المكان عند الروائي ناطق خلوصي

المكان عند الروائي ناطق خلوصي

 

فضاء تتحرك في رحابه الشخصيات

 

 حمد علي حسين

 

  المدخل:

 

من توصفات علم  الأنثروبولوجيا بانه العلم الذي يبحث في أصل  الجنس البشري و عاداته و طقوسه على أساس وحدة الأنسان مع الطبيعة و الطبيعة هنا بمعنى الوسط البيئي،أي المكان و هذه إشارة إلى ارتباط الأنسان بالمكان الذي يحمل كل مواصفات المأوى من أي نوع وهذاالوصف لا يقتصر على وظيفة البيت للسكن فقط بلٍ ينزع ، بالإضافة  إلى  ذلك، إلى  القيم الإنسانية العالية للمكان  الذي يعيش فيه الإنسان  كمأوى ممتلكا اليفا و من هذا  المفهوم لا يُعد المكان عالما من الجمادات المجردة بل هو  حيز ذو دلالة غير أعتيادية ،  أنه الحيز الذي له قيم المكان المسكون.

 

            يُعد المكان الفضاء التي تتحرك في رحابته الشخصيات في العمل الروائي و القصصي و له وظيفة محددة ، لذا هو ليس الحيز الجغرافي التقليدي غير ذي ألأهمية أوالدلالة، أنه المكان الأليف عند المقاربة من وصف ” جاستون باشلار ”  في كتابه الموسوم ” جماليات المكان ” و كثيرا  ما يلجأ الروائيون و القصصيون إلى الخيال المادي في محاولة التعامل مع المكان عنصرا جماليا إبداعيا ، أو قد يصف آخرون المكان بواقعية كوسيلة تأؤيلية إبداعية من خلال الدلالات الرمزية لتصوير الحياة   و للتعبير عن رؤاهم و هذا ما يجعل للمكان وظيفة التعبير عن الزمن ، أنه مسرح للماضي و الحاضر و المستقبل ، و قد يكون المكان عند آخرين قوقعة تنكفئ فيها  الشخصيات  ، كما شكل المكان في الأعمال الروائية و القصصية  و المسرحية و التشكيلية ، اللوحة ، فضاء جماليا أكثر من كونه مكانا جغرافيا ، و أصبح  ذا دلالة عالية الترميز لتجليات الروائي و القاص و المسرحي و الرسام و رؤاهم الفلسفية و الفكرية و الاجتماعية .

 

أكتسب المكان جماليته بعد خروج المبدعين في أعمالهم عن وحدة المكان كعنصر في العمل الإبداعي كما جاء في كتاب ” فن الشعر ”  لأرسطو حيث يذكر (  أن وحدة المكان تعني وقوع الحدث في مكان واحد)، بالإضافة إلى وحدة الحدث و وحدة الزمن. و أصبح بذلك مجالا واسعا يوفر للمبدع ، روائيا و قاصا و مسرحيا و رساما ، متسعا فضائيا يمده بالحرية للانطلاق  في رحابة مديات كبيرة و هكذا لم يعد المكان صورة فوتوغرافية ثابتة مستنسخة من الواقع بل صورة متحركة بحيوية كبيرة تمنح المؤلف قدرة أكبر على التعبير.

 

كيلا  تعيش الشخصيات عزلة موحشة  .يلجأ الروائي و القاص إلى استعراض دقيق للمكان من خلال وصف مسرف في تناول التفاصيل  الدقيقة و كأنه يقوم بعملية مسح تحليلي خارجي لتبيان التأثيرات البيئية على الشخصيات في العمل الإبداعي ، كأن يكون البيت العائلي أول معايشة مع المكان ثم مع الزقاق كأول إطلالة على العالم الخارجي و هكذا المدينة  ، أي أن تنوعات المكان لها ارتباطها بمشاعر الشخصية و وعيها ، فالشخصية التي نشأت و ترعرعت في المدينة لن يكون لها  الارتباط المكاني للشخصية التي نشأت و ترعرعت فيه ،  الريف و كذلك الهور و الجبل و البادية  او الواحة. لكل واحدة من الشخصيات كينونتها الخاصة التي يصوغها المكان  و ربما  تكون نظرتها للحياة سجينة ،إلى حد ما ، لحدود المكان ، أي الفضاء  ذي البـُعد السيكولوجي ، بالإضافة  إلى البعد الجغرافي ، قد تحاول الشخصية الأنعتاق من أسر محددات المكان من خلال عملية تخيلية أو حلميه ، أحلام اليقظة، فتترك الخيال يتجول في متاهات الذاكرة ، ليس ذاكرة الزمن  بل ذاكرة المكان من خلال عملية أسترجاعية ، حالة ارتدادية  لمواجهة واقع قاس  و هكذا تصبح  محاولات أحلام اليقظة و التخيل وسائل لعبور أسوار المكان.(  باشلار المصدر السابق) أن محاولة التصدي لتجربة دلالة المكان في الرواية العربية في العراق محاولة محفوفة بالصعوبات المختلفة  ،فقد تختلف  رمزية تلك الدلالة من روائي لآخر و من عمل لآخر و من مرحلة زمنية لآخرى. و تتضح رؤية الروائي و القاص الأيديولوجية للمكان   ، أي الحيز الذي تعيش في الشخصيات و تتحرك في فضاءاته ، وفق وضعها الطبقي الأجتماعي و تناقض ذلك الوضع ، و لذا تـُعد وظيفة المكان أنعكاسا  لمعتقدات الروائي او القاص و افكاره و رؤيته ، أيديولجيا و أخلاقيا ، ورؤيته للعالم و كيفية تعامله مع مفردات الحياة  في المدينة و الأزقة و الأحياء الشعبية و الريف  و غيرها. فهو ينتقي المكان وفق تلك الرؤية ,  ليس بعملية أعتباطية  كما يبدو للقارئ  اول وهلة. و ينبغي ان يتماهى المكان كوسط بيئي مع طبيعة تكوين الشخصية و كينونتها و معبرا عن انتمائها الطبقي و الأخلاقي و الفكري  من خلال عملية واعية  بالنسبة للروائي أو القاص. بيد أنه ينبغي الأخذ بالأعتبار ، أن ليس بوسع الشخصية بذاتها  انتقاء المكان  وفق  أرادة  واعية  ومسبقة ، و بل أنه نوع من القدرية ، فالشخصية  تجد نفسها في مكان محدد يضعها فيه الروائي أو القاص  و تتحرك اطلاقا من التغيرات  التي تستجد في حياتها ، اقتصاديا و اجتماعيا و فكريا و لايكون تغيير المكان نتيجة تغيير في قناعتاتها ، أي في المستقرات الذهينة و النفسية لديها بتأثير عوامل خارجية .

 

هذه محاولة لتأطير تجربة الروائي و القاص ” ناطق خلوصي ”  مع المكان  كفضاء جمالي ،من مختلف وجوهها  ،لأننا كما أسلفنا في المدخل أن للمكان وظيفة ينبغي التعامل معها من خلال وقفة تأويلية تحليلة  تساعد كثيرا في الكشف عن الدلالات الرمزية للأماكن التي توجد في رحاباتها الشخصيات  في اكثر من عمل من أعماله الروائية و القصصية عبر مسيرته الأبداعية الطويلة في كتابة الرواية  والقصة القصيرة ، أي من مجموعتة ” الهجير “الصادرة عام 1978 و انتهاء عند رواية  ” تفاحة حواء ” الصادرة عام  2014 .

 

عند الروائي والقاص خلوصي، يتسع فضاء  المكان كل عالم المدينة ، عالم  الأزقة و الأحياء الشعبية بالإضافة إلى عالم القرية   ،الريف، و بكل سماتها ، أنه ينتقي المكان وفق رؤية آيديولوجية و منطق  أخلاقي ، أنها ليست عملية إعتباطية كما قد  يبدو للقارئ لأول وهلة. ويُعد المكان  وسطا  بيئيا يتماهى مع تكوين الشخصية و كينونتها و معبرا عن انتمائها الطبقي و الأخلاقي ، الذي لا يكون بالنسبة إلى الشخصية عملية واعية حيث لا يكون بوسعها أن تنتقي المكان وفق موقف فكري وخلاقي و لا وفق إرادة واعية بل بنوع  من القدرية حيث تجد الشخصية نفسها في مكان محدد  أولا و ربما قد تكون هناك  عملية انتقاء، انطلاقا  من المتغيرات التي تستجد في حياتها أقتصاديا و اجتماعيا و  فكريا وبالمحصلة النهائية قد يبدو تغيير المكان تغييرا في المستقرات  الذهنية لدى الشحصية بتأثير عوامل خارجية وقناعاتها، و إنكاسا  لرؤية الروائي أو القاص الفكرية . لنحاول استكشاف وظيفة المكان كفضاء جمالي من خلال استعراض مجموعة قصص ” الهجير ” الصادرة عام 1978.أولا .

 

يحاول القاص خلوصي مزاوجة عالم المدينة ببناياتها العالية و شوارعها و ازقتها و بيوتها المختلفة الأنواع و بين عالم القرية و الريف باشجاره الباسقة والنهر و البيوت الطينية البسيطة و الأجواء الجميلة.بعد قراءة قصص المجموعة لايكون بمقدور القارئ أن يحدد وظيفة  معينة بسمات واضحة للمكان فالمدينة غير متميزة  إلا  من خلال بعض الإشارات المتناثرة بين السطور: البنايات العالية والأزقة و بيوتها و الشقق التي  يصفها القاص ” المكعبات الحجرية معلقة بالسكون و لو لا تلك الاضوية المتسللة من بين ستائر النوافذ المسدلة يكاد يخيل للمرء أنه في مكان مهجور) ( الهجير . ص 56  ) المكان كما ان ثمة إشارة للمدينة ذات اكواخ  الصفيح في اكثر من قصة .   أما عالم القرية و الريف ، فله سماته المتميزة الخاصة حيث ) استقبلتنا الحديقة البهية و مشينا فوق الأرض الخضراء، فوق العشب الندي و النباتات الواطئة تضللنا اغصان الأشجار يتخللها ضوء الشمس ، شمس ربيعية فاترة آفلة للغروب .) ( الهجير .ص  (54 . في قصة ( الأخدود ( الهجير ص ( 5 يصبح الكوخ الطيني اشارة واضحة للريف ملاذا آمانا .

 

خدمة السرد

 

يركز القاص اهتمامه على المكان وسيلة لخدمة السرد و اطارا عاما لوجود الشخصيات  وإيحاء  للقارئ بوظيفة المكان ، كما أنه يلجأ لمزاوجة المدينة و القرية ، الريف  و إنْ  تبدو  الغلبة للمدينة ، غير أنه يحاول إضفاء بعض سمات القرية على المدينة واكساء بيوتها و شواعها و أزقتها  بتلك السمات  .

 

يشكل المكان في رواية ” منزل السرور عام 1989 ” فكرة آيديولجية بالإضافة إلى فضاء جغرافي.فللمنزل  سمة طبقية من حيث هو تجمع للعوائل الفقيرة  و النازحة من المدن الأخرى و تمثل عينات منتقاة بقصدية و صدقية واضحتين. أنها بحق أنماط بشرية تعيش على تخوم القاع الإجتماعي للمدينة و هي تعاني من إنسحاق أجتماعي ، الفقر و اللفاقة ،و الجهل و التخلف و كما هي نماذج  لشرائح بشرية مضطهدة إجتماعيا وأقتصاديا، فانها تضم أيضا بينها شخصيات ذات إتجاهات و نشاطات سياسية وطنية . و تقدم هذه الرواية المكان بصور حية تتمثل بأسماء محلات بغداد و أزقتها  و شوارعها و هي زاخرة بحياة الناس . يؤدي المكان دلالة رمزية واضحية من خلال  تواجد مشرحة الطب العدلي و المقبرة و سجن بغداد المركزي في منطقة واحدة .

 

في رواية ” الخروج من الجحيم عام 2001 ) لا يتعامل الروائي مع المكان ، الوطن ، بعداً جغرافياً وكياناً مادياً من تراب و شجر بل كمنظومة قيمية إنسانية و حضارية و ثقافية و تراكم من  عطاء الإنسان العراقي عبر فترات زمنية متعددة بما يشكل عنوانا كبيراً لحب الناس  للمكان ، الوطن ، الذي أخذ الخراب و الدمار يسرح في ربوعه عام 2003 .

 

تبدو رواية    “المزار ” رواية المدينة بحق  حيث تتسيد المدينة على المكان بكل رحابة عالمها : الشوارع المعلمة باسمائها ، شارع حيفا و شارع ابي طالب ,علاوي الحلة… .  أزقتها وأحيائها و يلعب البيت ، ذاكرة المكان الأولى عند المرء، دورا متميزا بسماته  الواقعية حيث تأتلف معه دلالات الشخصيات المتحركة في رحابتة بألفة و له بذلك قيمة مكانية كثيفة الدلالة، أنه المكان الأول الذي ترتبط به ذاكرة الشخصيات في الرواية مسرحا للماضي.

 

لا يلجأ الروائي في ” المزار ” الى الخيال ليعبر عن المكان فضاء جماليا ويتعامل معه بقصدية واضحة  و بواقعية غير مستنسخة  بفجاجة  ،فالحارة و الزقاق والمزار و المقابركلها ذات دلالات رمزية ، فإلإشارة إلى المزار تعبر عن حاجة الإنسان  إلى المعتقد كنوع من اليقين فهو يؤمن بشتى المعتقدات على أنها رموز إيمانية ، و تلعب تلك الرموز دورا في الكشف عن تلك المعقتدات و عن المستقرات الذهنية  منذ زمن بعيد. أن المزار مبعث راحة روحية للشخصيات ، فقد ارتبط ارنباطا وثيقا بموروث تلك الشخصيات الذي يشكل حيزا كبيرا من ذهنياتها التي تؤمن بالأسطورة و الخرافة على حد سواء و تجد فيه ملاذا تهرب إليه باحثة عن السكينة والألفة .

 

يختار الروائي  ثنائية  شديدة الترميز للمكان :  مقام الخضر،المزار، و المقابر بقصدية  واضحة وليس بعملية إعتباطية كما  قد يبدو للقارئ أول وهلة، فهو يجعل من المزار ملاذا روحيا لشخصية المدرس الأرمل ” عبد السلام ” الذي يعاني من قلق مبهم يتغلل عميقا في مكنوناته الوجدانية و يقدم الروائي هذا المزار بكل ما فيه من رمزية مكانية  ، سكينة لشخصية المدرس الأرمل  حيث يلتقي بالأرملة الشابة ” مريم ” الشخصية النسوية الرئيسة في الرواية ، ليوحي للقارئ بأهمية الجانب الروحي المكون للشخصية وخلاصا لها من القلق و الأضطراب اللذين يعتمرإيوارهما في داخلها و من المشكلات الناتجة من ذلك و بهذا لا يشكل المزار للقارئ خبرة صورية بصرية فجسب بل عنوان طقس روحي . يعد أختيار الروائي لمقام الخضر عن دراية و معرفة مسبقة به ثم يوظفه بنجاح مسرحا رحبا لولادة العلاقة المشرعنة بين الأرملين .  في معتقد الكثير من الشعوب ، المسلمين و المسيحين الشرقيين واليزيدبن واليهود  ،أن الخضر حي يرزق لا يفنى و لا يموت. يذكر السيد لطفي الخوري في  كتابه الموسوم   ) معجم الأساطير ج 2 ص (6,5 ان الخضر أو خضر الياس )  شخصية دينية شعبية لا يعرف عن اصلها غير وجهها الأسطوري و أنه الفارس المقاتل الذي ينتصر دائما للحق و الصلاح و التقوى  (  ويذكر ايضا )   لا  يعلم احد من اين جاءت كلمة الخضر أو ما هو اصلها ، أما الياس فهو في الغالب الشخصية نفسها التي ذكرها العهد القديم باسم (إيليا ) و يصفه ب(   شخص رصين تشع من وجهه الأنوار و يلفه شعاع رباني ، قلما يشاهد  دون فرسه الملحاء و التي تستطيع أن تطوي الفيافي والقفارباسرع من لمح البصر و يستطيع السير في  البر و البحر والهواء على حد  سواء و يرتدي ملابس شديدة الأخضرار أو ناصعة البياض و يعلو رأسه تاج مرصع يعكس أنوارا ساطعة و بيده علم أخضر. ( و يصفه الروائي على لسان الأرملة “مريم” أنه )  لا يستجيب لأمنيات تنطوي على ضرر للناس مثل دعوة الأنتقام ) ( المزار ص 111

 

ان سمات المدينة عند خلوصي : الأحياء السكينة التي تنبض بالحياة و تزخر بانواع شتى من الناس و ان كانت الغلبة هي للطبيين الاسوياء ، فالمدينة المكان الحاضن لأحلامهم و طموحاتهم و معاناتهم تلك التي سببتها الحرب: الأرامل و الثكالى و الأيتام و معوقو الحرب. يوظف الروائي تلك الأماكن فضاء كبيرا للوجود  الحي للناس و في المدينة أيضا تشغل المقابر حيزا ملفتا للنظر بعد ان اتسعت مدياتها أثناء الحرب و أصبحت زيارتها  طقسا روحيا يعبث السكينة لذوي الشهداء من الأمهات  و الأبناء و الأرامل والأيتام . أن تلك المقابر تتواجد مع الأزقة و ألأحياء السكنية, أنها أماكن الأموات جسديا والأحياء في الذاكرة و في القلوب. يوظف الروائي بقصدية واعية المقابر مكانا يلتقي فيه الأرمل و الأرملة كما التقيا أول مرة في المزار،مقام الخضر، الحي الذي لا يفنى و لايموت ، لذا يعد فضاء يعيد الحياة إلى جسدي الأرملين التي تعطل جزء مهم فيهما بفعل الحرب: وفاة زوجة الأرمل ، عبد السلام ) حزنا على استشهاد ولدها  وإستشهاد (فارس ، زوج الأرملة  ،مريم   و يرود الروائي ، كإيماءة سياسية ، فرقا كبيرا و رائعا بدلالته الكنائية ، بين تلك المقابرو مقابر الإنكليز ( في رصافة بغداد ) بشواهدها التي هي شواهد على ما خرجوا به من احتلالهم البغيض للعراق ) ( المزار ص 305    )

 

كما يتعامل الروائي مع احياء بغداد السكنية وازقتها بقصدية عالية أيضا فلم يغب عن ذهنه أن يجعل منها حيزا تتعايش في فلكه النوازع إلى الخير والدوافع على الشر و هكذا  تنتفي صفة الأنتقائية التخيلية في التعامل مع المكان.

 

 كما أن هناك النهر الذي يشغل احدى شرفات ذاكرة المدرس الأرمل التي يطل منها على مسرح طفولته و لعبه وسباحته فيه مع اترابه من الصبية  ( (المزار ص  11 و في المزار نجد للجسر وظيفة ليس لربط جانبي المدينة بل وسيلة للعبور إلى الجانب الآخر حين يلتقي بالأرملة التي اصبحت الآن الطرف الآخر من ثنائية المكان .

 

للمقابر ,حيث قبور الموتى ، دور مهم في الكشف عن جذر طقس روحي في زيارتها ، الزيارة التي لها تقاليد موروثة مما يجعل المقبرة مكانا ذا طقوس خاصة به وخاصة زيارتها اول يوم من أيام العيد، فهذه مريم تنهض فجرا لزيارة قبر زوجها الضابط الشهيد (فارس ) ( وسط غابة  قبور و شواهد منتصبة .) (المزار ص 266 ) و بعد أن تجفف دموعها تلقي ( باقة أغصان الآس جانبا و رفعت يديها و بدأت تتمتم بسورة الفاتحة ، أنحنت و التقطت باقة أغصان الآس، نادت على أحد الصبية فجاء راكضا و قد تأرجحت صفيحة الماء في يده و تناثر بعض ما فيها و بلل ثيابه . سارع و كأنه واقع تحت تأثير الخشية من أن يأتي منْ يزاحمه فسكب ما في الصفيحة على القبر و صار يكنسه ، وحين أنتهى دس النقود التي نفحته بها في جيبه و أنطلق راكضا نحو مصدر الماء.) المزار ص  266 و يرود الروائي صورة دقيقة و رائعة لعالم المقبرة في يوم العيد ، طقسا خاصا مرتبطا بهذا المكان ،  حيث يوجد (الشحاذون و قراء القرآن و حاملو صفائح الماء و بائعو و بائعات الشموع و البخور و علب الثقاب و قد أعد كل واحد منهم و كل واحدة منهن كيسا مخصصا لوضع ما تجود به أيدي الزائرين من فواكه و معجنات .) ( المزار ص 266   )

 

توظيف المكان

 

في ” المزار  الروائي ثنائية المكان ، مقام الخضر و المقبرة  والموائمة بينهما، تعبيرا عن جذر الروحي لدى الشخصيات بتواجدها فيها ، فيجمع  الأرملين  ، المدرس ” عبد السلام ” و ” مريم ” في المقبرة مصادفة أثناء زيلرة كل منهما لها في العيد  و تقول  “مريم” ( أن قبور أحبتنا متجاورة ) ( المصدر السابق ص 272) ، الأحبة الذين أنتزعهم الحرب من ذويهم . أن الروائي يوحي للقارئ أن الأحياء امتداد طبيعي  لتجاور أولئك الأحبة الموتى و ان الحي أولى من الميت ، وأن الحياة ينبغي أن لا تتوقف لموت أحد . ( فسارا متجاورين و خلفا قبور الأحبة وراء ظهريهما و قد أنفتح أمامهما طريق يمكن أن يفضي إلى أجمل الأحتمالات .) ( المزار ص 272)في رواية ” شرفات الذاكرة” يوظف الروائي المكان إطارا موضوعيا  إلى الجذر الديني و الى النشاط السياسي ، من  دون اللجوء إلى جمالية متخيلة ، و تتمثل ال دلالة الدينية الإيمانية للجذر الروحي و الطقس الأعتيقادي بالأشارة إلى مرقد الأمام الجليل و طقوس زيارته  للتعبير عن جذر تلك العادات التي اصبحت جزءا من المستفرات في ذهينيات  زائريه  و نمط  تفكيرهم و حياتهم من غير أن يشير إلى تمايز طبقي أشارة مباشرة و شغل النشاط السياسي اكثر من مكان كمسرح للصراعات التي  حدثت في المجتمع بعد  عام 1963.أن المكان مسرح مألوف عند الروائي فجعله بقصدية مرتبطا بتجربته التي عاشها طفلا و صبيا و طالبا جامعيا ثم مدرسا ، و هذا ما يجعل الروائي قريبا من النزعة الواقعية من خلال تحديدات المكان جغرافيا و إن  أكثر صوره من النمذجة و التنميط ، صور القرية العراقية بعالمها و ناسها و تقاليدهم الأجتماعية و أنماط حياتهم البسيطة و قد وفق الروائي بدرجة كبيرة في ذلك ، كما نالت المدينة التي راح يتجول فيها ايضا ، على حصة ةكبيرة من أهتمامه و أصبحت  الأطار  المكاني المفضل عنده  ففيها محطة القطار و مرقد الأمام الجليل الذي قام بزيارته و تشير الأنطباعات التي تخلفها زيارة المرقد إلى عمق الجذر الديني عنده ،على الرغم من  الرواية لا تظهر التدين  لديه. فلم نره  من ذي قبل ،مشاركا في الطقوس  ذات  الإداء الجمعي ، مواكب التعزية و الندب و اللطم. في رواية ” تفاحة حواء ” يستمر الروائي في محاولاته التنقل من اكثر من مكان كلما يجد هناك ضرورة للحدت الحكائي ، فنراه يتنقل من بغداد إلى عمان ثم القاهرة حيث يعيش منير ،زوج سلافة ، المهاجر قسرا مع عراقيين آخرين . في داخل مدينة بغداد يأخذ الروائي  القارئ في جولاته في ربوع بغداد التي لها ، كماهو واضح تماما  حصة كبيرة في كل منجزاته الروائية

 

 يمكن القول أن الروائي يمتلك مفهوما ماديا للمكان و ليس مفهوما مثاليا و هذا جزء من نزعة الواقعية في مجمل اعماله القصصية و الروائية وبذلك  يتجسد  البعد المكاني  من خلال مقاربات ايحائية شفافة ، شواهد الأبنية  المعمارية و الأثرية و التراثية  أو من خلال ايمائية ترميزية ، رمزية الجسر و علاقته بين ضفتي النهر الذي تعبر منه الأرملة ” مريم” في رواية  “المزار ” وعلاقة  المزار في المأثور الشعبي و الطقوس الأعتقادية  . في رواية ” شرفات الذاكرة ” يعيش ” سعيد جليل ” بطل الرواية ، كذاك الحال مع منير و سلافة في ” تفاحة حواء ، تحت وطأة الشعور بالحنين الى المكان ، الى المدينة الأم ، و ما عودته لها إلا محاولة لأستعادة نوع من التوازن النفسي من خلال العودة إلى الجذور و الألفة و التعاطف الودي مع المكان نفسه و مع الناس الآخرين الذين تمثلوا  بالصديق القديم ،صاحب المطعـــــــــم ، و الشـــــيخة “منــــار “الشخــــصية الـــــمؤثرة فـــــي السـرد الحــــــكائي فـــــي الرواية.