اللغة البيضاء ومؤثراتها التعبيرية
جواد غلوم
jawadghalom@yahoo.com
من خلال قراءاتنا السابقة لادبنا العربي منذ ايام طه حسين ومارون عبود وتوفيق الحكيم والعقاد والمنفلوطي والرافعي ونجيب محفوظ وغيرهم من عمالقة النثر العربي الحديث وثلّة الشعراء النجوم كشوقي وحافظ ابراهيم وكامل الشناوي والبارودي وروّاد مدرسة ابولّلو مما يتعذر حصرهم في مقالة صغيرة كهذه، والذين تعلمنا منهم ومن كتاباتهم الثريّة بمضمونها وشكلها مع بداية التحرر من المحسنات اللفظية كالسجع والطباق والجناس يوم ولدت اللغة الثالثة كما يحلو للباحثين تسميتها واستحدثت على يد كبارنا الذين تعلمنا منهم سماحة الاسلوب وطريقة توصيل الفكرة وما في دواخل النفس الانسانية ومكنوناتها.
فاللغة الثالثة هي بالمحصلة النهائية لغة مستحدثة وقد منحت المسرح والشعر والرواية وبقية الفنون القولية مساحات عريضة للتعبير الامثل والأيسر والاقدر لما يريد الاديب ان يقوله فكانت بحقّ نتاجا تفاعليا مع بداية النهضة في عالمنا العربي ولاسيما في كنانة مصر التي تعلمنا الف باء الكتابة البيضاء، بحيويتها ونبضها المتلازم مع الواقع والتي تمتلك قدرات تعبيرية خارجة عن نطاق الصناعة اللفظية والمحسنات البديعية والبيانية التي كانت ترافق الكتابة قبل عصر النهضة فاللغة البيضاء وليدة معاناة طويلة وابتكار لغة يألفها الانسان البسيط مثلما يألفها المثقف الناضج لانها تحادث العقل وتناجي القلب معا بلا معاجم لغوية نلجأ اليها كلما تعسّر فهمنا لمعنى ما حين نتصفح الكامل للمبرّد او حيوان الجاحظ او عقد ابن عبد ربّه الفريد وبقية كتب التراث الاخرى
لم انسَ ابدا ماقاله عميد الادب العربي الدكتور طه حسين يومذاك : لغتنا العربية يسرٌ لاعسرٌ ونحن نملكها كما كان القدماء يملكونها، ولنا ان نضيف اليها مانحتاج اليه من ألفاظ لم تكن مستعملة من قبل
ففي حادثة اذكر اني قرأتها ايام فتوتي وانغماسي في ادب كبارنا ادباء مصر ان لجأ القاص الكبير والمسرحي المتألق محمود تيمور ان يكتب احدى مسرحياته باللغة المصرية العاميّة ظنا منه انه سيقترب اكثر فاكثر من محبّي ادبه ومشاهدي مسرحه غير ان طه حسين وقف قبالته ونصحه بكتابة مايريد باللغة الثالثة البيضاء من اجل تحقيق هدفين هما تنمية عقل المتلقي وانهاضهِ وتطوير قابلية الانسان الذهنية والترفّع عن السطحية والإسفاف والانحدار وبنفس الوقت ايصال مايريد الكاتب الى عقل وقلب القارئ والمشاهد حين يرى حركات الممثل على خشبة المسرح.
ففي اواخر الستينيات واوائل السبعينيات من القرن المنصرم تعلمنا الكثير من اساليب الكتابة الحديثة على يد اساتذتنا الاجلاّء في مرابع كلية الاداب/ جامعة بغداد اذكر منهم الدكتور علي جواد الطاهر الذي قسّم الاسلوب الكتابي الى ثلاثة انواع وأوجزها باختصار شديد.
-الاسلوب الادبي : المفعم بالخيال والمجاز والاستعارة والتشبيه والمحسنات البيانية والاثارة والتشويق بعيدا عن المحسنات اللفظية الاّ ماجاءت عفوية سلسة وحدها من دون تكليف مقصود.
-الاسلوب العلمي :الخالي من الخيال تماما والمجرّد من الصيغ البيانية والبديعية وابتغاء اقصر الكلام للوصول الى المعنى معتمدا على لغة الارقام والتجريب للوصول الى الحقائق المبتغاة.
-الاسلوب العلمي المتأدب : الذي يجمع بين هذا وذاك باسلوب شيق ورائق غامسا اطراف ريشته وليس كلها في بعض الوان البديع والبيان مع الاهتمام بالمعنى معرضا عن لغة السفاسف العامية ونائيا ايضا عن لغة التراث العتيدة بمعاجمها وقواميسها العسيرة الهضم على القارئ العادي وهذا مانسميه باللغة الثالثة او مااصطلح عليه مؤخرا باللغة البيضاء المألوفة والمتعارف عليها بين النقاد والباحثين في الشأن الادبي وتاريخ الادب والنقد الادبي والعلوم الانسانية بصورة عامة كالتاريخ وعلم النفس ومراحل نمو الفن …..الخ
اعجب لماذا يلجأ بعض الادباء الى الصناعة اللفظية والمعنوية ويذهب بنا الى متاهات لغة سوداء معتمة لاندري مخارجها ومداخلها فنتوه في دروبها الوعرة غير السالكة، وما الداعي ان يطفئ الاديب مصابيحه ويعتم مفرداته ومعانيه ويضع العثرات الجسام في طريق كان لابدّ ان يكون سالكا رحبا مليئا بمعالم التشويق والانجذاب ومفروشا بالعشب الناعم الملمس ومحاطا بشجيرات تؤنس القارئ وتبعث فيه متعة القراءة ومنفعة الهدف من الكتابة !!
ما الذي يريده الاديب الناجح غير توصيل ما يروم الى المتلقي بكل انسيابية وتدرّج مرتّب لملامسة ذهن القاريء بعبارات واضحة يسيرة الهضم ومشبعة للفكرة وبلغة بيضاء لاتشوبها الركاكة حين تدنو من العامة فتنصع في القلب والعقل معا، اما استخدام اللغة المعجمية الثقيلة الظلال وممارسة الصنعة المتعمدة فقد عفا عليها الزمن فالناس لاتريد لغة تنفر المسامع منها وتشمئزّ النفوس وخير الكتابة ماكانت مأنوسة خفيفة الوطء تأتيك طائعة القياد، سهلة الخطى، رفيقة تثير البهجة فينا وتبعث السعادة والمتعة والفائدة المرجوّة وهل غير اللغة الثالثة البيضاء بسهلها الممتنع نديما وجليسا للانظار والعقول والنفوس التوّاقة للادب الجميل.