بدايات ونهايات متشابهة – نصوص – زهير‮ ‬غازي‮ ‬زاهد

البنية والقصص في التعبير القرآني

بدايات ونهايات متشابهة – نصوص – زهير غازي زاهد

الحديث عن البنية في التعبير القرآني يعني الحديث عن الكلمة أو اللفظة ، وهو يختلف لو كان العنوان ” بنية التعبير القرآني ” لأن الحديث عن بنية التعبير القرآني يعني الكلام في جوانب ثلاثة : أحدها بنية الكلمة ، وهو الذي نتكلم عنه هنا ، والآخر بنية تركيب الجملة أو الآية القرآنية ، والثالث بنية النص القرآني في السورة أو السور ، وهذا ما سيأتي الحديث عنه في الموضوعات والأساليب الآتية .

البنية هي الصيغة الصرفية للكلمة ، والكلمة هي الوحدة المعجمية ذات المعنى عند النطق بها أو كتابتها في تركيب الجملة ، فصيغة ( فاعل ومفعول) هما بنيتان لمعنى وظيفي صرفي يمكننا صوغ ما شئنا من الكلمات عليهما ، أما كاتب ومكتوب فهما كلمتان في المعجم نستعملهما وننطق بهما في جمل .

والكلمة التي نعني بها هي المفردة ذات الصيغة الصرفية والأصول الاشتقاقية ، وهناك مفردات في اللغة ليست ذات أصول اشتقاقية دعيت الأدوات أو حروف المعاني وكذلك كنايات الضمائر المختلفة والموصولات وأسماء الإشارة .

لقد استعملت الكلمة ذات المعنى المعجمي والصيغة الصرفية في القرآن استعمالا دقيقا ، وكان بناؤها بناء محكما متوازناً صوتيا ومتوازياً في ترتيب حروفها بحيث لم تكن وحشية أو متنافرة الحروف ، خصوصا حين تركب مع غيرها في جملة ثم هي متوازنة دلاليا أيضا فيها من الخصائص التي وصفها أهل البيان بالفصيحة ، أما الكلمات التي وصفت بالغريبة وألفت فيها رسائل وكتب تحت عنوان ( غريب القرآن ) فكلها كانت غريبة في دلالة استعمالها لا غرابة صيغتها ، وذلك إبداع ومن صفات الاعجاز ، نحو قوله تعالى (ثُمَّ نَبْتَهِلْ ) في الآية (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ )آل عمران61   فنبتهل : معناها نلتعن ، أي يجتهد كل منا في الدعاء واللعن على الكاذب(1).

وقوله تعالى : (تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ ) آل عمران – 71 معناها تخلطون الحق بالباطل (2).

( إصّري ) أي عهدي (3) في الآية الكريمة (قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنْ الشَّاهِدِينَ ) آل عمران – 81 .

وهكذا كل ما سمي ” غريب القرآن ” فهو الاستعمال الجديد القرآني للألفاظ والتراكيب بمعانيها الجديدة،ومنهم من سماه ” مشكل القرآن ” وآخر سماه “مجاز القرآن”(4).

ومن الظواهر الفنية في صيغ الكلمات في التعبير القرآني تخفيف الكلمة ولو بتغيير هيكل بنيتها لتنسجم مع أخواتها في القراءة كما في قوله تعالى : (مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ ) البقرة – 98  استعمل ” جبريل ” قلبت همزتها ياء مناسبة للكسرة ، وميكائيل تحولت إلى ميكال .

وفي قوله تعالى : (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ ) التين  1 – 2 طور سيناء تحولت إلى (سينين )

وكثيرا ما تحذف ياء الإضافة أي ياء المتكلم في النداء خاصة كقوله تعالى : (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِي مُؤْمِنًا ) نوح – 28

وقوله : (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنْ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ …) يوسف – 101 حذفت ياء الإضافة من ( ربي ) ومثله كثير في القرآن .

وكثيرا ما تحذف ياء المنقوص المقترن بـ ( آل ) ويبقى صوت الكسرة دليلا عليها ويفهم كل ذلك من السياق نحو قوله تعالى : (أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ) البقرة -186

حذفت ياء المنقوص من الداعي كما حذفت ياء المتكلم من دعاني ، وبقيت الكسرة كقوله تعالى : (… يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاَقِي ) غافر – 15

وقوله : (وَيَقُولُ الذِينَ كَفَرُوا لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ) الرعد – 7

وقوله : (عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِي ) الرعد -9

ومنه كثير في التعبير القرآني اختصار ياء المنقوص بصوت الكسرة وك-لك كثيرا ما نجد السياق يشير إلى أسلوب النداء من دون ذكر حرف النداء ، كما في قوله تعالى : (يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَ-َا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ ) يوسف – 29

وقوله (رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ ) إبراهيم – 4  هنا حذف حرف النداء في يا ربنا كما حذفت ياء الإضافة وصوت الكسر دليل عليها .

ومثله كثير في القرآن الكريم أيضا وقد تتعدد دلالة الكلمة سواء أكانت من المشتقات أم من الأدوات ، وهو ما سمي بالأشباه والنظائر أو الوجوه والنظائر ، والسياق هو الكفيل بتحديد المعنى ، وهو ما سمي المتشابة أيضا ، وذلك من علو لغة القرآن ودقة استعمالها للمفردات بمعان متعددة ، وهو السبيل لجعل الألفاظ تستوعب المعاني اللامتناهية للتوسع في الاستعمال اللغوي ، فالكلمات والأدوات مهما كان عددها فهي محدودة لكن المعاني غير محدودة فعالجت اللغة ذلك بالاتساع في تعدد دلالة الألفاظ ، لاستيعاب المعاني غير المحدودة ، وذلك يظهر طاقة العربية في التعبير القرآني ، اذكر أمثلة لذلك . الفعل ( أتى ) في قوله تعالى:(أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُون) النحل-1 فالفعل يدل على القرب ، ولكن في قوله تعالى يدل على المفاجأة والمداهمة : (بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ ) الأنبياء – 40

وقوله : (قَالُوا إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنْ الْيَمِينِ ) الصافات – 28

وقوله : (أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَ-َابِ اللَّهِ ) يوسف – 107

وقوله : (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا ) البقرة – 189

ونحو قوله ( قَدَرَ ) تأتي لمعان متعددة مع الاستعانة في تحديد المعنى بسياق الآية فهي تدل على القضاء في قوله تعالى : (وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا ) الأحزاب – 38  وهي تدل على ( الكم ) في قوله تعالى : (قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا ) الطلاق -3

وقوله : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ) الحجر – 21  وهي تدل على التحديد في قوله تعالى : (وَأَنزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ( المؤمنون – 18   وقوله : (وَالذَِّي نَزَّلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا ) الزخرف – 11

وهي تدل على الإحكام والضبط في قوله تعالى : (فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَامُوسَى ) طه – 40

وقوله : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ) القمر – 19

وهكذا نجد بنية الكلمة القرآنية في صيغتها وفي تعدد دلالتها في سياقات استعمالاتها ظاهرة في التعبير القرآني

 التقديم والتأخير في التعبير القرآني

هذه قضية أسلوبية تعرض لها أهل النحو وذكروا صورها التي يجوز فيها التقديم أو يمتنع، ولم يـكذروا سوى العناية والاهتمام أو “التوسعة على الشاعر والكاتب حتى تطّرد لهذا قوافيه ولذاك سجعه”() وذكرها أهل المعاني من البلاغيين مع تبيين دلالة الاستعمال فيها.

نذكر ما جاء في التعبير القرآني ونبين أهميته والمعنى الإضافي الذي يحدثه التقديم، فقد يقدم الفاعل أو المفعول والجار والمجرور وقد يؤكد بضمير، فلكل تقديم دلالة وأهمية قصدت غير معناها في التأخير. فإذا قدّمت الفاعل مثلاً في الاستفهام بالهمز كان السؤال والشك عليه وهو غيره إذا قدّمت الفعل ففي هذه الحال يكون السؤال عليه، فتقديم الفاعل في قول نمرود مخاطباً إبراهيم عليه السلام حين وجدوا أصنامهم محطمة:)  أَأنتَ فعلتَ هذا بآلهتنا يا إبراهيم)   62-الأنبياء ،فالسؤال عن الفاعل وهو سؤال تقريري، لأنهم أرادوه أن يقرّ بالفعل وكيف حصل؟ وأرادوا توبيخ فاعله وإنكار الفعل عليه، ل-لك كان جوابه  بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون   63- الأنبياء ،فكأن إجابته ألقت في نفوسهم الشك والاضطراب ليفكروا فيما يصنعون بعبادة ما لا يعقل ولا ينطق. ولو قدّم الفعل لكان الشك بالفعل لا الفاعل فجوابه يكون بالنفي، أما وقد قدم الفاعل فالفعل واضح للاثنين، لذا كان جوابه ما تقدم.

وقد يكون تقديم الفاعل في مثل هذا الاستفهام للتقرير وفيه معنى الإنكار لما في الفعل من محال ويأس كما في قوله تعالى: (أفأنت تُسْمِعُ الصمّ أو تهدي العُمْيَ ومن كان في ضلال مبين)            40-الزخرف، ففيه تشبيه من يصرّ على عدم سماع الحق كمن فيه صمم فهو بعيد عن الهداية ومحاولة هدايته تعب وجهد لا يصل إلى غايته، والخطاب للرسول عليه الصلاة والسلام فيمن سدّوا آذانهم وأغمضوا عيونهم فهم كمن أصابه الصمم والعمى، فتقديم الاسم الذي يشير للفاعل هنا فيه دلالة تخصيص تجعل الفعل يشبه المستحيل، وبه فرق عما لو كان الفعل مقدماً على أصل استعماله ثم الفاعل: أتُسمِعُ الصم، والسؤال ليس للفعل وإنما السؤال يختص بالفاعل وما يبذله من جهد مع من لا يسمع ولا يعي، وكأنه يحاول أن يصل إلى ما يشبه المحال.

ومن هذا القبيل تقديم الفاعل في السؤال للدلالة على الإقرار بما لا يمكن من الإكراه على الإيمان، فالمعاندون لا يقبلون ما تبديه لهم بدعوتك في قوله تعالى: (ولو شاء ربك لآمن مَنْ في الأرض كلُّهم جميعاً أفأنت تُكْرهُ الناس حتى يكونوا مؤمنين)  99- يونس، فالتقديم هنا فيه تقرير بعدم جدوى يخص الفاعل (أنت) ليتصل الكلام بسياق ما قبله: )إنّ الذين حقّتْ عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كلُّ آية حتى يروا العذاب الأليم  97- 96  يونس.

وفي تقديم المفعول للدلالة على الإنكار وتخصيص الفعل فيه يؤدي ما أداه تقديم الفاعل أيضاً. ففي قوله تعالى: )قل أغيرَ الله أتّخذ وليّاً فاطرِ السموات والأرض وهو يُطعِمُ ولا يُطْعَمُ..( 14-الأنعام، فبعد أن سبق الآية بوصف الباري تعالى: )وله ما سكن في الليل والنهار وهو السميع العليم ( جاءت الآية )قل أغيرَ الله أتخذ وليا  فأنكر أن يتخذ غير الله ولياً، لأن ذلك من المحال والجهل الأعمى أن يتخذ غير الله ولياً، ولو تقدم الفعل ما أدى هذا التخصيص والإنكار وإنما يصبح السؤال عابراً لا يعني شيئاً.

ولتقديم “هو” في الآية نفسها دلالة شديدة وتخصص أنه هو يطعم لا غيره، ولو جاء (ويطعم) من دون تقديم الضمير “هو” لم تكن دلالة الآية على ما سبق من التوكيد والتخصيص. تكون الجملة في الحالين مستأنفة ولكن مع (هو) تكون اسمية مع التخصيص الذي لا يقبل الشك.

وكذلك تقديم المفعول في الآية (قلْ أرأيتكم إنْ أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغيرَ الله تدعون إنْ كنتم صادقين)  40-الأنعام. ففي تقديم (أغير الله..) دلالة التوكيد والتخصص وإنكار دعوة غيره إلا إذا كانوا من الصمّ البكم، لذلك أكّد التخصيص بعد الآية (بل إيّاه تدعون فيكشف ما تدعون إليه..) ولا تفهم هذه الدلالة لو لم يتقدم المفعول، لكن مع التقديم كان سياق السؤال عن المدعو القادر على إنقاذهم من العذاب.

ويأتي معنى التخصيص والتوكيد في تقديم الجار والمجرور على متعلقه في الجملة الخبرية، وكذلك مجيء ضمير الرفع مبتدأ للتوكيد أيضاً كما يفهم من الآية الكريمة: (والذين يؤمنون بما أُنزِلَ إليك وما أنزِلَ من قبلك وبالآخرة هم يوقنون) 4- البقرة.

فتقديم (بالآخرة) يفهم التخصيص الإيمان بها لا بغيرها ولا يفهم هـذا المعنى ولو أخّر بعد الفعل وبتقديمهما يفهم انسجام الفاصلة القرآنية أيضاً.

وكذلك يفهم من تقديم (هم) من التوكيد للخبر وتخصيصه ولا يفهم من دون -كره لو قلنا (ويوقنون) فالضمير يؤكد الذين يؤمنون بما أنزل إليك وهم يؤمنون.

وكذلك مجيء الضمير (هم) في الآية: (أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون) 5- البقرة، والضمير لتوكيد الخبر وتخصيصه أكثر من عدم ذكره، فالكوفيون يسمونه عماداً ويسميه البصريون ضمير الفصل. ومثله في تخصيص المعنى وتوكيده بالضمير وبـ(إنّ) في قوله تعالى: (ألا إنّهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون) 12-البقرة.

كما نفهم التخصيص والتوكيد من استعمال الضمير استعمالاً كما في الآية 4 من سورة البقرة )واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئاً وهم يُخْلقون)3   الفرقان فتقديم الضمير مبتدأ محدّثاً عنه أكثر توكيداً للفعل، ففي الجملة إنكار اتخاذهم آلهة لا قدرة على خلق شيء و(هم) أنفسهم يُخْلقون فعليهم أن يتخذوا خالقهم إلهاً لا من يعجز أن يخلق شيئاً.

وك-لك نفهم توكيد الخبر وتخصيصه من تقديم الضمير المحدث عنه في الآية: )وإنّ منهم لفريقاً يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون78-( آل عمران، أظهر الضمير (هم) في (هم يعلمون) توكيد كذبهم وعلمهم بأنهم كاذبون لكنهم لا يعترفون بك-بهم فهم كاذبون ويعلمون أنهم كا-بون، ولا يؤكد الخبر به-ه الشدة من دون ذكر الضمير (هم).

ومثل هذا كــــــــــثير في القرآن الكريم منها: )والذين هم بربــــــهم لا يشركون) 59- المؤمنون، وقوله: (لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون)   7- يس، وقوله: )فعميت عليهم الأنباء يومئ- فهم لا يتساءلون) 66-القصص.

ونفهم معنى التخصيص من تقديم المفعول الثاني على الأول في الآية الكريمة: )وجعلوا لله شركاءَ الجنَّ وخَلَقَهم وخَرَقوا له بنين وبناتٍ بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون 10-(الأنعام.

في الآية وصف للمشركين الذين “جعلوا لله الجنَّ شركاءَ” لكنه قدّم “شركاء” ليفهم أنه تعالى ليس له شركاء الجن وغيرهم، فالله خلقهم لكنهم اختلقوا وتصوروا كذباً بنين وبنات بغير علم، فالله تعالى قد خلقهم فكيف يشارك المخلوق خالقه، ثم وصف الذي جعل لله شركاء أنه من دون علم، فتقديم شركاء على الجن أفهمَ معنى أكثر توكيداً من تأخيره() خصوصاً مجيء “شركاء” نكرة فيها معنى العموم.

وقد تقدم الحال وتقديمها يظهر رهبة الموقف وتجسيد صورته كما في قوله تعالى: )خشّعاً أبصارهم يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر7-( القمر.

القصص في التعبير القرآني

نريد أن نعرف شيئاً مما دار في التعبير القرآني من القصص ، ولا نريد أن نوازن بين القصص في القرآن الكريم وبين القصص في الأدب ، لأن القصص القرآني يأتي لهدف العبرة والموعظة ولإضاءة آفاق الحياة بالتجارب التي مر بها البشر ، وعاشتها الأمم الغابرة، فالقرآن لم يكن كتاب قصص للمتعة ولا كتاب تاريخ أو جغرافية ، فالقرآن عرّف نفسه بأنه هدى للعالمين وتبيان لكل شيء ، فهو كتاب هداية وعقيدة ، فينبغي لنا أن ننظر للقصة القرآنية نظرا يختلف عن النظر للقصة الأدبية ، فكما كان طابعها الخاص وغايتها كان تكوينها أيضا .

وفي القرآن قصص كثير ، دار بعضه حول الأنبياء والرسل وغيرهم ك-ي القرنين وصاحب الجنتين وأصحاب الكهف وأصحاب الفيل وأحداث الأمم في غابر الزمان وما جرى لها كعاد وثمود .

والقصة الواحدة في القرآن قد ترد في أكثر من سورة مع اختلاف مغزى القصة من سورة إلى أخرى بحسب ما يتناسب مع السياق ، فقصة نوح مثلا وردت في سورة باسمه وكررت في سورة الأعراف وسورة هود ، وتكررت في سورة المؤمنون وسورة الشعراء وسورة القمر ويونس والعنكبوت والأنبياء والفرقان والصافات والتحريم وهكذا قصة آدم وموسى  وغيرهم .

لذا لا يمكننا أن نأخذ قصة كاملة من سورة واحدة في القرآن إلاّ قصة يوسف فقد جاءت سورة باسمه روت قصته من بدايتها حتى نهايتها ولم يكن -لك في غيره ، ولكن جاءت سور بأسماء أنبياء مثل إبراهيم ونوح وطه ولكن لم تأت القصة كاملة في إي منها سوى سورة يوسف .

وأمثلة الآيات التي تحتشد فيها عدة قصص في آيات قليلة كل قصة تكون رمزاً لقضية وحدث كقوله تعالى من ” سورة الفرقان ” 35 – 40

[وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا * فَقُلْنَا ا-ْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّ-ِينَ كَ-َّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا * وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا * وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ -َلِكَ كَثِيرًا * وَكُلاًّ ضَرَبْنَا لَهُ الأَمْثَالَ وَكُلاً تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا * وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لا يَرْجُونَ نُشُورًا] .

رأينا كيف يذكر قصة موسى الذي أتاه الكتاب مع أخيه ووزيره هارون وأمرا لل-هاب [إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا] ، ثم -كر قوم نوح الذين كذبوا الرسل [أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً] ثم ذكر [وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا] [وَكُلاًّ ضَرَبْنَا لَهُ الأَمْثَالَ وَكُلاً تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا] ثم [عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ] وذكر المطر رمزا للعقوبة في الاستعمال القرآني ويقابله كلمة الغيث التي تدل على الخير والخصب وذلك من دقة استعمال الكلمة القرآنية .

كل هذه القصص والرموز التي عاقبها الله غايتها العظة والعبرة وضرب الأمثال لمن يتعظ . والقرآن الكريم يصرح بان هذه القصص تحكي حقائق غيبية لم يعرفها احد حتى النبي   قال تعالى : [لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَـكِن تَصْدِيقَ الَّ-ِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ] ” سورة يوسف ” – 111  هك-ا هو الأسلوب القرآني في حشد القصص فيه ، لبيان أحوال الأمم الغابرة لاتخاذ العبر والموعظة .

ومن الأسلوب القصصي أيضا ما نجده في ” سورة الشعراء ” التي اشتملت على سبع قصص متوازنة في بدئها ونهايتها ، فالآيات السبعة الأولى منها خطاب للرسول  تهدئة له من عدم إيمان الكافرين المعرضين عن دعوة الحق . قال تعالى : [طسم ]1[ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ]2[ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ]3[ إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِم مِّن السَّمَاء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ ]4[ وَمَا يَأْتِيهِم مِّن -ِكْرٍ مِّنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلاّ كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ ]5[ فَقَدْ كَ-َّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنبَاء مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون ]6[ أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الأَرْضِ كَمْ أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ]7[ إِنَّ فِي -َلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ ]8[ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ]9[] الآيتان (9- 8 )  سيكونان خاتمة لكل قصة تأتي في هذه السورة.

القصة الأولى ( موسى وفرعون )

]إِذ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ]10[ قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلاَ يَتَّقُونَ11[ ]قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَ-ِّبُونِ ]12  ]وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ ]]13 وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ ]]14قَالَ كَلاّ فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُم مُّسْتَمِعُونَ ]]15فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ]]16أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ]17 ]قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ ]]18وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ ]]19قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ ] ]20 فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ ] ] 21 وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ ]] 22 قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ ]] 23قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إن كُنتُم مُّوقِنِينَ ]] 24قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلاَ تَسْتَمِعُونَ ]25

وتستمر القصة حتى قوله تعالى :[وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ ]65[ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ ]66[ ] ثم يختم بالآيتين ( 9 – 8 ) [ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ]

ثم تأتي القصة الثانية  قصة إبراهيم

]وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ ] ]69[ إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ ] 70قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ]

وتستمر القصة حتى الآية [فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ]102.ويختمها بالآيتين السابقتين .

ثم تأتي القصة الثالثة ( قصة نوح)

[كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ ]105[ إِ-ْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ ]106[ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ]107[ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ]108[ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ]109[ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ]110[ قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ ]111[ قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ]112[ إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاّ عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ ]113[ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ ]114[ إِنْ أَنَا إِلاّ نَ-ِيرٌ مُّبِينٌ ]115[ قَالُوا لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ ]116[ قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ ]117[ فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَن مَّعِي مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ]118[ فَأَنجَيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ]119[ ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ ]120[] ويختمها بالآيتين الم-كورتين .

ثم قصة عاد وثمود وقوم لوط ، وأصحاب الأيكة ، وكل واحدة من ه-ه القصص تبدأ بقوله : [كذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ .. كَ-َّبَتْ عَادٌ و كَ-َّبَتْ ثَمُودُ .. كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ .. كَذَّبَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ] ويختمها بالآيتين المذكورتين ، فبدايات القــــصة متشابهة ثم ختامها أيضا .

ختام السورة

وبعد القصة السابعة تأتي آيات ختام السورة في وصف القرآن الكريم [وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ]]192نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ ]]193 عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُن-ِرِينَ ]]194 بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ ]]195 وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ]]196وهكذا حتى ختامها باية الشعراء [وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ ]] 224 أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ] ] 225وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ ] ]226 إِلاّ الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ ]227

* * * * * * *

وهذه سورة الكهف نتخذها مثالا آخر على تضمن السورة أكثر من قصة إضافة إلى الآيات التي تأتي في سياقها التربوي والعقائدي . فهذه السورة التي تروي حديث أصحاب الكهف احتوت على ثلاث قصص أخرى غير قصة أهل الكهف ، لكنها يتداخل بعضها بالآخر لتسعى إلى غاية واحدة ، وهي ما بدأت به السورة بقوله تعالى :

[الْحَمْدُ لِلَّهِ الذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا ]1[ قَيِّمًا لِّيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا ]2[] ” سورة الكهف ” 1 – 2

بدأت السورة بالحمد لله الذي أنزل كتابا قويما فيه إنذارا للمخالفين وفيه بشرى للصالحين .

هذه الفكرة دارت عليها الآيات بعدها التي يختبر بها الإنسان وما يقوم به على الأرض [إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً] وبعد ثماني آيات تبدأ حكاية أصحاب الكهف ، وهذه القصة وظفت عناصرها كما القصص الأخرى لإيضاح الحقائق بوسائل فنية بحيث يظهر تأثيرها في المتلقي وأحدث نسق تسلسل أحداثها بصمتها ضجة هائلة تداولتها أطياف الأجيال التي حدثت فيها . [أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا ]9[ إِ-ْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا ]10[ فَضَرَبْنَا عَلَى آ-َانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا ]11[ ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا ]12[] .

هذا ملخص القصة في بدئها ثم يعود النص إلى تسلسل الأحداث من دخول الفتية الذين آمنوا بربهم الكهف هروباً من بيئة الكفر والكهف رمز لمكان منعزل على جبل وما في داخله بعيد عن المشاهد .

والقصة التي مجملها تظهر بداية قصتها .

[نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى ]13[ وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إذًا شَطَطًا ]14[ هَؤُلاء قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ]15[ وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحمته ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا ]16[]

هذا المشهد الأول فتية مؤمنة بربها زادهم الله هدى وربط على قلوبهم أعلنوا إيمانهم بالله رب السموات والأرض كانوا في بيئة كافرة [اتَّخذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً] وفي التفاسير انّ هؤلاء الفتية كانوا قريبين من السلطة الوثنية التي كانت تمارس القتل لمن يخالفها بالإيمان ، هؤلاء الفتية المؤمنون كانوا يسارّ بعضهم بعضا بما في قلبه ، ولما ضاقوا ببيئتهم الوثنية وعدم انسجامهم معها قرروا الهروب بأنفسهم إلى الله .

يبدأ المشهد الثاني

أوّوْا إلى كهف يؤمنهم ويبعدهم عن السلطة الظالمة آملين أن تدركهم رحمة ربهم ويهيئ الله لهم من أمرهم رشدا .

هذا القسم من القصة القرآنية أكد على حالتين : إحداهما الحوار ال-ي بين الفتية المؤمنة وتدبر سبيل النجاة من بيئتهم الكافرة الظالمة ، والحالة الأخرى هي الصراع بين فئة مؤمنة وسلطة ظالمة قوية ، والأداء القصصي ابتعد عن السرد والتفصيل فكل تعريفهم هم ” أصحاب الكهف ” وكل تعريف المقابل هو (( قوم اتخذوا من دونه الهة عليهم سلطان ظالم )) ثم تأتي حالة كونهم في الكهف والطابع الاعجازي القرآني في وضعهم :

[وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ -َاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا 17[ وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا]18 هذه صورتهم الاعجازية وهم في الكهف إذن آووا بلا زاد ولا ماء لم يفكروا الا بالحفاظ على إيمانهم معتمدين على رحمته تعالى ، فهم في ( فجوة ) من الكهف تميل الشمس عنهم في شروقها كي لا تؤثر على أجسادهم وكذا عند غروبها ثم يأتي هذا الوصف البديع [وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ -َاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا] هذا الوصف البليغ التأثير جعل منهم صورة صامتة ناطقة ثابتة متحركة ، وظهر عنصر كلبهم في هذا المشهد وأنه حارسهم بالوصيد .

في هاتين الآيتين اختزل رقودهم مدة ثلاثمائة وتسع سنين ، وهو رمز اعجازي لقدرته تعالى [وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاَثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا ]25[ قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا ]26

ثم يأتي المشهد الثالث

[وَكذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَ-ِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا ]19[ إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوا إِذا أَبَدًا ]20[]

يروي هذا المشهد بعثهم وتساؤلهم عن مقدار نومهم ، وذلك يكمل رمزية القصة ، وهي تبدأ بالصراع بين الإيمان والفكر ثم هروب فتية مؤمنة بإيمانهم إلى كهف ثم يرقدون مدة قرون فيتغير الزمان والمجتمع في هذه القرون الثلاثة ، وبعد بعثهم من رقدتهم اكتشفوا بنقودهم القديمة وهيأتهم وتصورهم السابق بان الوثنين ما زالوا يسيطرون لكنهم تفاجأوا بتغير الزمن والعقيدة والحكم ، وبعد أحداث معاناه مبعوثهم واصطدامه بما لم يتوقع اثروا أن يعودوا لأن الزمن غير زمنهم فكانوا ( آية من آياتنا عجبا )

[وَكذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِم بُنْيَانًا رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّ-ِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا ]21

كان -لك بعد اكتشاف الكهف وتنازع الناس في أمر الإيمان وما يقابله في ما يُبْنَى على أهل الكهف حائط أو مسجد على أقوال المفسرين .

وفي السورة نفسها حكاية صاحب الجنتين وهي من الأمثال في القرآن الكريم -كرناها في موضوع الأمثال .

وك-لك وردت في سورة الكهف قصة ثالثة هي قصة موسى والعالم من الآية 60 )) حتى الآية 92 ) ) وفيها قصة رابعة هي قصة ( ذي القرنين ) تبدأ من الآية  93 ) )

ان سورة الكهف احتوت على هذه القصص الأربعة التي عبرت كل واحدة منها عن حالة وشخصية ، لكنها جميعا توافقت في بيان الحياة الإنسانية وما يكون فيها من توافق وخلاف ثم من حوار وصراع لكن صوت الحق هو الأعلى والله معه ومع دعاته وهي فكرة بدأت السورة بها : [الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا ]1[ قَيِّمًا لِّيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا] ” سورة الكهف ” 1 – 2 .

(1) ينظر غريب القرآن – لأبي عبد الرحمن اليزيدي 106  تفسير مجمع البيان – الطبرسي 2/376 .

(2) غريب القرآن – لأبي عبد الرحمن اليزيدي 106 – مجمع البيان 2/389 .

(3) السابق 107  مجمع البيان 2/405 .

(4) ينظر كتاب تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة ، وكتاب مجاز القرآن لأبي عبيدة .

(5) دلائل الإعجاز 110.

(6)ينظر دلائل الإعجاز للجرجاني 286? 287.