ما الذي يحدث عند الوقوع في شرك النمطية؟
اللمبي على خطى إسماعيل ياسين
منهل الهاشمي
بغداد
في نهاية الثلاثينات من القرن المنصرم وتحديدا في عام 1939 ظهر (اسماعيل ياسين) في دور صغير في اول افلامه (خلف الحبايب). وقد سبق له ان بدأ حياته الفنية كمونولوجست متميز، خصوصا وانه يمتلك مقومات هذا الفن الساخر من خفة الدم وسرعة البديهة والبراعة في القاء النكتة والسخرية البسيطة والمباشرة. ولهذا فقد استعانت السينما المصرية الكوميدية بهذه المميزات التي يمتلكها، فمثل في بداية مشواره السينمائي في ادوار هامشية وبسيطة في افلام (علي الكسار) و(انور وجدي) بعد ان اكتشفه المخرج (حلمي رفلة). الى ان اتيح له عام 1949 ان يحصد اول بطولة سينمائية له مع المخرج (سيف الدين شوكت) في فلم (الناصح). ليتربع بعدها على عرش الكوميديا في السينما المصرية في العقد الخمسيني من ذلك القرن. فقد بلغ مجموع الافلام التي قام ببطولتها 80 فيلما تقريبا، منها 20 فيلما ظهروا في موسم واحد هو 1953 ـ 1954.
ضاربا الرقم القياسي لبطولة افلام الكوميديا حينها، لدرجة انه الممثل الكوميدي الوحيد الذي ظهرت له سلسلة من الافلام التي تحمل اسمه الحقيقي بلغت 17 فلما ومنها: (مغامرات اسماعيل ياسين)، (عفريتة اسماعيل ياسين)، (اسماعيل ياسين في الجيش)، (اسماعيل ياسين في البوليس)، (اسماعيل ياسين في الاسطول)، (اسماعيل ياسين في الطيران)، (اسماعيل ياسين بوليس حربي)، (اسماعيل ياسين بوليس سري)، (اسماعيل ياسين يقابل ريا وسكينة)…….الخ.ولكنه بقي يكرر نفس الشخصية النمطية ذات السمات الغبية البلهاء والساذجة،وبنفس الحركات المضحكة بفمه الواسع واللوازم الكوميدية حوارا واداء في جميع افلامه مما جعل الجمهور الذي اثار ضحكه بشدة في بداية افلامه وتجاوب وتفاعل مع هذا (الكاركتر) او الشخصية الكوميدية الجديدة بعدما وجده مستمرا بنفس الاداء والشخصية النمطية في العشرات من افلامه، والتي كتب معظمها صديقه الحميم ورفيق دربه الفني الكاتب الكوميدي الشهير (ابوالسعود الابياري) المتميز بكتابته لحوار يحمل خفة دم متناهية. واخرج معظمها المخرج المتخصص بالافلام الكوميدية (فطين عبد الوهاب)، جعل نفس ذاك الجمهور يمله وينصرف عنه شيئا فشيئا ليفقد بالتالي جماهيريته وشعبيته العريضة في الستينات. مما اضطره في النهاية ليختم مشواره الفني كما بداه في الثلاثينات بالعودة لعمله السابق كمونولوجست في النوادي الليلية حتى مات وحيدا في الظل بهدوء بعد ان انحسرت عنه اضواء الشهرة والنجومية.
وتبعه بعد ذلك في (السيناريو) نفسه الممثل الكوميدي (يونس شلبي) الذي بدأ مشواره السينمائي في فلم (ظلال على الجانب الاخر) عام (1975). واستمر يمثل ادوارا ثانوية صغيرة حتى سنحت له الفرصة للاشتراك في المسرحية الكوميدية الشهيرة (مدرسة المشاغبين) مع نجمي الكوميديا (عادل امام) و(سعيد صالح)، التي كانت جواز مروره مع زملائه الاخرين الى عالم النجومية السينمائية. لكن المؤسف انه لم يتعظ من تجربة سلفه (اسماعيل ياسين) فوقع في نفس شرك النمطية في ادائه وتجسيده للشخصيات السينمائية. فقد بقيت شخصيته (اللي مابيجمعش)!!، كما وصفه زميله (سعيد صالح) في المسرحية المذكورة لصيقة به في معظم ادوار البطولة السينمائية في الثمانينات، مكونا هو الاخر من خلالها (كاركتر) خاص به بعد ان لمس صداها الايجابي الكبير لدى الجمهور. من دون ان يكلف نفسه عناء التجديد والتطوير فيها ابدا. فبقي طيلة ذلك العقد يراوح في تلك الشخصية النمطية التي باتت مستهلكة تماما.مستغلا شكله وهيئته التي توحي بالطيبة والسذاجة وملامح وجهه (الكاريكاتيرية) الطفولية، اضافة لتكوينه الجسدي البدين الملفت للنظرفي بلورتها. لكن الجمهور الذي احبه وتابع افلامه بلهفة وترقب انفض عنه اخيرا مللا وسأما لتنحسر عنه اضواء النجومية السينمائية في العقد التسعيني وماتلاه ليميت هو الاخر نفس الميتة الماساوية لسلفه (اسماعيل ياسين).
بعد ذلك في مطلع العقد الاول من هذا القرن لحقهما النجم (محمد سعد) الذي جسد اول ادواره السينمائية في الفيلم الكوميدي (الناظر) عام (2000). وهو من بطولة النجم الكوميدي المبدع الراحل (علاء ولي الدين) بمشاركة النجم (احمد حلمي). ومن اخراج المخرج المتمكن حرفيا ومن ادواته الاخراجية، ذو الحساسية الفنية المرهفة (شريف عرفة). وفيه جسد لاول مرة وعبر دور ثانوي شخصيته الشهيرة (اللمبي) التي ابتكرها وصاغها السيناريست (احمدعبدالله)، لتصبح فيما بعد لصيقة به في الكثير من افلامه اللاحقة. وشخصية (اللمبي) مستمدة من قاع الحواري والازقة والمناطق العشوائية في القاهرة. وهو (ابن البلد) السوقي، الحشاش والبلطجي ـ رغم طيبة قلبه ـ خفيف الدم. ورغم اتسامها بالجهل والغباء والبلاهة (عبيط واهبل) ـ كما يقول المصريون ـ. لكنها مع ذلك تمتاز (بالفهلوة) والمكر الفطري الذي يساعدها احيانا على التخلص من المآزق الكثيرة التي تقع فيها. وبالكاد نستطيع فهم ما تقوله لانها تتلاعب بمخارج الحروف والالفاظ فياتي كلامها كالاطفال (متكسر) غير سليم او مفهوم لاثارة الضحك. وترتدي ملابس فاقعة الالوان تخلو من اي ذوق او تنسيق، لتعكس سوقية الشخصية.
ويقول (محمد سعد) في احدى لقاءاته الصحفية لمجلة (النصف الاخر) المصرية في عدد خاص بالنجوم الكوميديين المصريين متحدثا عن خطة العمل التي نفذها بعد ان قرأ لاكثر من مرة دور الشخصية في فيلم (الناظر): “شعرت ان الشخصية قد كتبت لي، او بمعنى اخر على مقاسي”. ثم يستطرد بالقول: “اشتغلت على التفاصيل، الملابس والاكسسوار، طريقة المشي، اسلوب الكلام، كيف ينفعل هذا الشخص، وكيف يهادن.. الخ.” وقد تناقش في هذه الشخصية مع كاتب السيناريو (احمدعبدالله) والمخرج (شريف عرفة) لاضافة لها ابعادا اخرى. وهكذا نجحت هذه الشخصية لدى الجمهور واثارت ضحكهم وتفاعلهم الشديدين وتركت فيهم اثرا قويا.
لهذا ومن منطلق استثمار هذا النجاح المدوي للشخصية تجاريا والذي لم يكن في الحسبان. فقد قام ببطولة مطلقة له لاول مرة لفلم يحمل اسمها (اللمبي) عام (2002) من تاليف السيناريست نفسه (احمدعبدالله) واخراج (وائل احسان). وشاركته البطولة النجمة المتالقة (حلا شيحا) مع الفنانين (حسن حسني) و(عبلة كامل) اللذين امسيا ـ اضافة للفنانين الكوميديين (لطفي لبيب) و(هالة فاخر) لاحقا ـ ورقة (الجوكر) الرابحة وفاكهة معظم افلام النجوم الكوميديين الجدد الصاعدين من الشباب منذ مايقارب عام (2000) صعودا الى يومنا هذا.
وبعد تحقيق هذا الفيلم اعلى الايرادات في شباك التذاكر فاقت جميع التوقعات بما فيها صانعيه انفسهم، رغم كونه بسيطا على المستويين الانتاجي والفني. ما اغرى بطله (محمد سعد) لتكرار نفس ادائه الكوميدي النمطي المقولب ونفس الشخصية وان كانت بتنويعات مختلفة بعض الشيء. عبر سلسلة افلام من نوعية ماتدعى بكوميديا (الفارس .(Farceاو (الكوميديا الهزليةSlapstick Comedy) وهو نوع من الافلام الهزلية الحافلة بالاحداث العدوانية والسلوكيات الخشنة والمداعبات السوقية. حيث انها تعرض المفاجآت المضحكة والشخصيات الهزلية الساخرة بطريقة مبالغ فيها دون منطق معقول او ذوق مقبول مستهدفة اثارة ضحك اكبر مايمكن من حشود الجمهور او المتلقين، عبر نوع من الكوميديا التهريجية التي تتسم بالخشونة المفرطة في حركة الجسم والايدي وحركات بهلوانية مبالغا فيها جدا. وهذا مانلمسه بوضوح في جميع افلام (محمد سعد) ويكفي ان نذكر عناوينها لنعرف نوعيتها او طبيعتها وقيمتها. منها ـ على سبيل المثال لا الحصرـ اضافة لفلمه الاول، (اللمبي)، (بوشكاش)، (اللي بالي بالك)، (كركر)، (كتكوت)، (عوكل)، (بوحة)، (اللمبي 8 جيجا)، (تتح)، وغيرها.
فقد بقي يكرر في كل تلك الافلام اداء نفس (الكاركتر) والادوار النمطية المستنسخة والمستهلكة وبنفس هذه النوعية الفيلمية (الفارس) الصارخة الهزلية المليئة بالاسفاف والتهريج. ولم يجشم نفسه عناء التجديد فيها ابدا سواء على مستوى الاداء التمثيلي ام الادوار والشخصيات ام النوع الفيلمي. كما يفعل النجم الكبير (عادل امام)، ذلك الفنان المبدع المتجدد الذي يحمل قدرا كبيرا من الذكاء الحاد والثقافة والوعي الشخصي والفني. اضافة بالطبع لموهبته التمثيلية الفطرية الفذة والمتفردة، وقوة الحضور(الكارزما) الطاغية التي وهبها الله له مع القبول. كل تلك الصفات مجتمعة اهلته للتربع على عرش الكوميديا في السينما المصرية والعربية كزعيم ونجم شباك اوحد بلا منافس طيلة ثلاثة عقود ـ ومازال ـ. وقاده ذلك الذكاء والوعي والثقافة، وبعد النظر واستقراء المستقبل، والاتعاظ من تجارب الاخرين، الى الابتعاد تماما عن (شرك النمطية) اداء، وادوارا وشخصيات، وانواعا فلمية. ذلك (الشرك) الذي وقع فيه اقرانه ممن تحدثنا عنهم. حيث لم يكتفِ بتقديم الكوميديا فقط بل قدم افلاما درامية جادة فيلم (المشبوه) انموذجا، وتراجيدية فيلم (حتى لا يطير الدخان) انموذجا. عن قصة بنفس العنوان للقاص الكبير احسان عبدالقدوس ، وحركة ومطاردات (Action)، (فلم “شمس الزناتي) انموذجا المقتبس عن فيلم (العظماء السبعة) الامريكي، والمقتبس بدوره عن فلم (الساموراي السبعة) للمخرج الياباني الشهير (اكيرا كيراساوا)، وفانتازية ساخرة فيلم (الافوكاتو) والفيلم المهم والكبير (النوم في العسل) كانموذجين، وسياسية (الفيلم الكبير والخطير (طيور الظلام) انموذجا. متعاملا مع خيرة وكبار كتاب السيناريو في السينما المصرية مثل (وحيد حامد) و(لينين الرملي). وفي السنين الاخيرة حصر تعامله في معظم اعماله سواء كان الوسيط الفني (سينما ام مسرحاً ام تلفزيوناً) مع الكاتب القدير والمتمكن من ادواته وحرفيته ككاتب مختص بالكوميديا (يوسف معاطي). فهو راهب في محراب الكوميديا يعيش بها، ولها. ويتميز باجادته لكتابة كوميديا الموقف، والمفارقة الساخرة الصارخة القائمة على التناقض، اضافة للحوار الموحي اللماح الذكي المليء بالتورية الحاملة لمعنيين : ظاهر، وباطن او مضمر، وبالطبع يقصد الثاني. مبتعدا عن كوميديا (الفارس) التهريجية. كالافلام ـ مثلا ـ (مرجان احمد مرجان)، (التجربة الدنماركية)، (السفارة في العمارة)، (ببس) وغيرها الكثير.
وعودا للحديث عن الممثل (محمد سعد) نستطرد ختاما بالقول باننا نتوقع اذا مااستمر بتكراره لنفس الاداء التمثيلي، والادوار والشخصيات النمطية المستهلكة، والانواع الفيلمية التي يصر على تقديمها. فان نفس جمهوره الذي سبق وان اثار ضحكه بشدة، وتفاعل مع هذا (الكاركتر)، وصفق له مبتهجا، ووقف طوابير طويلة امام شباك التذاكر لمشاهدته سينفض عنه لامحالة سأما ومللا، عاجلا ام آجلا، فالجمهور لا يرحم!!. وعند ذاك فانه سيسير على خطى سلفيه (يونس شلبي) و(اسماعيل ياسين). لكن الاخير وجد له الفرصة لكسب رزقه وقوت يومه (كمونولوجست) سابق في النوادي الليلية… فياترى ماذا سيشتغل (اللمبي) حينها.