المشعوّذ والقرية السعيدة
في زمن موغل في القدم كانت هناك قرية سعيدة تعيش على شفا تفرع صغير من نهر عظيم يروي عدة بلدان وظلت هذه البلدان بكل مدنها وقراها تعيش في أمان وسعادة وكان سكانها يود بعضهم بعضا فاذا ما التقى احدهم بالآخر حياه بلطف ومودّة فان كان يحمل حملا ثقيلا ساعده في حمله وان كان يعمل عملا ساعده جيرانه وأقرباؤه في انجازه وان قصد مكانا يجهله أوصلوه اليه آمنا . وكان يُضيف ويُحسن اليه سواء أكان منهم أم غريبا . وسكان هذه القرى متعددو الانحدارات غير ان هذه الصفات تجمعهم كلهم فقد تربوا تحت فسطاط واحد وشربوا من نفس النهر العظيم منذ الأزل .
كان سكان القرية السعيدة يمرحون في ساحاتهم ويلتقون ليقوموا بأعمالهم ومراسمهم المعهودة حتى اذا ما احتفلوا بعيد من أعيادهم الكثيرة ظل أحدهم يرمي دلاء الماء على الآخر وهم في صخب مرح . وفي مثل هذا اليوم مر بهذه القرية رجل غريب يرتدي مسوحا غريبة وحين شهد مرحهم وفرحهم وقف على كثب منهم لكن مزاجه كان متعكرا لسبب ما فلم يعجبه ما هم فيه . غير انهم حين رأوه رحبوا به واقتادوه الى حلبتهم وظلوا يحاولون إزالة ما به من كدر وكآبة غير انهم لم يفلحوا وأخيرا تملص منهم الرجل ومضى لشأنه . مضى الرجل قدما في طريقه حتى وصل موضع تشعب النهر الصغير المتألق الرجراج فوقف عنده ولاحظ وجود ربوة يانعة تطل برأسها على النهر كأنها تحدق في مرآة أبدية هناك فإرتقى اليها وكانت تطل على المزارع والسهوب إطلالة جميلة فقرر أن يكون هنا مسكنه . وضع جرابه الثقيل المنبعج كحدبة كبيرة على الأرض وبدأ يُزيل ما هناك من حصى وصخور صغيرة وكتل متحجرة بركلها الى التشعب المائي الصغير وأخير بعد أن أصبحت الربوة شبه ممهدة أخرج بساطا ملونا بألوان داكنة من جرابه فرشه على الأرض وجلس عليه يتعبد بعبادته الخاصة . ثم جال في المكان مع مديته الماضية فقطع بعض الأغصان الكبيرة القوية ثم وجد بغيته في كتل كبيرة بدأ برفعها واحدة بعد الاخرى الى حيث مكانه المختار كان رفعه للكتل الصخرية الكبيرة لا ينسجم مع مظهره البالي ومدى تقدمه في العمر الذي تظاهر به بكل الوسائل . ثم سعى الى نخلة قميئة وانتزع بعض سعفها ليلقيه والأغصان فوق بيته المستحدث . لم تسقط نظرة الكآبة عن وجهه أبدا بل ساءت أكثر . ومنذ فجر اليوم التالي أخذ يقوم بجولات طويلة يعود منها منهكا مصفر الوجه والكفين ويوقد نارا يصنع عليها طعاما ليأكله ثم ينصرف لطبخ ما جاء به من أعشاب على نار هادئة حتى منتصف الليلة وقد وضعها في قدر خاص اتشح بالسواد . وفي منتصف الليل يرمي ما في القدر الى النهر الصغير . وبعد عدة ليال مثل هذه لاحظ أهل القرية السعيدة تغيراً بأمزجتهم وتحولاً بأخلاقهم وعزوا ذلك لتغير طفيف في طعم ماء نهرهم الصغير وبدأ نوع من الخصومات واللجاجات تنبري بينهم ثم تضاعفت لأن المرارة ذاتها زحفت الى مزروعاتهم وخضراواتهم حتى بدأوا بافتعال خصومات تافهة واشتباكات لا مبرر لها وبعد بضعة أسابيع اخرى نشبت بين الجميع حربٌ كبيرة كانت ساحتها نفس ساحة مرحهم بالأمس ثم انطلقت حرب عوان لا لأحد منهم ناقة ولا جمل فيها وأخذوا يطعنون بعضهم بعضا بسكاكين المطابخ أولا ثم رأوا أن يوفدوا من يشتري لهم سيوفا أو خناجر من قرية كبيرة وبعيدة كانوا يسمعون انها تصنعها . فأوفد كل من الجهات المتخاصمة رجلا ليقوم بتلك المهمة . وعادة ما كانوا يسافرون الى غاياتهم عبر النهر الكبير . لذا خرجوا متفرقين وفي أوقات مختلفة الى غايتهم . فلما وصل كل منهم الى عنق النهر حيث يتشعب التقوا بالرجل الغريب ولما سأل الغريب أولهم عند وصوله منفردا عن غايته وقصده من السفر وعرف ما يبغي أخبره انه يملك ما ينشد وسأله إعفاء نفسه من مشقة الطريق البعيد وباعه بضعة خناجر ماضية ومسمومة الشفير ولما جاء الآخر فعل معه ما فعله مع الأول وهكذا صار شبان القرية ينحر بعضهم بعضا بهذا السلاح الفتاك السام الذي لا ينجو من لسعته أحد فأنفقوا كل أموالهم ومقتنياهم لشرائه . مات كثير من شبان القرية بخناجر الرجل الغريب ولم يفطنوا لمكائده أبدا . وفي يوم عسير اشتبك شابان وكل منهما يحاول قتل الآخر حتى سقط أحدهما وحين احتضنته الأرض سقط خنجره متدحرجا بعيدا عنه وهنا فكر المنتصر أن يستولي على الخنجر فحمله الى المنزل بقماشة كان يحملها فمسح الدم المتخثر عليه وأراد أن يحفظه في مكان آمن حتى يحتاج اليه . وهو يحاول إخفاءه سقط الخنجر من قماشته الى الأرض وحين وقعت عيناه عليه ظن انه أخطأ بحمل خنجره الخاص الى المكان الآمن بدلا عن خنجر الشاب القتيل . وحين تحقق من الأمر وجده نسخة مطابقة لخنجره الذي اشتري له من الرجل الغريب . حدث أصدقائه بذلك واتفقوا أن يتحققوا من الأمر بمعاينة خناجر أعدائهم المزعومين كلما قتلوا واحدا منهم وبعد أن فعلوا ذلك وجدوا إن الخناجر جميعا متشابهة وانها مصنوعة بيد رجل واحد . وأحسوا بأنهم مخدوعين مستغفلين . لذا نظموا وفد استكشاف الى حيث يسكن الرجل الغريب . كمنوا له في الظلام وراقبوا إلقائه للشراب المر في النهر ثم تتبعوه الى حيث مكان مخفي بين الأشجار حيث نار كبيرة يرقد فوقها قزان فيه معدن مصهور وقوالب تصنع الخناجر القاتلة لأبناء القرية الطيبين . فقرروا التنكيل به انسحبوا الى قريتهم وشرحوا ما رأوا لجميع الأطراف فتراضوا بينهم وحددوا هدفهم وعقوبتهم . في الليلة التالية خرج رجل من كل فئة وساروا معا بصمت وتوجس الى حيث القزان ولبدوا تحت خيمة الصمت والحذر حتى عاد الغريب ليصنع ما شاء من وسائل القتل والتدمير ترقبوه حتى انحنى على قزانه فخرجوا من مكمنهم والقوا بالرجل فيه . وبذا ارتاحوا منه ومما فعل بهم وكان جزاءً وفاقا لعمله الغادر.
سمية العبيدي – بغداد