شهوة آرثور رامبو وجسد برجيت باردو
المركب السكّران والممثلة الشقراء – نصوص – نعيم عبد مهلهل
(( نجحت لأكون شاعرة كبيرة دون أن أكتب قصيدة واحدة في حياتي من خلال أنوثتي الفرنسية))
( برجيت باردو )
أصعد الدرج إلى غرفته العلوية العارية، أفتح الشباك على نهر “مُوز” ثمة مركب قديم يتهادى. هنا استمد قصيدته الأبهى ” المركب السكران ” ومطحنة لم يكن يعرف يوما إنها ستكون متحفا خاصا به.
على مواقف الباص قصائد رامبو مرقوشة على الجدران، يتسلى بها المنتظرون. بوهيمتي، أوفيليا، النائم في الوادي، شعراء السابعة، كيمياء الكلمة، المناولات الأولى، ملهاة العطش ..إلخ
( فادي عزام / رحلة الى قبر رامبو )
(( حرّاً ، مدخّناً ، مغطّى بضبابيات بنفسجية
أنا الذي كان يخترق السماء الصهباء كجدار
يحمل ، كمُرَبّى لذيذ للشعراء الجيدين
طحالب الشمس ، ونخام التأثير ..))
أرثر رامبو / المركب السكران
أظهرت الصورة المتخيلة المرسومة والمحكيُ عنها لأبوي البشر آدم وحواء ( ع ) وخصوصا في رسومات رسامي عصر النهضة ، أظهرتهما عاريين وليس لهما من ستر العورة سوى ورقة التين.
وتلك الصورة هي في طبيعتها حالة إنسانية توازي تماما الولادة البشرية في عبارة ( ربي كما خلقني ) وهي تصاحب النظرة الاولى للطفل الوليد من قبل القابلة المأذون وامه لحظة انطلاقه للحـــــــياة مغادراً رحم أمه.
الصورة ذاتها أسست مشاركة مع الكثير من الهواجس والأحاسيس الأولى التي لازمت محطات اليوم الانساني من الصباح الى فجر اليوم التالي . وهي نفسها من ظلت ملازمة للملامح الابدية لصورة آدم كما نراها في متخيل الاساطير واغلفة الأناجيل او لوحات فناني عصر النهضة لتكون تلك الصورة حاملة الايماءة الاولى بكل تفاصيل ما نحس به اليوم من صور الحزن الى ضوء الشهية والدمعة والاغراء الذي يصيب العيون ليحدث ما يبرر الفعل البشري القصيدة او المناجاة او اي نشاط حياتي آخر من سلطة الملك الى توسلات وادعية الفقراء.
عبر هذه المسيرة الارضية من الميتافيزيقيا الى سريالية اندريه بريتون عشنا ابدية الحياة العاقلة والوحيدة في منظومتنا الشمسية والمجرات التي اكتشفها تلسكوب هايل ، ولا احد غيرنا سوى افتراضات ونبوءات وقصص من الخيال العلمي وغير هذا فالإنسان وحده في ساحة الضوء يسجل تفاصيل الحركة المقترنة بحس وعقل وتبشير نبي وقصيدة شاعر ، لسجل اللوح في تلك المسيرة ما كان يسكن رؤوس الحالمين وصناع الحلم وليرينا طوابير الحالمين وهم ينتظرون من صاحب الموهبة ليسجد ما يجيئهم في اطيافهم.
يوم وطأة قدماي ارصفة باريس لأول مرة حملت شجن كل احلامي القديمة وأنا استعيد مشاهد كل الافلام الفرنسية التي منحت اكتافنا رعشة الصبا الغريبة التي تقودك الى شعور خفي أنك ستصل لمرحلة البلوغ غدا .
وأظن أن برجيت باردو هي واحدة من صناع تلك الرغبة وذلك والاحساس.
لقد كانت حبة الفياغرا الانثوية قبل ان يصنع علماء الطب هذه الحبة ويحدثوا التحولات في تجديد الطاقة الذكورية والانتصاب للرجل .
أنها أشهى من الكاتوه بألف عطر .هكذا تخيلت مراهقتي الممثلة الفرنسية برجيت باردو ،اكثر فاتنات السينما أغراء في ستينيات القرن الماضي والتي اكتشفها المخرج روجيه فأديم ثم تزوجها ليقول :إن الدمى لن تصل في يوما ما لما تمنح هذه القطة من إغراء الفراش والصوت والنعاس في الفراش الدافئ.
هذه النجمة التي شاخت الآن في سبعينيات عمرها قال لها شارل ديغول مرة : انك مدللة ووحدكِ من يشعرني برغبة كامنة تجعلني ارفع برج أيفل على أكتافي .
لا أدري وأنا اعوم تحت اجفان باردو إن كانت هذه القطة الباريسية البيضاء قد قرأت آرثور رامبو فهو مثل نعومة خديها يمرر شهية الشعر بأنوثة نظرته الذكورية فأشعر أنها قرأته جيدا وربما قصيدته الشهيرة ( المركب السكران ) منحتها صورة للاشتياق والاغراء فتمنتها مشهدا لواحد من افلامها التي سجل فيه جسدها الشهوة الكبير لثلاثة ارباع ذكور الكرة الارضية.
أترك الشاعر الفرنسي وادير له ظهري وانا احصي في ملامح وجهه في تمثاله وسط مدينته شارلفيل وأذهب الى ملهمة شبابنا البعيد التي تعيش اليوم في خريف عزلة معتنية بالحيوانات الأليفة فقط ( القطط ،الكلاب ،الفقمة ) وهي تترك إلى الذكريات كل مشاويرها مع زمن الأغراء والأفلام الساخنة وشفاه ألن ديلون وجارلس برونسن وجان بول بلوموندو الذي لم يخف رغبته بها ليكمل معها قبلته الطويلة حتى بعد انتهاء مشهدها السينمائي .
وربما جان بول سارتر ذاته كان يعنيها عندما كتب ان الوجود مع ناعمة مثل هذه يجعل سماء السرير بسعة نزواتنا والشهوة المنفلتة .
لهذا كانت سيمون دي بوفار تنظر أليها من طرف الجفن وتقول : هي مؤدية وأنا صانعة فلسفة .والفرق كبير بين هذا وذاك …!
انكفأت باردو في مكان منعزل تعيش عالم الوحدة وربما لا تريد أن تستعيد ما موجود في أرشيفها من أشرطة سينمائية للفتاة التي كانت في يوم ما توقظ في باريس ذكورتها وتؤثر على نفسية جيل بأكمله ليتمنى واحدة مثلها اكثر مما كانت رواية البؤساء تؤثر في الذاكرة الفرنسية بعدما قال جاك لانغ وزير الثقافة : كان على فرنسا أن لا تضع رواية البؤساء في منهاجها الدراسي للمرحلة الثانوية إذا كانت برجيت باردو موجودة ،فهذا الغزال الناعم يلهينا عن ألف رواية مثل بؤساء فكتور هيجو…!
لم تعد تذكر أحدا ، لم تُعرف الصحافة عن حياتها الخاصة كثيراً.
أصدقاؤها المقربون سريون ولا يعرف عنها شيئا ،وكلما أرادت عدسة مصور الاقتراب من تجاعيد ووجهها هددته باللجوء إلى القضاء والتعويض بملايين الفرنكات ..!
في آخر مدونات هذه القطة كتبت :كنت أعطى لأشعر أني لذيذة بما فيه الكفاية .!
علق آلن ديلون على تلك العبارة :بل وتزيد على ذلك .!
ربما رامبو في مقاس جمال الوجه أكثر جمالا من آلن ديلون ولكنه حتما لم يجد في زمنه قطة ساحرة لها اغراء انوثة برجيت باردو وهي تدون بسيرتها ولمعان صدرها الابيض شيئا من تأريخ فرنسا الثقافي في ستينيات وسبعينات القرن الماضي .
وبين ديلون وباردو أتخيل وجه آرثر رامبو في زحمة مركب يعج بالبحارة الفاسدين في بحر يحتاج فيه البشر في ظل هومسك البحر الى انثى وعصير برتقال كي لا يمنعه ضجر البحر ليمزق ملابسه فكان أن حصلوا على نظرة الشاعر وفتنته الموسيقية وشجاعته في الانتقال بين عيونهم دون ان ينالوا منه شيئا وهو في حالة الصحو والتحضير لكتابة قصيدة.
لهذا جعلتهما متقابلين ( الشاعر والممثلة ) في مواجهة اباحية القصيدة ( المركب السكران ) وتخليت ان رامبو يلقي القصيدة وهو في حالة ثمالتها ونشوتها المفزعة بين وجوه البحارة القذرة فيما تتدرب برجيت باردو على حفظها بهدوء وعلى الرصيف تحت نافذة شقتها مغن اسباني اتى بشيء بعيد عن طقس الشاعر وممثلته عندما كان يغني اغنية اسبانية كتب كلماتها الشاعر القتيل غارسيا لوركا.
منذ التوليفة الاولى لأجواء النص أشعر بأن خدود باردو رسمت غيوما وردية بين اوردة الدم ، سكنتها لذة خفية تمنت فيه أن تمتد عارية مع الشاعر وتعوضه عن كل الالم الذي حدث له في ضوضاء المركب وصخب البحارة . لم تصغ الى الغجري الذي ينشد حلم لوركا وتركته وحيدا تحت مطر باريس وحملت صبي شارلفيل الى الفراش ـ ومسحت قميصه بشهية شفتيها وكأنها تكويه بغرام لحظتها معه حتى تنسيه ما حدث هناك .
قربت فمها من اذنيّ الشاعر وهمست له بكلمات المقطع الاول من القصيدة ،.
فتح عينيه وقد اطربه الالقاء الانثوي ، دفن رأسه بين نهديها وهمس :
اكمليها كلها باللغة الفرنسية الأم ، لقد خرب جماليتها المترجمون ، فراحت تبعثر رعشة شفتها بين كلمات القصيدة وهو تقول :
(( بينما كنت أنحدر في أنهار راكدة
لم أعد أحسّ بي أطلاقاً منقاداً بالملاحين
هنود حمر صخّابون جعلوا منهم أهدافاً
بعد أن سمّروهم عراة على أعمدة الألوان))
أهرب من فعل القصيدة على جسد القطة ، وأبعد نعومة الذكورة عن كريستال الانوثة ، وأنسى أني جئت لأرى ما ابقى المركب من ذاكرة تحتفي بمنجزها فرنسا وأسمع احدهم في احدى محاضرات الشعر عما طبعته دار غاليمار من ثقافة فرنسية طوال عمرها الرصين ويقول : فرنسا برامبو تستكمل وقائعها الحسية التي كادت تفقدها في زنازين سجن الباستيل ومقصلة ماري انطوانيت وانهيار خط ماجينو وتظاهرات طلبة 1968.
في ذات الفترة احتفت باردو بأكثر افلامها اثارة واقترح عمدة شارفيل نصبا لرامبو .
في ستينات القرن الماضي كانت نساء باريس يراقبن غرور هذه القطة ويحاولن تقليدها ،إلا أن أي واحدة لم تنجح ،لقد صنعها روجيه فاديم في فيلم (وخلق الله المرأة )ثم تركها تبتكر أداءها بخفة ورشاقة واغراء ورومانسية لم تظهرها أي واحدة قبلها ،فقد كانت تفعل الشجار في أمواج صدرها وتمارس فنا بريئا ومغريا في التعامل مع اللقطة السينمائية عندما يكون أمامها ولا ويريد أن يفعل معها شيئا ..
تركت كل هذا الزمن الشهي لأن الشباب لن يكون أبدياً مع صاحبه لهذا أرادت أن تملأ عزلتها بأنوثة أخرى .هي أنوثة القطط فأسست لهن جمعية وكذلك فعلت الشيء ذاته مع الفقمة والثعالب والكلاب ،وتقول :طالما لبست فرو الثعالب لأجلب الدفء لواحد يقول :انه مغرم بي .الآن على الثعالب أن تلبسني وأنا اشعر بالندم لموتها من اجعل فروها .!
أعيش لحظة الافتتان بذكرياتها ، وأمضي في شهية الروي عن امرأة اتمنى جمعها في لحظة مشتعلة مع شاعر على حرير وسادة واحدة .
وحتى أستطيع أن انسج شوق حكايتي لابد أن تكون هناك تواريخ تعرفني أنا بتلك المرأة لربط خيط حرير الورد بين شفتي وشفتيها ومع شفاه الشاعر ( رامبو ) أيضا.
كانت برجيت باردو زمنا هاما في أزمنة القرن العشرين ، انه العصر الذهبي المصنوع بفتنة نساء لن تنجب مثلهن فرنسا مرة أخرى (برجيت باردو ، كاترين دينوف ،إيزابيل ادجاني ، صوفي مارسو ، ميراي ماثيو ، إديث بياف ،فرانسوا ساغان ، سيمون دي بوفار ،سيمون سنوريه ، ) وسواهن ممن صنعن في أنثوية الأرض حسا رائعا لصناعة لهفة الرجل الجديدة في عصر ولدت فيه شهوات أخرى غير الجمال والأغراء ،شهوات فيتنام والحربين العالميتين ،وحرب الكوريتين ،وثورات التحرر ، وما آتى في معاطف الحروب القصيرة والطويلة ..!
أغادر سيرة القطط وألجأ الى سيرة الشاعر ، فأجده مغامرا وحالما وجريئا وعنيدا حتى في رمقه الأخير .
أقبع في غرفة فندق يملكه تونسي في منطقة محطة قطار (نورد باريس ) وافتح تلك الترجمة التي اعجبتني .كثيرا لخليل خوري وهو يترجم المركب السكران ، وحتى لا أخضع لشهية باردو حين تلقيها في لحظة تعري على سرير الشاعر ، أحفظها أنا ، وأسرح في استذكار متعنا في شباب المقاهي حين قرأني رامبو لأول مرة ونحن نرتدي قبعات السريالية والوجودية ومعاطف السياب والبياتي وسعدي.
هو ينحدر في أنهار راكدة ، أنت تنحدر في شهية الضوء وعتمة انزوائنا في غرف بيوتنا الطينية مع متعة النص الجديد الذي يفاجئك بمساحة شاسعة من الحرية والخيال والجمل الجديدة . لتعلن ان هذا النص الذي يتحدث بفتنة الصورة الحسية كالتي تقول ( من رقة الحس ضيعت أيامي ) هو نص تفاعلي جديد في مستوى ما نتذوق ونستوعب بعدما كانت حنجرة ام كلثوم ونجاة وعبد الحليم وزهور حسين وفيروز تسيطر على الحس العميق الذي نمتلكه.
وهكذا يسرح بي المركب في غرفة نصف مضاءة فتتخيل نهر المدينة ( الفرات ) وقد جلس عليه شابان في الصوب الثاني للمدينة وقرب نادي المعلمين وقررا التخلص من حياتها غرقا ( جواد الازرقي ، ومالك ــ كان ابوه لديه عربة باقلاء في شارع الجمهورية في مدينة الناصرية ــ 360 كيلو متراً جنوب العاصمة بغداد .)
انتحارا وكانا سوية يحفظان قصيدة صبي شارلفيل هذه على ظهر قلب .
صورة موتهما اتخيلها الآن حدثت في لحظتها الدرامية على وقيعة المقطع الثاني من القصيدة وحتما حين قررا ذلك كان اليأس والسأم والتقيؤ قد وصل عندهم الى مرحلة القرار الذي جعلهما يرميان نفسهما في النهر في ذات التوقيت أي ان الاول لم يرم جسده ليتبعه الثاني كما فعل طاغور في قصيدته حين تحدث عن كاهن رمى اسواريتي الماس في النهر واحدة وراء الاخرى .
هذا المقطع الذي تجاهلت برجيت باردو في لهفتها مع الشاعر على سرير اللحظة النارية واكتفت لتحفظ عن ظهر قلب المقطع الأول وكأنها تسجل مع عذوبة نظرة وفم وصدر وافخاذ الشاعر وقائع أن تكون اللحظة الانسانية اثناء طقوس غرام الشعر هي اللحظة الاكثر قدرة على تنويم كل انشطة العقل وتجعلنا ننساق الى ميكانيكية الجسد في حركته فوق السرير ذهابا وايابا.
(( كنت غافلاً عن جميع الطاقم ،حمّال حنطة فلاماندية أم أقطان انكليزية ، حين بانتهاء بحارتي انتهت تلك الضوضاء ،وتركتني الأنهر أنحدر على هواي))
وحدي في الغرفة اسبح في مشاعر روحية تصنع ما تريده في ابتكار شبق افريقي يطالع نظرة الشاعر الى ما حوله من البحارة وهو في غيبوبة تتراوح بين اللذة والاستمناء والألم الاحمر . أهرب من قدر الشاعر مع القراصنة وأتخيل ما تحت عينيه من ملائكة يفترضهم هو بالرغم من انه في كل قصائده بدا ملحدا وشيـــطانيا في بعض الاحيان .
أتكور في زاوية سريري في الفندق وأسال أن كان القطار يذهب الى الشمال الفرنسي واقليم ( شامباني أردين ) حيث مدينة شارلفيل واحدة من بلديتها ، فكان التونسي صاحب الفندق الثلاث نجوم ،أنه طوال 30 عاما من حياته في فرنسا لم يسمع بشارلفيل ولا بآرثر رامبو ، لكن ما ان نطقت أسم المدينة الى موظفة بيع التذاكر في محطة القطار حتى ابتسمت وقالت : ذاهب لترى آرثور رامبو .؟
قلت :نعم وحتى أعرف ان كانت لحظاته مع برجيت باردو ساخنة وشهية واسطورية ايضا.
ابتسمت وقد ملأ الاحمرار اللذيذ خديها وقالت :ما الذي اتى بهذا الى ذاك.؟
قلت : احلامي القديمة.
قالت وقد رأيت اطياف هذه الاحلام تمر سريعا وهي تستعرض امام عينيها شهوات تواريخ اور والجنوب وغرام المعدان وضجر المقاهي وغناء البارات وقالت : أنت عراقي .
قلت :نعم .
قالت : والحروب عندكم مثل اغاني الاذاعة تبدأون بها صباحا وتغفون ليلا على موسيقاها .؟
قلت :وكنت احد جنودها .
قالت :انا اتمنى ليلة مع جندي .هل تحققها لي .؟
ابتسمت وقلت :حتما حين سأعود امنح رغبتك ليلة من جسدي المكسو بغبار أور .
قالت :سنفاجئ ، أنا اسمي برجيت ايضا ، ولكني برجيت دومنيك .اصلي من مرسيليا.
قلت :وانا اشتهي واحلم ان اغفو بين نهدي امرأة ولدت على ساحل البحر.
ابتسمت وقالت :سأنتظرك بلهفة .
قلت :وسأعود بلهفة….!
أقطع التذكرة واعود الى الفندق وانا اهتف بوجه صاحبه لقد وجدت من يعرف شارفيل وفوق هذا يخبئني في حرارة صدره.
ضحك وقال :هنيئا لك ، ثلاثون عاما ولا فرنسية ترضى لتخبئني حتى في جيب معطفها.
وأنا أنتظر صباح السفر الى آردين ، أعيد تخيل حياة الشاعر وفق سيناريو أكتبهُ أنا وأبدا بكتابته منذ لحظة عودتي الى غرفتي بانتظار الفجر الذاهب الى شارفيل ، فلم يسكنني نعاس التهيؤ للسفر بل شمرت عن رغبة التخيل المفترض لتلك العلاقة الساخنة بين الممثلة والشاعر وحتى ابدأ ، ترتعش بي يدي مفردة أعيد اصولها الى ليل الحرب على ربيئة جبل فوق أوراس والشتاء ينفد الى معطفك الروماني بسكاكين الثلج .
هناك عندما كان الموت الشقيق التوأم لشهواتنا ،وعلى جدران الربيئة الصغيرة كانت صور الممثلات تضيء بلهفة عشق تلك الخاطرة التي تخترعها على شكل رسالة وتبعثها ببريد الريح الى ممثلات وملكات ومطربات يسكن مدن العالم البعيدة ، وربما برجيت باردو كانت من بعض شهيتكَ ايها الجندي الذي تمنت موظفة التذاكر في محطة نورد باريس ان تشم كل غبار اور والوركاء واكد وظهيرة صيف مدينتكَ الناصرية.
أعود الى جمال الانثى وتأثيره في هذا الليل فأتخيل صورة الجمال التي يعتبرها الاطباء والساسة بعض هواجس الخلاص وربما برجيت باردو وغيرها ساهمت في التقليل من اسى ما حملته بنادق القرن العشرين من مآسي للشعوب الكادحة والفقيرة التي رأت من سحر السينما تعويضا على ما يلحقها من اسى واضطهاد من حكامها وهم يريدون ان يحولوا الناس الى دمى للمال والتصفيق والانحناء امام التيجان ، حد الذي وصل بأدولف هتلر يبعث الى غنتروب وزير اعلامه ليقول :ابحث عن واحدة بساقيين تلتهبان اغراء لتنسيَّ جنودنا البرد الروسي الذي غرقنا فيه كما غرق نابليون قبلنا .
وذات العبارة كان ديغول يكررها وهو يتابع هذه القطة المدللة في ادائها الفاحش :لو كنت موجودة في الحرب لخففت كثيرا على الفرنسيين الم سقوط باريس بيد الالمان ،وربما صدركِ هذا قوى كثيرا من ركائز خطنا الدفاعي ماجينو وسوف يصمد طويلا امام مدرعات البانزر .!
الآن لم تصمد برجيت باردو امام مدرعات الزمن ،تهدل كل شيء فيها إلا رغبتها بحفظ كل قصائد رامبو وجعل السرير غلافا لمودتها معه، ولكن لم يبق من طعم تلك اللذة سوى صدى دافئ يتردد بين شفتي الن ديلون :خذني الى نارك لتعلمني كيف احترق بشهوة الورد للرجل المميز .!
في اخر صورة لها بدت العجوز برجيت باردو متشائمة مما اصابها ،متوترة وعصبية المزاج ، ويقال انها رفعت كل المرايا في بيتها .!
لكنها مع ما اعطت وسحرت وابدعت تبقى تحمل لذة الذكرى ودهشتها ،وربما يسجل لها في تاريخ الانوثة :انها واحدة من قلائل من حركة الحلم والشهوة في اجيال لا تحصى من القطب الشمالي حتى مدغشقر..!
أتى النعاس الى اجفاني .
صاحب الفندق شخيره مسموع بتعب رجل مهاجر ، قاطعة التذاكر تمددت على سريرها بثوب نوم ابيض شفاف وهي تتخيل اليوم الذي سيكون فيها السومري داخل الكهف .
رامبو غفا ايضا في مؤخرة سفينته التي لم تصل ميناء عدن بعد .فيما برجيت باردو ، شربت اخر كأس من جعتها البافارية المضلة ، اطعمت قطتين وكلباً يسكنان معها في الشقة .
تمددت من دون شخير ذهبت بصدرها الشائخ لفم الشاعر…..!



















