بين إرادتنا وإرادة اللّه
الوهم الأعظم
اعتذر بداية على طول المنشور الذي حاولت اختصاره قدر المستطاع، مع وعدي للقارئ بمتعة لا تخلو من استفزاز !
اطلب منك اسفا، التفكير باسوأ شخصية عرفتها في حياتك، شخص ترى فيه شرا لايحتمل، ويستحق برأيك اسوأ انواع العقاب واقسى درجات الالم..
الان تخيل انك تجلس امام شاشة يظهر فيها طفل صغير شديد البراءة والوداعة.. بعد دقائق يكبر الطفل ويبدأ بالتفاعل مع مجموعة من الاحداث البسيطة والمؤثرة في حياته.. وشيئا فشيئا تتغير شخصيته وفق الاحداث التي يعيشها امامك.. وعلى هذا المنوال تتوالى الدقائق والاحداث ويبدأ الفتى بممارسة الاخطاء، ويبدأ ذويه بارتكاب الجرائم التربوية بحقه، ويبدأ المجتمع تأثيراته السلبية عليه، مما يعمق من صفاته الخاطئة، فيتشكل فيه عجزا تلو العجز على مستويي السلوك والنظام الاخلاقي.. وانت تشهد كل هذا اولا باول..ولكي يزداد الطين بلة، يتعرض الفتى اخيرا لحادثة تجسد قسوة لا مثيل لها من ابيه، حين يقوم بضربه بواسطة اداة صلبة على رأسه مؤدية لخلل دائم على مستوى “فص الجبهة الامامي”، وهو المسؤول عن قرارات الانسان الاخلاقية والمنطقية..
مع مساعدة من طبيب في الاعصاب وطبيب نفساني ودكتورة في السلوك، يشرحون لك تأثيرات الاحداث التي عاشها الصبي، على عقله واخلاقه ونفسه.. تبدأ انت باستيعاب الاسباب البيئية والنفسية والعقلية التي شكلت هوية الشخص البغيض الذي طالما حملت له كل تلك الكراهية!
وبناء على ما فات، تستنتج بدورك، ان شعورك نحو الانسان الذي كنت قبل وقت قصير تحمله مسؤولية كل خطاياه واوزار كل مصائبه، وتتمنى تطبيق اقسى العقوبات بحقه، مطالبا بذلك القانون والدين والمجتمع..
ان شعورك ذاك نحوه -وعلى نحو ساخر- ربما تبدل الى احساس بالحزن والاسى بل والتعاطف حتى، وبت تراه ضحية لعوامل وظروف شكلت شخصيته وارتكبت هي، كل معاصيه!
ذات الطريقة
على الارجح انك لست مخطئا في تشخيصك، فكلنا نتشكل بنفس الطريقة، لاننا لا نتعدى كوننا خليطا من الذرات والهورمونات المتفاعلة مع البيئة فيما بينها.. مشكلة شخصياتنا وافعالنا في النهاية. (راجع المقال السابق: الوهم الاعظم، مقدمة)
نستدل من ذلك، ان الامر غاية بالتعقيد والغرابة عندما يتعلق بمنطقنا البشري السائد في تطبيق العدل، والذي يقف عاجزا ازاء انصاف صاحبنا المذكور سلفا وامثاله، كونهم ليسوا الا ضحايا ظروف شكلتهم بطريقة سيئة. الا اننا ورغم معرفتنا بذلك، لا نستطيع (كمجتمع بشري) تقبل اخطاء تلك الشريحة ووجودها بيننا، لما في الامر من ظلم لقسم اكبر من المجتمع. لذلك لا بد من رادع ومحاسب عادل لا يخلو من الظلم.
وهكذا ترى كيف ان المسألة عويصة وصعبة، لان الظلم يشوبها مهما كان قرارنا نزيها ومراعيا للموضوعية، وتلك حدودنا القصوى في ايجاد العدل وتطبيقه، ربما لاننا كائنات ناقصة لها حدودها وهذا شأننا نحن البشر، اما شؤون العدل الالهي، فتلك قصة اخرى نحاول فهمها فيما يلي:
تنطوي قضية الاله (الاله الكبير اقصد، الابراهيمي الذي نعرف) على اعتبارات عدة، اهمها مسألتا العدل المطلق والثواب والعقاب، اللتان تمثلان الاساسان الاهم، لفكرة الدين والاله، كون العدل اساس الملك اولا، والثواب والعقاب ادوات لتطبيق ذلك العدل ثانيا.
المفتاح لفهم المسألة، هو التسليم بحقيقة ترتكز على ادلة علمية صلبة وادلة فلسفية اكثر صلابة، وتقول: اننا البشر عاجزون عن التحلي بارادة حرة! واننا مجبولون على التصرف والاختيار بناءا على خطة فيزيائية مسبقة، واننا لا نتحمل وزر اخطائنا كما لا نستحق الثناء على انجازاتنا، اي نحن كالدمى تماما، باستثناء اننا واعون لما نتخذ من قرارات، رغم ان بعضنا يوهم انفسه (بفعل الوعي) ان قراراته نتيجة لاختيارات بفعل ارادة حرة، وهذا هو الوهم العظيم الذي يتشبث به بعض البشر لضعفهم او جهلهم او خوفهم من الحقيقة، والذين ينطبق عليهم وصف غوته حين قال: “لا توجد عبودية اسوأ من ان تعتقد انك حر.. وانت في الحقيقة لا تمتلك قرار اي شيء في حياتك”.
لذلك ان كنا نبحث عن الحقيقة، سنسلم بالادعاء السابق كونه جزءاً من الحقيقة الكلية، ومفتاحا لها.. واثر ذلك سننظر الى موضوعي العدل الالهي والثواب والعقاب من زاوية مختلفة كليا، واكثر وضوحا ونضجا، وتنص على:
بما اننا لا نتحلى بالارادة الحرة -والامر كذلك- فنحن خلقنا اذن لنؤدي سيناريو كتب علينا ان نؤديه، وهو سيناريو لسنا من اختاره وانما وجدنا فيه قسرا، اي اننا كالروبوتات المبرمجة للقيام بمهام محددة، وما ان تؤدها، حتى يتم محاكمتها بقيم كالثواب والعقاب! الامر غير منطقي، اليس كذلك؟
هو اشبه بمعاقبة طفل بكى من الجوع لانه لم يأكل منذ يومين، فاين العدل في ذلك؟
من هنا ينطلق سؤال اكبر، عما اذا كان عدل الاله عاجزا كعجز قدراتنا القضائية تماما، عن تحقيق العدل المطلوب؟
افراد فاسدين
ما يثير السخرية ان الضعف عدلنا والحالة هذه سيكون مشروعا، لاضطرارنا نحن البشر التعامل مع افراد فاسدين فرض وجودهم في مجتمعاتنا، عكس الموقف المحرج الذي ستوضع فيه حكمة الاله وعدله، بخلقه روبوتا وبرمجتمه، من ثم معاقبته، والادعاء بعد حين بالتحلي بعدل عظيم! فاين الشرعية في هذا؟
ان كانت تفاصيلا كتلك مزعجة لك، انتظر حتى نتم الاستنتاج الاخير القائل: باعتبار استحالة وجود منطق في خلق روبوت من جهة، وتعذيبه او اثابته على افعاله من جهة اخرى، فاننا نشك والحالة هذه عما اذا كانت لدى الالهة ارادة حرة من الاساس! فاذا كان الاله مثلنا لايمتلك ارادة حرة، كيف استنتج اذن قراره بخلقنا وكوننا؟ انحن حصيلة فكرة عابرة نتجت عن اهواء لا معنى لها؟ ام انها فكرة بنيت على سلسلة من الاستنتاجات المنطقية؟ ان كانت كذلك، فتنطبق عليها قوانين المنطق بالضرورة، ومن المنطق ان نزعم بان لكل ابداع فكرة تكونه.. وكل فكرة تقوم على وجود الخزين المعرفي من الذكريات والمعلومات اللازمين لانتاجها.. والدليل ان كل فكرة جديدة انتجتها البشرية يوما، كانت مبنية على اشياء مسبقة عايشها الانسان وعرفها، ويشمل ذلك تصور الانسان للالهة التي لم تحمل اي من صفاتها من العدم، بل نتيجة تطور وتناسق مع تطلعات الثقافات المنتجة لها..
جسد اناني
كذلك شكل الملائكة الذي لم يأت من فراغ، وانما بواسطة الاعتماد على الخيال في دمج جسد انساني بجناحين رهيبين وهكذا..
فالانسان عاجز عن استنباط اي فكرة من العدم، او تفهم اي فكرة لم يعتدها، وهو القانون الكوني الساري على كل شيء، والناص على “ان المادة لا تفنى ولا تستحدث من العدم”. تماما كالافكار المبتدعة.
فعلى اي شيء استند الاله في ابداعه؟ اي افكار مسبقة لديه واي معلومات كان يحمل؟ وكيف نشأ وعيه وادراكه؟ ولم لم يذكر اي شيء عن تلك المرحلة في كل الاديان السابقة؟
اما الحالة الثانية، هي افتراضنا ان الاله يمتلك بالفعل ارادة حرة، وهو ما اميل للاعتقاد به، لان حدود التفكير تقف هنا عاجزة عن الاستغراق اكثر.. سيما واننا لاندرك تصورا عن كيفية عمل الارادة الحرة العشوائية، لاننا وببساطة.. لا نملكها! (تذكرا القانون الكوني دائما؛ قانون حفظ الطاقة!)
عموما، شيء من الرومانسية في الغموض امر لطيف لا يضر!
تمام عدنان حسين – بغداد