الهرم أم النيل؟

الهرم أم النيل؟
حسن حنفي
الصور الذهنية جزء من نظرية المعرفة سواء في الإدراك أم في التعبير. ويتم ذلك شعوريا. فهي اختيار حر. وكثيرا ما تتم لاشعوريا بالرغم من أنها تحرك الشعور واللسان. وهي مستمدة من البيئة. بل تتحول أحيانا إلى حكم على العقل نفسه. فيقال على صورة الخيمة والجمل عقلية الصحراء، والمدخنة والترس عقلية المدن الصناعية. وهو التقابل عند ابن خلدون بين البدو والحضر. قد استعمل برجسون هذه الصور الذهنية كوسائل أدبية للتعبير عن أعمق الأفكار الفلسفية مثل الحدس، والدافع الحيوي، والطاقة الروحية. فهي أبلغ وأكثر تأثيرا من المعادلات الرياضية والقضايا المنطقية. تجمع بين الأدب والفلسفة، بين الوسيلة والغاية. وهو ما سماه القرآن الأمثال وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ . وهي بالمئات. تجعل القرآن كتابا شعريا بالأصالة. ودفعت علماء البلاغة لوضع نظرية في الأمثال المثل والممثول . بل وضع علماء الشيعة علما بأكمله هو علم الميزان لرصد التقابل بين عالم الصور وعالم الأشياء، وبتعبير الفلاسفة بين عالم الأذهان وعالم الأعيان، بين العقل والوجود، بين الروح والعالم. الصور الذهنية تنبع من طبيعة البيئة الجغرافية التي تعتريها الثقافة الوطنية. فرمز اليابان الشمس، وكوريا القمر، والمغرب النجمة، وتركيا وتونس والجزائر ومصر الهلال.
والهرم والنيل، وليس الشمس والقمر رمزان لمصر. الهرم من عجائب الدنيا السبع، والنيل حياة المصريين، فمصر هبة النيل كما صرح هيرودوت. الشمس والقمر تشارك فيهما معظم الدول الصحراوية. الشمس لهيبها للاتقاء منه. والقمر نوره للاسترشاد والتغني به. الهرم من صنع الإنسان ويدل على عبقريته الهندسية والفنية. والنيل من صنع الطبيعة يدل على عظمة الخالق. الهرم سياحة يأتي الأجانب لمشاهدته والتصوير معه ويركبون الجمال حوله. والنيل شعب باق على ضفافه وإن تحرك على شطآنه، وسارت المراكب الشراعية وسطه طبقا لاتجاه الريح، الهرم للأجانب والنيل للوطنيين. الهرم حى، حى الهرم، وخط مواصلات يصيح عليه مساعد السائق هرم هرم. والنيل يمتد من أول مصر إلى آخرها، من جنوبها إلى شمالها. لا ينادي عليه أحد. و مجرى العيون خط مياه قديم منذ أيام الرومان. الهرم ثابت في مكانه لا يتحرك بل الإنسان هو الذي يتحرك حوله. والنيل يتحرك ويربط بين شعوبه من المنبع إلى المصب، من الجنوب إلى الشمال، معبرا عن وحدته، حوض وادي النيل. الهرم حوله الصحراء من كل جانب، رمال وكثبان. في حين أن النيل حوله الاخضرار والمزارع. الهرم لا يروي أحدا بل هو في حاجة إلى من يروي زائريه. الهرم أثر من آثار الماضي، من قدماء المصريين عبر آلاف السنين. يبقي ذكريات في أذهان المصريين في الحاضر والمستقبل. في حين أن النيل ممتد عبر آلاف السنين منذ بداية الخليقة، من الماضي والحاضر إلى المستقبل، مرئيا بالعين وليس مجرد ذكريات. الأهرام للأموات، والنيل للأحياء. الهرم صامت لا يتكلم في حين أن أمواج النيل تحادث الصيادين والفلاحين والمزارعين. يمكن دك الهرم في زلزال أو بقنبلة ذرية مع أنه بُني لمقاومة الفناء وإعطاء الخلود للنفس والبدن وحفظهما من البلاء. في حين أن النيل باق بقاء الأرض والخلق. لا يدمره سلاح. ولا يدكه زلزال. ولا تغيره عوامل النحر. الأهرام في الأرض وعليها ومنها. في حين النيل كما تروى كتب التفاسير ينبع هو ودجلة من السماء، من الجنة. فهي أنهار مباركة لا يحولها عن مسارها طاغ أو عاص أو شرير. توالت عليه أنظمة الحكم الاستبدادية وهي باقية لتقاوم وتدافع عن الحق والعدل والحياة. ومن المأثورات الأدبية القديمة شكاوى الفلاح الفصيح إلى فرعون عن أخذ حماره وغلته وحقله من شيخ البلاد وممثل فرعون. الأهرامات متعددة طبقا لتعدد الملوك. تختلف في الكبر طبقا لعظمة الملوك، من الأكبر إلى الأوسط إلى الأصغر، من خوفو إلى خفرع إلى منقرع. والنيل واحد يعيش على ضفافه الكبير والصغير، المعبد والحقل، القصر والكوخ. يشرب من مياهه الفرعون والفلاح. ويأكل من ثماره الوزير والغفير. فالنيل أقرب إلى التوحيد. أنقذ موسى طفلا بعد ما وضعته أمه في صندوق فيه. وجرفه التيار حتى وصل إلى أهل فرعون وقصره حتى شب وكبر ودافع عن التوحيد ضد ألوهية فرعون الذي غرق في الماء. ماء النيل ينقذ وماء البحر يهلك. الأهرام لها حارس، أبو الهول، من لصوص المقابر، رأس إنسان وجسد أسد، قوة الإنسان والحيوان. والنيل ليس له حارس إلا شعب مصر في ثوراته مثل ثورة 1919 وفي فلاحيه مثل حادثة دنشواي. حارسها الله التي ذكرها في القرآن ست مرات منها ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ .
وأهم مقارنة بين الهرم والنيل هي الصورة الذهنية التي لها أثر في الثقافة السياسية. فالهرم رأسي، متدرج بين الأعلى والأدنى كما هو الحال في هرم سقارة المدرج. وهي صورة للمجتمع الرأسمالي الذي يتكون من طبقات أو المجتمع الاستبدادي التسلطي الذي يتكون من الرئيس ثم الوزراء ثم رجال الأعمال ثم رجال الأمن والشرطة. والجيش حارس للجميع. في حين أن النيل يجري من الجنوب إلى الشمال في مسار أفقي يمحي فيها التدرج. يتساوى فيه الجميع. لا فرق بين منبع أو مصب، بين أوغندي أو حبشي أو نوبي أو مصري. وإذا وقفت أمامه صخرة قفز فوقها فإذا هو شلال أو التف حولها وأحاط بها من كل جانب فإذا هو جزيرة. كل الروافد تصب فيه، وتصبح جزءا منه وليست منفصلة عنه انفصالات الأهرامات الثلاثة أو الأربعة. صورة الهرم الرأسية من أسفل إلى أعلى، من القاعدة إلى القمة، وصورة النيل الأفقية من الجنوب إلى الشمال، من المنبع إلى المصب. وقد انطبقت هاتان الصورتان في المجتمع فولدت المجتمع الهرمي الرأسي الرأسمالي، والمجتمع الأفقي الاشتراكي. الهرم صورة الثابت الأبدي، والنيل صورة المتحرك الجاري، مرة فيضان ومرة قحط كما عبرت عن ذلك سورة يوسف في تفسيره لحلم فرعون، سبع بقرات سمان وسبع بقرات عجاف، وسبع سنابل خضر في مقابل سبع سنابل جفاف. وما ساد في الثقافة الشعبية هو الثبات والتدرج الرأسي مما أنتج المجتمع الاستبدادي منذ فرعون الأول حتى الفرعون الأخير الذي قضى عليه الربيع العربي عندما تحولت ثقافة الهرم إلى ثقافة النيل، ثقافة الثبات إلى ثقافة الحركة.
كان الغناء للنيل في حياة المصريين ولكنه لم يكن صورة ذهنية في الثقافة السياسية مثل صورة الهرم. وكان مصدرا للحياة والزراعة وليس صورة للجفاف والصحراء مثل صورة الهرم. زف إليه المصريون عروسا، أجمل فتيات مصر بعد تزيينها. وهي أمنية كل فتاة أن يكون النيل عريسها. ألّهه المصريون كما ألّهوا الشمس وفضلوا النيل. وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ . وإذا كان الهرم رمز العبودية واستعمال آلاف من الفلاحين في بنائه سخرة وعلى قمته وفي داخله فرعون الإله فإن الماء أقوى. فهو الذي تطفو فوقه الحجارة لبناء الهرم. وهو الذي أنقذ موسى في الصندوق حتى وصل إلى قصر فرعون. وهو الذي أنقذ سفينة نوح من الطوفان، وهو الذي أنقذ يونس في بطن الحوت في اليم. وهو الذي أبقى يوسف حيا في البئر حتى التقطه المارة وباعوه إلى قصر فرعون. وهو الذي أنقذ مصر من القحط بتخزين المحاصيل، من سنوات الفيض إلى سنوات الجفاف.
الماء أقوى من الحجر. ضرب موسى الحجر بعصاه فانفجرت منه اثنا عشر عينا. والدعاء للأمطار. وما أكثر الأغاني للنيل يا شباب النيل، يا عماد الجيل ، يا نيل يا سمراني ، النيل نجاشي ، والموجة تجري ورا الموجة عايزة تطولها . فيه صدرت عديد من الأفلام مثل صراع في الوادي ، شيء من الخوف . وحافظ إبراهيم شاعر النيل ، وأعلى قلادة قلادة النيل . هو شريان الحياة في مصر. لذلك من العيب أن تتعثر اتفاقيات مياه النيل بين دوله في حوضه. والعيب الأكبر ألا تتحول صورته الذهنية إلى بنية اجتماعية سياسية يقوم المجتمع فيها على الحرية والمساواة. يتحرك باستمرار من المنبع إلى المصب، من القاعدة إلى القمة حتى يثور المجتمع كما يثور الفيضان.
/4/2012 Issue 4170 – Date 10 Azzaman International Newspape
جريدة الزمان الدولية العدد 4170 التاريخ 10»4»2012
AZP07