حسن النواب
بعد انتهاء معركة الفكة في قاطع العمارة والتي حدثت في منتصف شهر نيسان من عام 1982 بانتصار صريح للجيش العراقي، جاءت التوجيهات من قبل القيادة العسكرية بضرورة تكثيف التدريب لجميع المراتب على الطريقة الصحيحة بارتداء قناع الوقاية تحسُّباً من حرب كيمياوية محتملة يشنها الجيش الإيراني، إضافةً إلى كيفية استخدام حقنة الإتروپين والإسم الشائع لها «إبرة الإتروپين»عند الإصابة بأحدى الغازات السامة، والتي كان أخطرها غاز VX المرتبط بعلاج خاص غير إبرة الأتروپين تدربنا على كيفية استخدامه أيضا، لم يمر يوماً مالم تجتمع الكتيبة بجميع مراتبها أمام المرشد الكيمياوي رأس عرفاء درجة ثامنة «عبد چفَّات» الذي يسكن مدينة كربلاء وبسبب ذلك أصبح من أقرب أصدقائي لأننا ننتمي إلى مدينة واحدة، بينما كان مساعده نائب عريف حمد العطراني يقف إلى جواره في كل محاضرة كيمياوية، وحمد العطراني كان مثقفا تقدميا توطَّدتْ علاقتي به نتيجة توافق أفكارنا وتطلعاتنا، وهو مازال حيا يرزق وصديقي على الفيس بوك الآن، بينما عبد چفَّات اختفت أخباره؛ وآخر مرة رأيته فيها مصادفة منتصف التسعينيات وفي حصار مهين وقد أخبرني أنَّهُ تحوَّل إلى عرَّاف يبطل السحر ويعملهُ ويبرأ الناس من الأمراض المستعصية. كان عبد چفَّات يتمتع بروح مرحة جدا ويمتلك كاريزما محببة لها سطوة كبيرة على الآخرين، ولذا كانت محاضرته الكيمياوية خفيفة الظل على رؤوسنا برغم قساوة الظروف التي كنا نعيشها في الجبهة، فهو قادر على ابتكار الطُرفة بين ثنايا حديثة بطريقة تثير الدهشة والإعجاب، ونتيجة تكرار المحاضرات الكيمياوية في كل يوم غدى عبد چفات نجم الكتيبة اللامع دون منازع؛ حتى أنَّ شعبيته بين الجنود طغت على آمر الكتيبة؛ كان بعد انتهاء المحاضرة يتوجَّه إلى ارتقاء سُلَّمٍ مرتفع من أكياس الرمل حيث مرصده الكيمياوي الجاثم على مثابة عالية جداً وسط الكتيبة، وهناك يُطعم حماماته البيض التي تم شراؤها من نثرية الكتيبة كمصدر إنذار مبكر لأي هجوم كيمياوي محتمل، ذلك أنَّ طائر الحمام يتحسس الغازات السامة ويكون ضحيتها قبل الآخرين، وأنَّ موت الحمامات يعني تعرض الجبهة إلى هجوم بالغازات السامة، كنت أزورهُ في مرصده الكيمياوي كلما سنح الوقت إلى ذلك، ذات غروب صعدت سلالم أكياس الرمل ورأيت صديقي عبد چفات مستغرقاً بالإصغاء إلى أغنية ريفية تنبعث من راديو صغير وضعه إلى جواره، نهض لاستقبالي وثمة دمع ناضج يلمع في عينيه، شعرتُ بحزنه العميق ولما سألته عن ذلك؟ أجابني بصوت مبحوح: والله ياحسن أبكي على هذه الحمامات التي ستموت بدون ذنب؛ انتابني خوف غامض؛ سألتهُ بقلق هل هناك هجوم كيمياوي محتمل؟ أجابني بعد أنْ تفحص ملامحي كمن يريد الوثوق من عُرى الصداقة التي تجمعنا، ثمَّ تحسَّر ليهمس بعدها بحذر: الإيرانيون لا يفكرون بذلك، إنَّما نحن الذي نريد حرباً كيمياوية بعد أنْ يئسنا من توقف الحرب. بقيت صامتاً، أردفَ بصوت خافت: هذه التدريبات المكثفة على ارتداء قناع الوقاية هي بالحقيقة خشية من تحوّل اتجاه الريح نحونا وهذا يعني وقوع الكارثة؛ لقد استوردنا اقنعة وقاية أكثر من عدد النخيل حتى تكون خسائرنا قليلة في الحرب الكيمياوية التي اتوقع حدوثها في أيَّة لحظة؛ ولذا أتمنى أنْ تطير هذه الحمامات إلى البساتين قبل حدوث المأساة. تفاقم الخوف في قلبي عندما سمعت ذلك الكلام الصريح وغادرت مرصده الكيمياوي كالمأفون، لكن الهجوم الكيمياوي لم يقع وكان عبد چفَّات يعلل تأخيره بسب تقلبات الطقس؛ ذات فجر دخلت الكتيبة بإنذار شديد حين أعلن عبد چفَّات عن تعرضنا إلى هجوم كيمياوي؛ ارتدينا الأقنعة بقلق، وبعد ساعة لم نشعر بأية مظاهر لهجوم بالغازات السامة، وعندما استدعى آمر الكتيبة المرشد الكيمياوي وسأله عن سبب إعلان حالة الإنذار؟ أجابهُ عبد چفَّات أنَّ الحمامات اختفت من برج المرصد وظنَّ انها تعرضَّتْ للغازات السامة، بعد تحقيق استمر طويلاً لم تصل اللجنة إلى معرفة الأسباب الحقيقية لاختفاء الحمامات، بعضهم قال أنها صارت وليمة دسمة لهجوم ليلي من قطيع للضباع، وبعضهم الآخر قال أنَّ جنديا مولعا بتربية الحمام سرقها وهرب من الكتيبة، بينما كان للمرشد الكيمياوي عبد جفات رأيا مغايراً وغريباً إذ قال لي سرَّاً: إنَّ الحمامات طارت إلى وطن آمن بعد سماعها لحديثنا عن الهجوم الكيمياوي المتوقع! وها أنا أقول ليس عجباً أنَّ صديقي المرشد الكيمياوي بعد تسريحة من الجيش قرَّر أنْ يصبح «فوَّالاً» لكشف المستور في وطن مازال مبتلى باللصوص والحروب وتكاثرت في بيوته الأيتام والثكالى والأرامل والمطلقات.