامج الأقل كلفة من البرامج المسجلة. فقد ظهر فكر جديد في هيئة الإذاعة البريطانية، أسموه في وقتها Producer,s Choice ، خيار المخرج. صار على كل مخرج أن يقتصد في ميزانية البرنامج الذي يقدمه، وتقلصت فترة الإعداد وأصبح وقت الاستوديو محدوداً، وبدأت سكرتيرات البرامج يختفين تباعاً وأصبح لكل مجموعة من البرامج سكرتيرة واحدة تهيئ عقود المشاركين وتنظم حجوزات الأستوديو. حتى مهندس الصوت فقد مساعده بعد ظهور الاسطوانات الرقمية سي دي التي يمكن توقيتها بسهولة وكادت تختفي الأسطوانة السوداء حتى للموسيقى الكلاسيكية. والأهم من كل هذا وذاك أن ساعات بث القسم العربي ازدادت على مر السنين حتى أصبحت تغطي اليوم بساعاته الأربع والعشرين.
اشتهر القسم العربي ببرنامجين إخباريين يقدمان على الهواء، عالم الظهيرة بعد نشرة الواحدة بتوقيت غرينج، وعالم المساء الذي يلي نشرة السادسة مساء. أضيفت في تلك المرحلة برامج إخبارية جديدة وظهر برنامج يقدم في الثانية ظهراً على مدى ساعتين أطلق عليه اسم البرنامج المفتوح . كنتُ ومجموعة صغيرة من الزملاء والزميلات نتناوب على إعداده وتقديمه. كان برنامجاً يتناول أحداث العالم بعيداً عن التحليلات الإخبارية والسياسية، وتتخلله أغان وأخبار الرياضة والكثير من الحوار الحي بين مقدميه. كان إعداده يتطلب الكثير من الجهد في البحث عن جوانب جديدة للأحداث وإجراء المقابلات عبر الهاتف مع شخصيات مختلفة حول العالم العربي. كنا لأول مرة نتحدث في شؤون السياسة والأدب والفن وكل جوانب الحياة لا من خلال ترجمة ما يكتبه الكتاب المتخصصون، بل عن طريق المقابلات الإذاعية والمراسلين العرب الذين بدأوا بالظهور في كل عاصمة عربية. فقد كانت البي بي سي في الماضي ترفض تماماً فكرة أن يكون مراسلها في أي بلد في العالم من مواطنيه لأنه لن يستطيع التعامل مع أي موضوع بحرية المراسل الأجنبي. لكن التكنلوجيا التي كانت تتطور بسرعة غريبة، غيرت العديد من المفاهيم، ولأن أمام جبروتها أشد القوانين صرامة.
كان البرنامج المفتوح متنفساً جديداً للعمل الإذاعي، فالحديث على الهواء في برنامج حي متعة حقيقية فيها تحد للإجادة وتجنب الأخطاء، وتزيد الاحترام لقطعة الحديد التي تنقل إلى العالم ما نقول في لحظة قوله. كنت دائماً أحترم مستمعي وأحسب ألف حساب لمن يمكن أن يكون في تلك اللحظة يستمع لي، لكن البرنامج الحي شيء مختلف، حتى عن نشرة الأخبار، هو يشبه لحظة الظهور على المسرح أمام الجمهور، لحظة خوف لا تدوم لأكثر من بضع ثوان ثم تبدأ المتعة في تقديم ما لديك واجتذاب المستمع إلى المائدة العامرة التي عملت طوال اليوم في إعدادها.
AZP09