المكتوب لي

قصة قصيرة

المكتوب لي

محمد علي الطائي

كهل في الستين، يئس من الدنيا كما يئست منه، قواه الضعيفة تناجز الايام وضراوتها، أغدقت السنين على جسده سيل من الشيب انهمر وانتشر في سائر جسده، غطاه كما يغطي الورق الشجر، ليصيره قطعة بيضاء متهالكة، جلس قرب مدفئة بائسة كبؤسه، مدفئة اضحت على اهبة الاستعدادوهي تتلقف بين لحظة واخرى قطعة خشب لتلهتهما وتصيرها رمادا باليا يغطيه الجمر كما يغطي من القاها الشيب، عاش وحيدا في منزله الهادئ المريب، توفيت زوجته منذ ثلاثين سنة، ولم يتزوج لسببين اما احدهما فوفاءا لزوجه، واما الثاني فلأنه الِف الوحدة والانعزال، توفيت زوجته ولم تترك له ولد يشد به ازره، او يحنو عليه في ظل ايامه التي يعيش فيها، هذه الايام التي أبرزت له انيابها كالوحوش الضارية.

كان قابعا في مكانه قرب المدفأة التي تطلق النور والدفء معا، جلس على كرسيه الهزاز الذي كان صوت اهتزازه كصوت حية تسعى جيئة وذهابا، مد قدميه قرب النار وقد ارتدى جوربان من الصوف، كما ارتدى معطفا اسودا، ووضع على عينيه ( مونوكول ) وصار يقرأ بواسطته صحيفة اخبار مشؤومة، لا تحمل في طياتها سوى اخبار الموت والمآسي، قلب بين اوراق الصحيفة  تلك يقرا مايحلو له من صنوف الموت، وضع بالقرب منه كوبا من الشاي فوق طاولة صغيرة، استمرت يده بالانتقال بين كوب الشاي واوراق الصحيفة والقاء الخشب الى النار حتى احس بالملل فأغلق الصحيفة في ضجر ورماها بعيدا عنه، ثم ارخى راسه الى الخلف ونظر الى السقف الذي ضاق به ذرعا حيث انه بقي ينظر الى هذا السقف كل يوم وعلى مدار ثلاثين سنة.

نهض على حين غفلة، انهضه الملل ولا ريب، صار يجوب اركان البيت ماشيا لا يدري مايفعل، وقف برهة من الزمن امام صورة زوجته المثبتة على الجدار بالقرب من المدفئة، وجد الصورة كأنها تبكي وكان ذلك بفعل خيوط النار التي توجهت اليها وصارت ترسم فوقها مايحلو لها ان ترسم، تأمل عيني زوجته الراحلة وهو يتذكر فيهما كل يوم وكل ليلة قضاها معها وهي تسقيه من نهر الحب الذي لم ينضب لحظة واحدة والتي مازالت تسقيه منه حتى بعد رحيلها، روحها هي التي مازالت تكتنفه وتسقيه الحب، دار في البيت دوران من به جُنة او مس من الشيطان، بعد كل هذه الجولة التي قام بها احس بالحرارة تتأصل في عظامه فخلع معطفه بشي من الضجر ثم الفاه الارض.

اتجه بخطى مثقلة يائسة الى النافذة التي تطل على الشارع، بعد اطلالتها على باحة خضراء محاطة بزهور براقة من شتى الالوان والانواع، أطل من خلال النافذة الى الشارع الذي يرسل بين لحظة واخرى مركبة مسرعة او امرأة مترجلة او رجل شارد، صار يرقب المارة من خلال نافذته التي كانت اشبه بمنصة يرى من فوقها جميع الناس الذين يمكثون امامه، راقب الناس بشغف وكأنه مصاب بالتوحد، كان قد افتقد للجنس البشري، هذه المخلوقات التي تكذب وتخون وتسرق وتنافق وتغدر ولكن بالرغم من هذا الا انه يصعب الاستغناء عنهم، وربما يستحيل.

استرسل في حملقته التي كان ملؤها الندم والحسرة على مافات من عمره هبائا، راقب كل من ظهر امامه يمشي على الطريق يسأل نفسه : ياترى هل هناك احد ممن يمشون امامي الان يشعر بالوحدة كما اشعر؟ هل يأسفون على مافات من اعمارهم كما أأسف؟ هل يقتنصون الفرح في ايامهم ليتخذوه زادا للايام المعسرة المظلمة؟ هل لديهم من يؤنس وحدتهم ويملئ حياتهم؟ فما زادته اسئلته الا هما وغما، استدار عائدا الى كرسيه الهزاز الذي احسه موته الذي لا مناص منه، جلس على كرسيه بشيء من اليأس، وعاد سيرته الاولى مادا رجليه نحو النار وارخى رأسه ناظرا الى السقف، مع هزة بسيطة بكرسيه التي كان يشعر بكل هزة من كرسيه بدنو اجله.

تناهى الى اذنه طرقة باب، ولكن الشك راوده، حيث انه لم يُطرق بابه منذ ايام، ارهف سمعه وارتقب، فأذا بطرقة ثانية تهوي الى الباب، فوثب من كرسيه وقلبه يملؤه الحبور والنشاط، اتجه الى الباب وفتحه بلهفة وشغف، نظر الى الطارق فأذا به شاب في العشرينيات، قد تحصن من البرد بثياب مانعة للبرد فحسب، اذ لم يكن في مظهره مايدل على انه يروم اناقة او قيافة، بل اتقاء برد ليس الا، بادره الكهل بالسؤال : تفضل.. بما استطيع مساعدتك؟

فأجابه الشاب : هل انت السيد احمد؟

– نعم انا هو.. ماذا تريد؟

– احمل مكتوبا لك، فتناول سجلا بداخله قلما قائلا له

ولكن قبل ان اعطيك المكتوب وقع هنا لو سمحت

فوقع الرجل واخذ المكتوب ثم دلف الى الداخل بعد ان انصرف الشاب، عاد الى كرسيه مسرعا ثم القى بجسده على كرسيه وفتح المكتوب بعد ان وضع ( المونوكول ) على عينه وبدأ بقراءة المكتوب الذي جاء فيه :

( مساء الخير.. تحية طيبة وبعد..

هل اقول لك كيف الحال ياسيدي ام اخاطبك بحبيبي؟ كم يتمنى لساني مناداتك بحبيبي ولكن وقارك هو من يمنعه، رجولتك الطاغية هي التي كبلتني بالاغلال حتى عجزت عن مبارحة عينيك، رأيتك لاول مرة وانت تجتاز الشارع بالقرب من منزلنا، ثم عادوت رؤيتك في مطعم كنت لوحدك تتناول غدائك وكنت محاطا بهالة من الاتزان، وجهك الذي تفجر رجولة وصلابة هو ذاته الذي فاض حسنا وحبا، كل خط في وجهك يروي سرا من اسرار الرجولة التي يجهلها الكثير من الذكور، رأيتك حينها وقد كنت في لهفة لمخاطبتك والجلوس معك ولكني ماان رأيتك حتى اعتراني الوجل.. هذا الوجل الذي اطلقته هيبتك ليستقر في قلبي ويلتحم في اوصاله حتى ثبتني في مقعدي لا اقوى على الحراك، وها انا ذا الان ارسل لك مكتوبا عله يحررني من القيود التي قيدتني بها رجولتك الراسخة.

احببتُ فيك الهيبة والوقار، احببت الرجولة الفتاكة التي تتطاير من عينيك، احببت يديك التي كانتا كخيمتين وهما يرتديان قفازان، احببت ثقتك التي اودعتها فيك الايام، احببت مشيتك التي كانت كمشية قطار لا يغير اتجاهه مهما حدث حتى يبلغ وجهته، ياسيدي وحبيبي.. اني احبك ).

رفع رأسه وقد اجتاحت وجهه ابتسامة شطرت وجهه الاشيب الى نصفين، هذ الوجه التي احتلته التجاعيد والاسنان البالية التي اخترقها الاصفرار من سنين ولم يزاولها، نظر الى ماحوله بعينيه العجوزتين وحاجبيه الابيضين، وهو لا يصدق ماقرأ، هل يمكن لانثى ان تحبه؟ بشكله هذا !

هل يعقل ان تحبه امرأة بسنه هذا؟ بكهولته وشيبه وحدبة ظهره؟ دارت في خلده هذه الاسئلة مع فرحة اعترته لما قرأ، شعر بالتجاعيد وهيا تبارح وجهه وبأسنانه ترص من جديد داخل فمه.. بظهره يستقيم.. بشعره الاشيب وهو يسود ويسود ليمسي قطعة من الليل، اضيئت الدنيا وانتشر فيها عطرا كعطر الياسمين، بيته الموحش المظلم اضحى روضة يكتنفها النور، هل هذا هو الحب؟ سأل نفسه، هل الحب يصنع المعجزات كما يقال وكما قرأت في الكتب؟ هل انا عاشق !

ولكن عاشق من؟ وانا لا اعرف معشوقتي، في خضم تساؤلاته تلك تدخل فرحه ليزيل عقله ويفسح المجال للقلب ان يبشار عمله، فبدت سيماء العشق تُرسم على وجهه، عيناهُ التي يطوّق الشيب اهدابها بدأت باللمعان، هذا اللمعان الذي لطالما فضح امر العاشقين، هذا الذي نحر اعناق المحبين بين ذويهم حتى طأطؤا رؤوسهم خشية ان يرى احد ذويهم مافي عيونهم من اسرار، استلقى على اريكة قرب النافذة واضعا رجل فوق اخرى بشيء من الدلع !

  وكأنه قد تجاهل سنه، ولكنه الحب ولا ريب ! استلقى على الاريكة ضاما الى صدره المكتوب الذي رصت بداخله احلامه وافراحه، وعينيه ترقبان السماء الزرقاء، رأى فيها كرسيان له ولمعشوقته التي لا يدري عنها شيئ سوى مكتوبها الذي اغفى على صدره، معشوقته التي اعادته الى ريعان شبابه واوج نشاطه ببضع كلمات فكيف به اذا ماجالسها وخاطبها؟ سيلقى حتفه عشقا دون شك.

يالهي.. كم انا عاشق، ياايتها الارض هل في وسعك اتساع فرحيتي، ياايتها السماء هل في وسعك ان تستقبلي انفاسي العتية التي ستطارد ارواح البائسين لتسقيهم الحب وتزرع فيهم بذور الحب لتصيرهم احياءا عشاقا يسعون في الارض، ياايتها الدنيا استعدي لما هو قادم، ها هو حبي قادم اليكِ سيصيركِ اقحوانة تبث العطر في الطرقات، قطرة غيث تروي قلب الثرى لتجعله يبدو بأبهة حلة،

فجأة طرق الباب.. ولكنه حاول تكذيب سمعه قائلا لعلي اختلقت الصوت في نفسي، ولكن بعدها بثوانٍ عاود الطارق طرقته للباب بشكل اقوى، فنهض الرجل على عجل واخذ المكتوب واعاده في ظرفه ثم واراه جيبه، واتجه الى الباب وفتحه، فوجد ساعي البريد امامه وقبل ان يتفوه بأي كلمة عاجله الشاب قائلا : ارجو المعذرة ياسيدي.. ولكني اعطيتك قبل قليل مكتوبا، فتغير لون الكهل واعتراه الوجل ولكنه انتظر الشاب ان يكمل كلامه، فأستأنف الشاب كلامه قائلا :

ولكن اتضح اني اعطيتك المكتوب خطأً لاني عندما ذهبت الى البيت الذي في نهاية الزقاق اتضح ان صاحب المكتوب يقطن هناك، فأرتعدت اوصاله وخيم عليه الخوف واجاب بشئ من الهلع الطفولي : لا انه لي، فأجابه الشاب : ارجوك ياسيدي لا تتسبب لي بمشكلة، فالمكتوب لرجل يقطن في اخر الزقاق كما اخبرتك والرجل ينتظر مكتوبه لاني اكتشفت خطأي عندما وصلت اليه واردت تسليمه المكتوب، فما كان من الكهل الا ان اصر على كلامه قائلا : لا ان المكتوب لي

فقال له الشاب بشيء من الرجاء : ياسيدي اتوسل اليك ان تعطيني المكتوب فصاحبه ينتظرني، فأجابه الكهل :

ولكني انا صاحبه، فقال له الشاب :

مااسمك ياسيدي؟

فأجابه الكهل : احمد حسين

فقال له الشاب : ولكن المكتوب لشخص يدعي احمد حسن وهذا هو سبب الخطأ

فمد الكهل يدهي الى جيبيه غير مصدق قول الشاب واخرج المكتوب فقرأ على المظروف (الى احمد حسن) وما ان قرأ الاسم حتى خارت قواه وشاهد المكتوب يفارق يده ليستقر بيد الشاب، وسمع الشاب يثرثر ممتنا مبتسما فرحا، وهو في صدمة تمنعه من ان يعي بما حوله، فترك الشاب واستدار ليدخل الى الداخل ويغلق الباب وأتكأ الى الباب وانزلق حتى افترش الارض، ثم نظر الى صورة زوجته المثبة على الجدار.

مشاركة