المبدع وأوراق العمر- نصوص – ناطق خلوصي
تعرفت على أنور عبد العزيز أول مرة قبل ما يقرب من ستين عاما ً ، وتحديدا ً في خريف 1957 حيث كان قادما ً من مدينته الموصل ، طالبا ً مستجدا ًفي المرحلة الأولى من قسم اللغة العربية في دار المعلمين العالية ( كلية التربية فيما بعد ) ، وكنت أسبقه بمرحلة ولكن في قسم اللغات الأجنبية . ومدفوعين بهوس الكتابة وحماس الشباب ، وضع كل منا خطوته الأولى على طريق الكتابة الطويل منذ ذلك الحين . كانت ” العالية “، كما قلت أكثر من مرة من قبل ، عالية في كل شيء آنذاك ، تتيح أجواؤها الأكاديمية الرائعة فرصة تفتح المواهب ورعايتها بفضل طبيعة تقاليدها الثقافية ونمط أساتذتها الكبار ، فلا عجب إذن أن تشهد ظهور حركة الشعر الحديث في العراق على أيدي مبدعات ومبدعي الدورات التي سبقتنا . أما خلال السنوات التي قضيناها فيها ، أنور عبد العزيز وأنا ، فقد كانت حافلة بأسماء أصبح لها حضورها الواضح في الحركة الثقافية في العراق فيما بعد ، أسماء جليل كمال الدين وصلاح نيازي وعزالدين مصطفى رسول وسميرة المانع وسلمان الواسطي وأنيس زكي حسن وياسين طه حافظ وباسم عبد الحميد حمودي وصاحب جعفر أبو جناح ومجيد الماشطة وخليل العطية وفاضل العزاوي وعبد اللطيف اطيمش وزهير رسام وفائز الزبيدي ونور الدين فارس ومحمود عبدالله الجادر وصادق عبد الصاحب التميمي و كمال غمبار وأدور يوحنا، ( وقد استذكر أنور عددا ً منهم في كتابه ” أوراق العمر ” ) .
حين أكمل كل منا ، أنور وأنا ، سنواته الجامعية الأربع ، تفرقنا كل في اتجاه لكن التدريس ظل يجمعنا حتى أكمل كل منا أربعين سنة، كان أنور قد مارس خلالها مهاما ً تربوية أخرى في مدينته حتى أحيل الى التقاعد بدرجة مدير عام . لم نلتق لسنوات غير ان حرفة الأدب جمعتنا من جديد وصرنا نتبادل الرسائل والإصدارات . كتب أنور القصة وصار أحد أبرز كتابها في العراق على الرغم من أن النقد لم ينتبه اليه كثيرا ً ربما لكونه بعيدا ً عن بغداد مركز الثقافة وملتقى النقاد. لكن ذلك لم يضعف من عزيمته فواصل نشاطه حتى استطاع أن ينشر في صحف ومجلات العاصمة فضلا ً على مدينته الموصل ، بل انه صار ينشر في أمهات المجلات الثقافية العربية . وفي هذا المجال أصدر المجموعات الفصصية : “
الوجه الضائع “ــ الموصل ــ 1976 ” طائر الجنون ” ــ اتحاد الكتاب العرب ــ دمشق ــ 1993 النهر والذاكرة ” ــ دار الشؤون الثقافية العامة ــ بغداد ــ 1997 ” طائر الماء ” ــ دار الشؤون الثقافية العامةــ بغداد ــ 2001 ــ ” جدار الغزلان ” ــ دار الشؤون الثقافية العامة ــ بغداد ــ 2003 ” ضوء العشب ” ــ دار الشؤون الثقافية العامة ــ بغداد ــ 2005 ” مقاعد حجرية ” ــ تربية نينوى ــ 2010 ” حلم البلبل ” ــ دار الشؤون الثقافية العامة ــ بغداد ــ 2012 (ضمن مشروع بغداد عاصمة الثقافة العر بية وهي آخر ما صدر له من أعمال في القصة ) .. ساهم أنور في سبع مجموعات قصصية مشتركة منها ” قصص مختارة من أدبنا القومي الاشتراكي ” الصادرة عن وزارة الاعلام عام 1977 وقد أعدها وقدّم لها القاص موسى كريدي ( رحمه الله ). ان من يقرأ مقدمة هذه المجموعة يخيل اليه ان كل كتابها ، ومنهم أنور عبد العزيز ، ينتمون فكريا ً الى الاتجاه ” القومي الاشتراكي ” أو ” البعث ” على وجه التحديد كما جاء في المقدمة . لكن ليس في قصة أنور: ” الحوض الكبير ” التي نشرت له في هذه المجموعة ما يشي بمثل هذا الانتماء ، فهي واحدة من قصص الواقعية الاجتماعية التي عرف بها ولا تنطوي على أية دلالات خاصة موحية خارج هذا السياق . ولا أستطيع أن أجزم بصحة انتماء أنور الى هذا الاتجاه . فقد كان يساريا ً أيام ” العالية ” ، وربما ألجأه وجوده في الموصل الى التخلي عن هذا الاتجاه وأكثر الظن أنه ظل مستقلا ًمنشغلا ً بعمله ونتاجه الأدبي الذي عرف بغزارته . فالى جانب القصة القصيرة التي كرّس جهده لكتابتها ونأى بنفسه عن كتابة الرواية لسبب غير معلوم ، كتب في التراث وكانت مدينته تلهمه بذلك .في عام 2012 صدر كتابه الضخم ” أوراق العمر ” بعنوان فرعي ” مقالات نقدية وشواهد حياتية ” ، وقد صدر عن ” مركز دراسات الموصل ” في جامعة الموصل ، وجاء في 590 صفحة من القطع الكبير .أرسل لي نسخة منه بتاريخ 10 / 1/ ( 2012 ربما في الأيام الأولى لصدوره ) . كان بهتم ، ببراعة يحسد عليها ، في اختيار عبارات اهداء كتبه الى اصدقائه ، وهي براعة أعترف بأنني أعجز عن مجاراته بمثلها لذلك أكتفي بعبارات موجزة تتكررباستمرار . لقد ختم اهداءه لي بقوله ” …. هذا نزر يسير مما جاد به العقل والقلب والروح والضمير في سنين ماضيات .. مؤملا ً أن تستأنس به “. الكتاب توثيق أمين لسيرة حياة هذا المبدع الكبير ولجوانب من مسيرته الابداعية من خلال نماذج مما كتبه ونشره من مقالات جاءت في الفصل الأول من الكتاب تحت عنوان ” مقالات نقدية “. ان هذه المقالات تشي بسعة اطلاعه ، يتنقل فيها بين القصة والشعر من خلال قراءات نقدية رصينة لروايات ومجموعات قصصية ودواويين شعر . ويستأثر ما نشره مبدعون من مدينته باهتمام خاص منه في هذا الكتاب كشكل من أشكال الوفاء لهذه المدينة التي ترعرع فيها وأحبها وصار ما عايشه فيها وشاهده ، وشما ً في ذاكرته . لا يتوقف أنور عبد العزيز في كتابه هذا عند القصة والشعرانما يمر بالتاريخ والتراث وما تختزنه الذاكرة من ذكريات . وفي هذا السياق يكرس مقالا ً للكلية التي أكمل دراسته الجامعية فيها ، جاء تحت عنوان ” دار المعلمين العالية : الصرح التربوي العتيد” يقول فيه : ” دار المعلمين العالية : الكلية العزيزة الغالية ، تخرجت فيها من قسم اللغة العربية سنة 1961 من وجبة 1957 ــ ……. 1961 رحم الله أيام ( العالية ) وذكراها وشذاها وعبقها المثير ” .
وهو لا يجانب الحقيقة في قوله هذا ، ذلك ان أيام العالية تظل وشما ً محفورا ً في ذاكرة من درس فيها وتخرج منها ، ولا أظن ان كلية في العراق تدانيها في ذلك . ويدفعه وفاؤه لمدينته لأن يكرس لها عشر مقالات تحت عنوان ” من ذاكرة المدينة ” . ويمر انور بالمسرح والسينما والفن التشكيلي مما يدل على سعة وتنوع اهتماماته .
أما الفصل الرابع والأخير من الكتاب فقد جاء تحت عنوان ” سيرة وحوارات ” يكرسه أنور لما كتب عنه وعن اعماله مع وفة عند سيرته الذاتية.
هل كان أنور عبد العزيز يهجس بقرب رحيله حين أصدر هذا الكتاب ؟ لا أشك في ذلك ، وهذه الأوراق الصفر الذابلة المتساقطة التي امتص الزمن نضارتها ، في صورة غلاف الكتاب توحي بذلك .



















