برقيات قصصية تقتنص الومضة – نصوص – إيناس البدران

الخيانة العظمى في إبداع حنون مجيد

برقيات قصصية تقتنص الومضة – نصوص – إيناس البدران

 من المعروف ان القصة هي أولى الانواع الأدبية طبيعة وإستمرارا وأنها كغيرها من الأجناس الادبية لم تســــــــــــتقر على شكل محدد واحد بل مرّت بمراحل وأطوار عدة اذ نمت من جذور الاساطير والملاحم مرورا بالحواديث الشعبية والحكايات حتى وصلت الى ما وصلت اليه , كما انها اكثر الفنون الادبية ديمقراطية فكل فرد بمقدوره ان يروي حكاية وقد يجد من يصغي اليها ، اما القاص فهو وحده القادر على الكتابة ومقاربة الحياة بفرادة تجذب الانتباه و بعمق يســــبر أغوار النفس البشرية وطبائعها .

   فالقصة الجيدة تبدو لغير الكاتب سلسة كالزواج الناجح من السهل ظاهريا تحقيقه ، اما بالنسبة للقاص فهي قضية اخرى ، انها مزوج من صراعات شتى يضم بين ثناياه جهدا واعيا لحواس راصدة لتلتقط ما لا يلتفت اليه الانسان العادي المشغول بهموم و روتينات الحياة اليومية المبتذلة .

   ولكل كاتب هدف من كتاباته فهذا ميشيل بوتور مثلا يرد على تساؤله .. لماذا نكتب ؟ بقوله ” نكتب من اجل ان نقرأ ” وهو امر لا يختلف عليه اثنان فالعلاقة بين الكاتب والقاريء ظلت وستبقى علاقة تبادلية لا غنى فيها لأحدهما عن الاخر وشرطا لديمومة العطاء الابداعي ، في حين يقول التكرلي ” انا أكتب لأني اكتب اما الاهداف التي اردت ايصالها للقاريء فهي ليست اهدافا تعليمية ولا سياسية و لا تربوية ومن الصعوبة ان نقول عنها انها فلسفية ، كما بودي ان يتمتع القاريء اولا وأن يعي عن طريق المتعة ان امكن بعض الامور التي اعتبرها جوهرية في الحياة ” .

  فالأديب يخاطب المتلقي بكتاباته يحاوره يؤثر فيه يمتعه يخبره مع هدف اسمى هو تزويده دونما وعظ او مباشرة بكم من الخبرة والحكمة وما استخلصه من المعرفة خلال مشواره الطويل ، ذلك ان من اولويات القاص الفذ ازالة غموض العالم والقشور عن طبائع ومشاعر الناس ، والكشف عن جوهر الاشياء بشجاعة وعفوية.

   في مجموعته” الخيانة العظمى  ” يستجمع القاص حنون مجيد كل عناصر المعرفة والخبرة والرؤى وكل ما هو مدرك ومحسوس ليصهرها جميعا في بوتقة اللغة التي تستحيل المصهر او الفرن الذي يشكل فيه عجينة النص ، وهذا ما يوضح الجهد الفردي في نصّه من خلال امتزاج المعرفة بالتجربة بمعنى استحصال معرفة لا تتأتى الا بعد تحليل صائب لتجربة ذاتية مع امكانية اغتراف افكار من وحي الخيال ومن صلب الواقع بعد خضوعهما لتأثرات الذات والذاكرة وخزينهما.

   اختار حنون مجيد في قصصه القصيرة جدا لقطات اختزلت في مداخلها جوهر الدراما والخبرة الانسانية لتعبّر عن هموم وتجليات الانسان المعاصر مترجما نوازع ودواخل الذات العراقية التي تمور عاطفة وتتقوقع خوفا او خجلا تتشظى تعصبا وتناقضا وتذبذبا بين رفض و إمتثال لواقع مفرط في قســـــــوته .

   ولعل ابرز ما يميز قصة الومضة كلون قصصي فرض نفسه بقوة على الساحة الادبية هو الاختزال فبضع كلمات لها دلالاتها العميقة ناهيك عن اعتماد الابتكار والمفارقة والتجديد في الافكار والمعاني والكلمات وهذا ما يتجلى في قصصه مثلا في ومضة فقراء ” لأننا فقراء تتكدس في بيوتنا السلع التالفة ”  وفي ومضة  مدى البحر  ” لم يتراء لي منه الا رأسه ، لقد غمر نفسه في رمل الساحل واستنام للدفء المكنون وثمة مويجات مد يتناوبن بلين على حافة قبره ..” او في  اضراب  ” بدأ لا يأكل الطعام لأن الطعام بدأ يأكل اسنانه ” او في وعد ” سأجلب اليكم اجمل الهدايا عندما يحين العيد اغلاها كذلك .. ولم يحن العيد  ” وفي ومضة تاوي  ” سأل رجلا تاويا مستسلما للموت :

-لماذا يا سيدي لا تعبأ بالموت ؟

-رد الرجل التاوي عبر سكرات موته :

-لأن الحكّام يطلبون ثمنا باهظا للحياة “

   أمام هذه النماذج التي عرضتها نجد ان كتابة قصة من هذا النوع ليست عملية استنساخ للواقع عبر ترتيب افكار تدور في الذهن بقدر ما هي عملية توليد لأفكار جديدة عبر هدم الواقع وإعادة صبّه  وصياغته على الورق وفق رؤى القاص ومن وجهة نظره ، عملية تأخذ بها الروح والمخيلة مداهما دون كوابح من أي نوع فهي خلاصة اقتطاف ومضة خلاص من  واقع جاثم بضغوطه وغثياناته على رئة الوعي والاحساس ، ففي الحياة والخيال ثمة لحظات متوهجة ومواقف لا تستوعبها الا قصة الومضة ، حيث يمتلك القاص خاصية الاختيار لمواقف يتوقف عندها وتثير لديه الشهية للكتابة وكلها محاولات لفهم وعي ثقافي جديد مضمّر في ادراج العقل يتبلور لينبثق فارضا نفسه كومضة لاذعة ، فالكشوفات عن اسئلة الوجود وماهية رؤية القاص الكونية هي برقيات قصصية يبثّها الى القاريء المعاصر الذي لا يتسع وقته الا لها .