اطلس عزران البغدادي لخضير فليح الزيدي
المتون السردية تؤرّخ الوقائع – اضواء- يوسف عبود جويعد
في انطلاقة غير مسبوقة, يفاجئنا الروائي خضير فليح الزيدي بروايته (اطلس عزران البغدادي – رواية مصورة) التصوير يدخل في المتون السردية ومتشابكا في تكملة البناء السردي الروائي, في خطوة جديدة ليكمل مشروعه الروائي الجاد، يتعدى به حدود الكلاسيكية, ويعبر به روح الحداثة إلى تخوم ما بعد الحداثة, إذ أنه تجاوز الأطر التقليدية المتبعة في صنعة الرواية العراقية الجديدة كواحد من الداعمين بقوة لهذا المشروع, ينطلق بقوة وثبات لقلمه في عالم واسع وشاسع بلا حدود ليزعزع كل ما ترسّخ من مرويات التاريخ المعاصر، متخطيا حدود الوعي الإنساني, ليجعلنا في لحظة شك كبرى إزاء ما يحدث في لوحة سردية تصدع طبقات الوعي لدى القارئ لتجعله يعيد نظرته للواقع اليومي والتاريخ معا، لأنه استطاع كسر طوق الرتابة الممل المقيت في هيكلة الرواية وبناءها الذي يحدد حرية الروائي ويقيده, ويكبح جماح فكره, فقد ظهرت أوجه الاختلاف في معايير البناء السردي بشكل قلب فيها موازين صنعة هذا الجنس الذي يحتاج إلى شيء من الجرأة, حيث نجد أن السارد العليم الذي يقوم بمهمة نقل الأحداث في الرواية هو ذاته الروائي بشكل صريح وواضح، إذ ان الرسائل الفضائية المرسلة عبر البريد الالكتروني من إحدى شخوص الرواية (نورا) تؤكد أن الروائي جزء من المبنى السردي, كما أن نقل أحداث الرواية في متن النص السردي المتلون والمختلف عما اعتدنا عليه حيث إنه استخدم:
– الرسائل الإلكترونية عبر البريد الإلكتروني بينه وبين نورا في مواكبة مستمرة لنقل جزء مهم من أحداث الرواية، وكذلك بين نورا ومحمد رياض الوادي رئيس تحرير مجلة نوارس التي تناولت قصة حبها مع سامر في حلقات متسلسلة لاقت قبول واهتمام القراء.
– التقرير الصحفي الذي ساد أجواء الرواية منذ سطورها الاولى وحتى نهايتها, ولكن بأساليب متنوعة, أي إنه لم يثبت على نمط واحد, ووتيرة واحدة, وأحيانا هذا الطرح يميل إلى فن المقامة.
– الفنتازيا في أماكن متعددة من السرد.
– الغرائبية التي تفوق حدود الخيال, التي هي جزء من واقع حال البلد.
– الحوار باللغة الدارجة المطعمة بالروح العراقية الشعبية, إذ أنه وضع في نظر الاعتبار شمول أفق الرواية واتساع فضاء المتلقي خارج حدود المحلية البحتة
– الأسطورة والحكايا الشعبية.
– جعلها رواية مصورة لنقل الرواية خطوة جديدة نحو التجريب والحداثة, فقد كانت الصور تنحى منحيين، الأول لمساعدة المتلقي في مواكبة المسيرة السردية وتثبيت مصداقية المبنى السردي, حيث إن الصور جاءت مكملة ومتناسقة مع إيقاع السرد, فنرى صورة متخيلة لعزران, وأخرى لزوجة عزران البدينة, وصورة للشورجة, وصورة لمقهى عباس, وصورة لجسر الشهداء، وغيرها الكثير, وهذه الصور جاءت ضمن أحداث المكان والزمان داخل الرواية, وليس خارج متن النص, حتى إننا نحسها جزءاً مكملاً للرواية, وهي لا تضعف البناء العام ولا تربك المتلقي, ولا تجعله خارج فضائها, بل العكس إنها جعلت البناء العام رصيناً وصادقا ويدعم حركة التاريخ التي اعتمدها الكاتب في بعض فصول الرواية, حتى الوثائق المصورة جاءت لتكشف المزيد من زيف تاريخنا في كثير من فصول حركته.
بهذا النمط الجديد في محاولة لتغيير أساليب نهضة الرواية العراقية يعلن من خلالها إلى محور آخر جديد في جعل الصورة مكملة للمحمولات اللغوية, شأنها شأن القصص المصورة التي تكتب للأطفال والتي يجد الطفل متعة أكبر في قراءتها مع رؤية الصور المساندة والمكملة لبناء القصة, وقد وجد الروائي ضرورة ملحة لتضمين الواقع السردي صوراً تعزز مبناه وتشد هيكله..
– رواية متخيلة, إذ عمد الروائي إلى ضخ وقائع بعضها يعتمد المتخيل السردي المحض وبعضها الآخر يحاول بوعي مفرط غربلة الوقائع التاريخية لينتج لنا تاريخا محايثا للمدونات والوثائق التاريخية الراسخة في العقل العراقي. وتلك مشاكسة واعية تعمل على تحفيز خلخلة اليقينيات والمسلمات التاريخية لتنتج نصا يستطيع قراءة التاريخ المعاصر بوعي اللحظة العراقية المنفلتة.
– دخول الرواية واقع الحياة اليومية المعاصرة بقوة الوعي الإنساني، والتطورات الحاصلة على صعيد الواقع, مثل موقع ويكيليكس, حيث نقل منه أسراراً وخفايا تخص الأقليات اليهود في العراق, ونقل وقائع التغطيات الإعلامية للفضائيات وأساليب نقلها من خلال مراسليها, نقل وقائع المؤتمر الذي عقد في السليمانية لمؤازرة الأقليات اليهودية في العراق ومحاولة إنقاذهم بتفاصيل دقيقة, مما يجعل القارئ أمام لحظة ارباك حقيقية بين التاريخ الروائي ورواية التاريخ.. كذلك أدخل الكاتب معطيات الحضارة الغربية بكل تقنياتها، وكيف تعامل معه أبطال الرواية الخمسة، الهاتف النقال(كلكسي)والبرامج المستخدمة فيه, مثل برنامج تحذيري عند حالات الخطر, والبرامج المضادة, ورسائل (sms), وأشياء أخرى هي ضمن حالة الوعي والتطور, مع هذا فإن السياق الفني المتبع في فن الرواية ظل محافظاً على أصوله, ودخلت تلك المستحدثات في فضاء الرواية لتشكل نسيجها, المتواتر, المتصاعد, المتناغم, حيث احتدام الأحداث وتشعبها, وبالرغم من أن السارد الأول والمهيمن على وقائع الاحداث هو الروائي نفسه, إلا أنها تعتبر رواية متعددة الأصوات, إذ نجد صوت نورا , وصوت محمد رياض الوادي, وصوت عامر موسى واللغة الروائية ليست تقريرية مفرطة في التناول السردي بل تنهل مما هو يومي وعادي في الملفوظات اليومية لتتداخل في النسيج السردي العام في هذه الرواية التي تنبذ المباشرة وتدعو الى ترسيخ الحدث والحكاية, وأترك تفاصيل أحداث الرواية للمتلقي الذي سوف يجد عالماً غريباً, وخبايا واسراراً تفوق المتخيل, إذ إن ثيمة الرواية تضع أمامه حياة الأقليات المضطهدة داخل البلد, وخطورة حياتهم, ومحاولتهم إنقاذ أنفسهم وسط فوضى الرؤية والعنجهية المتعسفة, ومطاردتهم لقتلهم أينما وجدوا, وهم لا ذنب لهم سوى أنهم ابناء هذا الوطن اب عن جد, وأخص بالذكر الطائفة اليهودية التي تعرضت للإبادة الوحشية, كما نرى ذلك في مطاردة عزران البغدادي ومحاولة تصفيته وتدخل جهات خارجية لإنقاذه, إلا أنه ظل شبحاً يخيف أهالي بغداد ويقض مضاجعهم, وحيكت عليه قصص وحكايات أسطورية غريبة, وأتهم بالانفجارات التي تحدث في بغداد, وظل مطارداً ومختفياً طيلة أحداث الرواية, وكذلك شخصية أليس رغيد حزام, الذي تخفّى باسم عامر موسى يوسف لكي يتخلص من خطورة المطاردة والقتل, وقد اختار هذا الاسم لأنه لا ينتمي لأي طائفة, مع هذا فقد تم اختطافه وتعذيبه وإخصاؤه بعملية جراحية قتلت فيه الرجولة, وتركه بعد ذلك شبح إنسان, مع هذا فإنه يُقتل من قبل المليشيات المنتشرة لهذا الغرض, وكذلك تناول الطائفة البهائية وشخصية (طه ترتيب) الذي يعمل في نفايا الأمريكان وما تعرض له من مطاردات, أما المنظمة الإنسانية التي كان يعمل فيها كل من نورا وسامر فكانت مهمتها إنسانية بحتة، إذ إن هدفها إنقاذ تلك الأقليات ونقلهم إلى ملاذ آمن, معتبرين هؤلاء جزءاً من تراث الوطن، ولهم تاريخ في جذوره, وأنهم يحبون وطنهم ويتمنون أن يعيشوا بسلام وأمن داخله, ولا يريدون الخروج منه إلا مضطرين هرباً من التصفية الجسدية التي تحدث في البلاد..
إن الرواية تضع قضية إنسانية كبيرة وبالغة التعقيد, وتبحر في هذه الأحداث إلى أعمق أعماق القاع وتتناولها من جذورها, إنه عمل كبير وهام ويحتاج إلى حالة من حالات التأمل الإنسانية..


















