الهروب إلى التاريخ

الهروب إلى التاريخ
الحنين الى الماضي سلوك يلاحظ لدى الإفراد والجماعات على حد سواء ، وما يعنينا في هذا المقام هو الشكل الاجتماعي لهذه الظاهرة والأمثلة على ذلك كثيرة حيث نجد العديد من القبائل البدائية قد عبرت عن ذلك الحنين عن طريق تقديس حيوان ما وعده طوطماً قد حلت به أرواح الأجداد . وفي العراق القديم اخذ الأمر شكلا اخر فالملك الاشوري اشور بانيبال الذي امتاز بامتلاكه وعيا تاريخيا فريدا قد اقام مكتبة عظيمة جمع فيها مختلف النصوص الأدبية والعلمية والدينية والتي يعود بعضها الى الحقب السومرية والبابلية ، إذ كتبت تلك النصوص في مدة سبقت قيام الإمبراطورية الأشورية بمئات السنين .
وهذان المثالان وان اختلفا في طريقة التعبير عن الحنين الى الماضي الا انهما يجسدان الضاهرة ذاتها . ولهذه الظاهرة دوافع عديدة لعل أبرزها الحاجة لإشباع الحاجات النفسية الابناء المجتمع في الشعور بان لهم تاريخا مشتركا مجيدا ، الامر الذي يعزز ثقتهم بأنفسهم وشعورهم بالوحدة . فضلاً عن الدوافع النفسية فان المجتمع ذاته وعبر أساطيره وبعض نتاجات مفكرية يعمل على رسم صورة مثالية لتاريخه فيدفع الناس الى الافتتان بذلك التاريخ والميل الى تفضيله على الحاضر.
والصورة المنحازة وغير الموضوعية للماضي ترسخ في الاذهان تصورا فيه الكثير من المبالغة والابتعاد عن الواقع مما يشكل عاملا إضافيا يدفع الناس الى هجر حاضرهم والتشبث بالماضي على نحو عاطفي يخلو من التبصر والبحث عن الأدلة والبراهين التي تثبت صواب الصورة التي ارتسمت في الأذهان عن هذا التاريخ. وما ذلك الا هروباً من الحاضر وعجز عن مواجهة استحقاقاته .ان الارتماء في أحضان الماضي من دون قيد او شرط او تمحيص للحقائق والعيش في عالم هو الى الأوهام اقرب منه الى الحقيقة امر تترتب عليه عواقب وخيمة على حاضر اي امة وعلى مستقبلها أيضا . فالاستسلام لنشوة ما يعتقد انه انتصارات قد تحققت في الماضي يضعف الإحساس بالمخاطر التي تتربص بتلك الامة في حاضرها . كما ان استدعاء الحلول الجاهزة من تاريخ الامة لمعالجة مشاكل تواجهها في العصر الراهن من غير ادراك لاختلاف السياقات التاريخية وتغير الظروف سيؤدي الى الفشل المحتوم والى الركود الفكري وتلاشي القدرة على توظيف العقل بشكل مبدع وهو امر يفسر الوقوع في الأخطاء ذاتها وبشكل متكرر إذ تجري العودة الى نفس الافكار والحلول القديمة في التصدي لمشكلات افرزها عصر تحركه افكار وقوى ومصالح جديدة. وفي هذا الصدد يشير المؤرخ البريطاني ارنولد توينبي الى ان واحدا من اهم عوامل انهيار الإمبراطوريات والدول هو عجز النخب السياسة والفكرية عن مواجهة التحديات الحاضرة بفكر جديد والاكتفاء بالحلول والخبرات المستمدة من التاريخ. ويلاحظ ان الشعوب الاكثر انغماسا وولعا بتاريخها تعاني الكثير من الازدواج في نظرتها للاخر الذي يختلف عنها ثقافيا ويفوقها من حيث التقدم التقني ، فهي تشعر بانها متفوقة عليه وتعامله بازدراء احيانا ، حين يتعلق الامر بثقافتها التي تعدها متميزة وكذلك حين يكون الامر مرتبطا بما تعتقد انه موقعها المرموق في التاريخ في حين انها تشعر بالدونية اتجاه الاخر ذاته عند مقارنة منجزها الحضاري والفكري الراهن بما يمتلكه ذلك الاخر ، ولعل من نافلة القول ان ما ذكر ينطبق الى حد بعيد على الواقع الذي يعيشه العرب ومنهم العراقيون ايضا . فنحن ندور في حلقة مفرغة من الزهو الذي نستمده من تاريخنا من جهة ومن الشعور باليأس من القدرة على حل مشكلنا الحاضرة بشكل فعال ومرض من جهة اخرى . ان شرط تصحيح علاقتنا بتاريخنا هو ان ننظر الى ذلك التاريخ بعين موضوعية بعيدة عن الانحياز والعواطف المتأججة لكي نعرف حقا اين حقق اسلافنا انجازات نفتخر بها فنحاول الاستفادة من تجاربهم الناجحة تلك وبما يتلاءم مع روح العصر الذي نعيشه الان ونعرف ايضا اين اخطئوا فنتخذ من أخطائهم تلك عبرة لنا فنعمل على تجنبها بعيدا عن الهروب الى الماضي ومحاولة استنساخه على ما فيه من علات فالماضي لا يمكن ان يكون بديلا عن الحاضر .كما لا يمكن للحاضر الغاء الماضي بعده احداثا قد وقعت بالفعل ولها أثار لا تزال فاعلة حتى الان .
ايمن المرزوك
AZPPPL

مشاركة