المتخيّل والواقع أو العلاقة بين الذات والموضوع – نصوص – ليث الصندوق

أنا الذي رأى   -1-

المتخيّل والواقع أو العلاقة بين الذات والموضوع – نصوص – ليث الصندوق

تحاشى محمود سعيد إطلاق توصيف ( التسجيلية ) على روايته ( أنا الذي رأى ) وظلت كذلك دون أية إشارة سواء على الغلاف الخارجي أو الداخلي أو الصفحات الافتتاحية الأولى ، باستثناء إشارة واحدة جاءت عرضاً لجليسيه السوريين في أول لقاء له بهما في أحد مقاهي دمشق خلال سفرة البحث عن ناشر للرواية . ولكن هذا التحاشي لا يقتصر على التوصيف فحسب ، بل يشمل أيضاً تحاشي تقديم تسويغ نظري لإدخال الرواية تحت المظلة التسجيلية .

 وفي الحالين فأن ذلك لم يعف الكاتب من التحرر تماماً من شروط التسجيلية ومحدداتها ، ويبدو أنه كان واعياً للقضية ، ولذلك حرص على تقديم رواية تسجيلية بامتياز بدون أن يورط نفسه في التنظير لها ، ولا أشك أنه لو أراد ذلك لأنجدته موهبته من السقوط في فخ النظرية ، وأبقته ضمن حدود شعرية التخيل التي طمح على استلالها من براثن المرجع ، ومن السياقات الواقعية والتاريخية ، وأبقاها ضمن المتن أو الهامش في مستوى عال من الانسيابية . ويؤكد شكي هذا احتواء الرواية على فصول تحاذي الشروح والتفسيرات والتنظير .

والرواية التسجيلية رواية تحتفي بالواقع على قدر احتفائها بالخيال ، وتبني علاقات إحتمالية ما بينهما من أجل تحقيق التوازن ما بين الذات والموضوع ، فهي تتحرك ما بين ذينك العالمين دون أن تتجاوز بالتلفيق على عالم الواقع ، ودون أن تكبح وتحد من شروط الحرية التي يكفلها عالم الخيال ، مع ملاحظة أن هناك من (لا يقر بوجود نص عاكس للواقع في كليته وحقيقته الصافية) (2) . وبذلك فالرواية التسجيلية من جهة (تتضمن ما يفيد الرصد والتوثيق والتأريخ) (3) لكنها من جهة أخرى لا ترى إلى عملية التسجيل باعتبارها نقلاً للواقع (وذلك لأنه يُختار ما دام الواقع مجرد مادة) (4) وبهذا المعنى فإن ارواية التسجيلية تحاذي الواقع والتاريخ مع فارق أن مهمة الراوي في هذا النمط من الكتابات ليست تدوينية بقدر ما هي بنائية تعتمد الانتقاء وإعادة البناء مقرونة بالحرية النسبية في قراءة المادة التاريخية المجتزأة وتأويلها . وخلال تلك العمليات تتحول المادة التاريخية إلى عجينة قابلة للمطّ ، أو تتحول إلى (حقيقة فنية بعدما كانت حقيقة تاريخية) (5) ، في حين تبقى متون التاريخ ووثاثقه في يد المؤرخ اشبه بقيود يُستعصى التحرر منها . ويتبين مما سبق ان الحدث الخارجي هو المحرك والمحفز الأساس لهذا النوع من الكتابات الروائية ، ولذلك فإنه من النادر أن يمنح الراوي هنا فرصة العلم الوافر بما يدور خارج جرمه ، وبما يعتمل في نفوس الشخصيات ، ويقتصر دوره على السرد البراني للاحداث مقتصراً العلم الكلي على ما يدور في ذاته هو ، إذا ما أتاحت له ديناميكية الأحداث التفرغ لتأمل ذاته .

ومن الروايات العالمية الشهيرة التي تندرج ضمن هذا الجنس الروائي –  إذا ما صح تسميته جنساً –  رواية الأمل للكاتب والسياسي الفرنسي أندريه مالرو (1901 –  1976) التي كتبها عام 1937 ورصد عبرها تطورات العمليات العسكرية على الجبهات المتداخلة ، وحركة المقاتلين من كل الفصائل في الحرب الأهلية الإسبانية (1936 –  1939) واللافت  أن أحداث هذه الرواية لا ينتضمها رابط ، أو روابط سردية محددة ، بل هي مجموعة مشاهد أو تقارير مستقلة عن بعضها تشكل بمجموعها إطاراً عاماً لجولات حربية متلاحقة ، أو استعدادات لجولات لاحقة . وقد ترجم فؤاد كامل الرواية إلى العربية وصدرت الترجمة ذاتها بعدة طبعات عن دور نشر مختلفة ، وكانت إحدى الطبعات قد صدرت في بغداد عن دار الشؤون الثقافية بوزارة الثقافة والاعلام (6)  . ولعل الرواية التسجيلية ليست جديدة على الأدب العربي بيد أن الالتفات النظري إلىها عربياً لم ينل قسطاً وافراً من الدراسة بالرغم من وجود أعمال روائية تسجيلية عربية رائدة يمكن إدراجها ضمن هذا الجنس أو الشكل الكتابي ، ولعلي أذكر في هذا السياق رواية (نجمة أغسطس) (7) لصنع الله إبراهيم الصادرة عام 1974 والتي يتابع فيها الراوي من موقع الصحفي الميداني عمليات بناء السد العالي ، وقد استخدم في بنائها الكاتب تقنية الكولاج (التلصيق) مستعيناً بالوثائق والمراجع التي تحولت بعد دمج مقتطفات نصية منها في الرواية إلى نصوص موازية أو متقاطعة ، وبذلك يكون قد فكك بهذه التقنية نمطية المتابعة الوصفية للاحداث اليومية ، وضمن بقاء النص / الدال في منطقة وسطى ما بين المدلول السياقي من جهة ، وما بين شعرية اللعب بالمتون والهوامش من جهة أخرى بما يوفر للقراءة إمكانيات تخييلية مضافة .

في رواية (أنا الذي رأى) يشكل السجن الحدث الإطار ، غير أن تسجيلية الرواية لم تقتصر على هذا الحدث ، بل تعدتها إلى أحداث أخرى داخل العراق وخارجه ، بعضها أعقب زمياً الحدث الإطار ، وبعضها سبقه ، وكل سلسلة متجانسة من الأحداث تشكل مستوى سردياً مستقلاً ، بذلك يمكن تشخيص أربعة مستويات سردية هي :

1 –  المستوى الأول – المتن : ويتضمن محكية السجن

2 –  المستوى الثاني – ألمخطوطة : وفي هذا المستوى تغيب محكية السجن لتصبح مخطوطة السجن هي المحكية الأساس .

3 –  ألمستوى الثالث : لا علاقة له بالمتن ، ولا بالمخطوطة ، فهو مخصص للكاتب / الراوي ، ولتاريخه الثقافي والوظيفي .

4 –  ألمستوى الرابع : يشمل ملاحظات وشروحات الكاتب التي جمعها تحت عنوان (الهــــــوامش) إضافة إلى الملحق الخاص الموسوم ب (حجي وشيخو) .

فيما يأتي تفصيل ذلك :

المستوى الأول – المتن :

ويتضمن نص النواة المركزية التي تتمحور حول موضوعة السجن في قضية ظلت مبهمة حتى إقتراب الرواية من نهايتها بما يجعله سجناً بلا قضية ، وما رافق السجن من تضييقات وإهانات وتعذيب ، وما انتهى إليه من تحقيقات سريعة وعابثة . ويشمل هذا المستوى الفصول المعنونة (ألصدمة ، امل ، ألمجهول ، ألتسفير الدائم ، صابر ، وجه آخر من الألم ،  عودة الأمل) . مع وجود مقتربات نصية ساقت الأحداث باتجاه النواة ، أو أعقبتها بعد إطلاق سراح الكاتب / الروائي من السجن ، ويمكن وصف ذلك بنائياً بوجود نواة مركزية ما بين سلسلتين من الأحداث التوابع ، الأولى هي سلسلة تمهيدية سابقة ، والثانية سلسلة نهائية لاحقة ، أو على حد تعبير رولان بارت (كل سمة في المحكي تحيل إلى لحظة أخرى في المحكي ، أو على موقع آخر في الثقافة ضروري لقراءة المحكي : كل أنماط الأنفرة والكنفرة) (8) وقد استعان مترجم كتاب رولان بارت بالمراجع العربية لتفسير الكلمتين المعرّبتين الأخيرتين من المقبوس ، فالانفرة تعني (كل مقطع في النص يعود على مقطع سابق أو مقاطع –  كما هو حال الضمائر داخل الجملة –  وتتحدد هذه الأنفرة لتسهم في تشاكل دلالي ، أما الكنفرة فهي كل مقطع يعود إلى مقطع لاحق في النص أو مقاطع ، وهو ما يمكن تسميته في لغة النحاة العرب : ألعائد على متقدم أو متأخر) (9) . وقد مكن هذا البناء من تنظيم الأحداث على المسطرة الزمنية تنظيماً دقيقاً ومتصلاً منع من الترهل والحشو حتى بدا إقرار الكاتب / الراوي فيما بعد (في نص المستوى الثاني الذي سنأتي عليه) بأنه أجبر في دمشق بطلب من دار النشر الرسمية على حذف بعض فصول وفقرات من هذا المستوى بدا وكأنه تعلة لخطأ مفترض لم يُخلف وراءه أثراً .

والحدثان التمهيديان الرئيسيان اللذان سبقا حادثة السجن وضِعا في سياق إبراز علاقة التضاد مع مفاجآت المرحلة التالية / السجن ، وما تفرضه على السجين من ضغوطات وقيود ، وقد تمثل الحدث التمهيدي الأول بتصوير علاقة الأب الحميمة بأبنائه الصغار وكأن الروائي / الراوي يرمي من هذا التصوير إلى توجيه القارئ لتقدير الحالة النقيض عندما يُحرم الأب فجأة من تلك العلاقة ، وقد ظلت أصداء هذه العلاقة تتردد في طيات هذا المستوى (كنت أتوق لرؤية أطفالي وزوجتي ، وكان الشوق يزداد كل لحظة ، وأحلم بهم في كثير من الليالي . ص 115) بل وظلت أصداء هذه العلاقة تتردد في المستوى الثاني أيضاً . بينما تمثل الحدث التمهيدي الرئيس الثاني بتصوير حالة الالتزام تجاه الآخر ، والتي ستقطعها مرحلة السجن في بدايتها قبل أن يكون أحد طرفيها قد اكمل متطلباتها تجاه الطرف الآخر ، فقد دفع الكاتب / الراوي ألفا دينار من المبلغ المترتب عليه تجاه مقاول البناء من أجل إنجاز بناء بيته ، ثم جاء السجن ليقطع عن الكاتب / الراوي أخبار ما أنجزه الطرف المستلم من الالتزام الذي عليه ، ووضع هذا الحدث ضمن السياق مهد لتقرير حالة الارباك ما بين مرحلتي السجن وما قبله ، والمتعلقات التي سيحول السجن دون إنجازها ، مما يجعل ذاكرة السرد مشطورة ما بين المرحلتين ، وهذا يحول دون تركيز ذاكرة الراوي في داخل السجن الممكن ، ويدفعها للتشتت بحثاً عن إجابات في الخارج المستحيل (وبالرغم من ألامي الهائلة كان فكري عند الفلوس . ص 15) أو (فقط لو أبقيتُ الفلوس في البيت إذن لتمّ بناء الدار . ص / 27) . لكن التركيز على هذا الحدث (التابع) لم يبدأ مع مرحلة السجن ، بل منذ الساعات الأولى لدفع النقود إلى مساعد المقاول أو كاتبه ، أي قبل إلقاء القبض عليه (فجأة انقبض قلبي ، تركت النقود عند شخص لا أثق به ، بلا وصل أو دليل يثبت حقوقي ، الإثبات الوحيد ضميره ، ماذا لو أنكر ؟ ص 5)  ثمّ تأتي فترة السجن اللاحقة لتكون قد أنضجت التساؤلات الحائرة المحيطة بقضية النقود ،  ولتجعلها من شواغله . ويبدو أن مبعث قلق الكاتب / الراوي من احتمال إنكار مستلم النقود ليس أخلاقياً فحسب ، بل يعود إلى جذور تاريخية مفترضة ولا علاقة لها بتجربته الشخصية (لم أكن لأثق بالبنائين والمقاولين ، أليس أصل الماسونيين بنائين أيضاً . ص / 15) مما يجعل الحاضر لديه مرتهن لأحكام الماضي ، وهذا ما لم أجد له تفسيراً منطقياً .

أما سلسلة الأحداث اللاحقة التي تحيل وتتصل بالنواة (موضوعة السجن) فلم تستغرق أحداثاً كثيرة ، واقتصرت على تهويمات حالمة لسجين كانت بينه وبين الموت شعرة ، وقد أطلق سراحه فجأة ودون مسوّغ مثلما تم حجر حريته فجأة وحبسه دون مسوغ ، والفاصل الزمني ما بين المرحلتين هو سنة وثلاثة أشهر . وفي لحظات الحرية المباغتة لن يسع الذات أن تواجه لحظات الفجاءة المزدحمة بالمشاعر الحميمة والمتناقضة فتتوقف كاميرا الراوي عن رصد مشاعر الذات وهي تواجه أولى إشعاعات الحرية، ويبدو أن مرحلة السجن قد أصابت الذات بالعطب وأصابت معها بالعطب كذلك عين كاميرا الذات ، لذلك راحت عين الكاميرا ترصد وتصوّر الخارج وما يحيط بالذات ، مسقطة على ذلك الخارج بعض ظلال الذات الموجوعة واضوائها الخافتة ، مع إبقاء مسافة فاصلة ما بين الذات والخارج تحول دون التقائهما :

–           شاب يسحب نفسه ببطء وتعب ، يحمل قنينة غاز على دراجة هوائية ….

–           زهور الربيع المتفتحة ….

–           سماء زرقاء منقوشة بنديف سحري ….

–           عمال بلدية يدخنون ، يستريحون على الرصيف ….

–           بضع نخلات يُرقّصن سعفهنّ في حرية …..

–           برميل زبالة مقلوب ….

–           سيارات تمرق بضجيج لا يهدأ ….

–           هبّة هواء بارد …..

(ص / 148)

ثمّ تقترب الذات من الخارج ، وتبدأ أولى محاولات تقليل المسافة الفاصلة بينهما من أجل إتصالهما  ، وتواصلهما :

–           أخذتُ حجراً ، تشرّبت يدي برودته ، صلابته ، لماذا ضممته بين أصابعي ؟ ليعيد لي إحساسي بالطبيعة .

–           نظر إليّ طفل في السابعة يحمل زنبيلاً بتثاقل ظاهر ، دُهشت عيناه ، حجر باليد ودموع في العينين ، إبتسمت له ، وددتُ لو ضممته .

(ص / 148)

وظل هذا الخارج الحميم هو مرآة الذات الكاشفة عن ما تضمره بعد أن سلبها السجن قدرة الاتصال به والتحاور مع عناصره وموجوداته ، وبعد أن ألجمتها فرحة الحرية المباغتة .

منذ البداية يختار الكاتب تفكيك ثنائية الكاتب / الراوي باستعارته إسماً مغايراً لأسمه الحقيقي ، وكأنه يريد الإيحاء بأن إباحة استخدام الأقنعة الأسمية للشخصيات تخرج مروياتهم من حدود التاريخي وتُدخلها في فضاء التخييل ، ولذلك فإنه من المفترض أن الراوي في هذا النص ليس هو الروائي ذاته فهذا التغيير في الأسماء ليس شكلياً ، بل هو تغيير في فلسفة السرد يجعل الشخصية اللغوية تتمترس وتبني وجودها داخل النص حصراً وليس خارجه ، وإن الإستعانة ب(الخارج / الكاتب) من أجل تيسير فهم (الداخل / الشخصية السردية) سيعقد القراءة ويضللها ، ولذلك سأشير بدءاً من الأن إلى الصوت السردي الأساس ب (الراوي) بدل ثنائية (الروائي / الراوي) مؤكداً أن الإستخدام السابق لطرفي الثنائية معاً كان للتدليل على أن مرجعية الرواية هي مرجعية واقعية .

تجري أحداث المستوى الأول (المتن) في أربعة فضاءات ، والملاحظ أنه باستثناء الفضاء الأول ، فليست هناك ملامح تميز فضاءً عن آخر ، فكل تلك الفضاءات مغلقة على مكوناتها ومعزولة عن خارجها ، والتمييز ما بين فضاء وآخر تحدده انتقالات الراوي المفارقة ما بين الفضاءات بإرادة من جهة مجهولة لم يكشف عنها كما ظلت أسباب الانتقال هي الأخرى مبهمة ذلك أن الراوي ينقل ما يدور أمام عينيه ، ولم يدّعِ قدرة سردية استثنائية على استجلاء ما يدور في غرف السجانين .

إضافة إلى ذلك فهناك تغييرات في الأشخاص (السجناء والسجانين) وظروف السجن وطبيعة التعامل ما بين مجموعتي الشخصيات بحسب كل فضاء . وعدا ذلك فليست هناك ملامح بنيوية تميز فضاء السجن في محافظة عنه في أخرى حتى لتكاد كل الفضاءات تكون متشابهة ، ولو لم يميزها الراوي بأسمائها أو بأسماء المحافظات التي توجد فيها لما تمكـــــــــن القارئ من إيجاد سوى نقاط تمييز طفيفة فيما بينها .