الكتابة مسؤولية

العمود الصحفي لدى علي جواد الطاهر إنموذجاً

الكتابة مسؤولية

شكيب كاظم

مرة طلب مني مسؤول في احدى صحفنا اليومية المرموقة الكتابة اليهم بشكل دائم وثابت اي كتابة مايشبه العمود الاسبوعي او نصف الشهري فاعتذرت قائلا اني على استعداد للكتابة اليكم والتعاون معكم بعيدا عن الكتابة المقننة والمحددة بموعد ثابت لاني ارى ان الكتابة مسؤولية والذي لايحترم قارئه سيخسراحترام القراء له ولقلمه فضلا عن ان الكتابة كما اراها مزاج واستعداد لذا فأنا اعجب إذ اقرأ في سير وحيوات الكتاب اعجب من ميكانيكية بعضهم اذ تراه يذكر انه يكتب من الساعة كذا حتى الساعة كذا من كل يوم من ايامه ترى أهذا الكاتب جندي حراسة او شرطي يؤدي واجبه المعتاد؟

مرات عديدة قد لايكون لك الاستعداد الكافي لكتابة شيئ مفيد وجميل يضيف الى رصيدك لدى القراء والمتابعين شيئا فالكتابة شأنها شأن القراءة يحصل ان يلتمع في ذهنك عنوان كتاب فتبحث عنه في مكتبتك حتى اذا وجدته بعد لأشيء، بدأت القراءة بفرح وحبور في حين تطالعك عناوين كتب في مكتبتك لكنك لاتجد المزاج والرغبة في قراءتها لذا فأنا اعجب من هذا الاصرار على كتابة العمود الاسبوعي او نصف الشهري وحتى الشهري لان الكتابة عندذاك ستتحول الى واجب وظيفي لن تكون جالبة لقارئ سحترم وقته وذائقته.

قد يكون لمحرري الصفحات الثقافية او الصفحات المتخصصة عذر فالعمود الذي يكتبونه جزء من عملهم الوظيفي ،فضلا عن ان المحرر بحاجة الى ابداء الرأي ومواكبة الامور الثقافية والمعرفية ،ولكن الذي يؤسف له هذا الاصرار على الكتابة المحددة والظهور الاسبوعي الذي اسمية بـ(الكتابة الوظيفية )

بعض المجلات الشهرية وحتى الصحف اليومية تكلف بعض الاسماء ومنها اسماء مهمة لابل مهمة جدا للكتابة بموعد ثابت رغبة من هذه المطبوعة في جلب انتباه القراء واقتتناء المطبوع لرغبة القارى في متابعة كاتبه المفضل.

كنا نتابع ماتكتبه الصحفية اللبنانية والقاصة ليلى البعلبكي في مجلة (الاسبوع العربي )اللبناني او مايكتبه الشاعر نزار قباني في مجلة (بيروت المساء ) او كتابات غسان كنفاني في مجلة (الهدف)الناطقة بلسان الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ايام مؤسسها الدكتور جورج حبش الذراع العسكري لحركة القوميين العرب ومقالات استاذي الدكتور علي جواد الطاهر في صفحة (افاق)جريدة الجمهورية التي كان يتولى الاشراف عليها الناقد ماجد السامرائي وكانت من ارقى الصفحات الثقافية في العقد السبعيني  لكن علي جواد الطاهر ما واصل الكتابة طويلا لانه يشعر بمسؤولية الكتابة ويحترم قارئه. توقف عن كتابة مقاله الاسبوعي المرسوم بـ(ماوراء الافق )من اجل مزيد من القراء ومن اجل ديمومة العلاقة مع قارئه وجمع هذا المكتوب ونشرته له وزارة الاعلام العراقية في كتابه اسماء (وراء الافق الادبي ) صدرت طبعة الاولى عام 1977.

واستوجب الحال -كما يقول الطاهر – شيئا من الاستجمام يرى الكاتب فيه المدى الذي يستطيع ان يصل اليه والمادة التي يمكن ان يتناولها دون ان يجور على مخططه (…)اجل فقد كان وهو يعد هذه الكلمات يريد لمداها ان يكون ابعد من الخبر الصحفي الذي ينتهي بأنتهاء اليوم الزمني الذي تصدر فيه الجريدة ويريد لها قدر المستطاع ان تجمع الطرافة الى رصد الحاضر والاهتمام بالغد لقد كان بمعنى اخر يخطط الى ان ينشرها لدى اول مناسبة في كتيب خاص تراجع  ص6من الكتاب

ويتكرر الحال مع مجلة (الف باء) اذ تكلفه المجلة بكتابة حديث ثقافي اسبوعي اختارله عنوان (الباب الضيق) لكنه ماجعل من عموده هذا عمودا ازليا، انه يحترم نفسه وقراءه، ما لبث ان توقف وجمع هذا المنشور بكتاب عنونه بـ(الباب  الضيق) كتبت عنه حديثا نقديا عنوانه (محاولة لولوج الباب الضيق) نشرته جريدة (العراق) يوم الاثنين 8/ من شهر شوال /1412- الموافق للعشرين من شهر نيسان /1992 وبالعدد 4954، واعدت نشره في كتابي الاول الصادر عام 200 والموسوم بـ(الضفة الثانية في نقد القصة والرواية) ما اقل من هم على هيئة الطاهر وتوجاهته، فالكتابة  المتواصلة اذا لم تردفها قراءة  جادة ومتواصلة، تجعل الكتاب يقدم لنا لغو صيف، او سحابة صيف، ما تلبث ان تنقشع من ذاكرة القارئ، والكثير من الكاتب  لا يقرأون بشكل جاد وجيد، لذا ما هي الا اغماضة عين وانتباهتها، حتى يظهر الكاتب الوظيفي، او ما اسميه (المتحدث الخافر) اذ تراه في كل ندوة ومناسبة، يتحدث الحديث ذاته، مع تغييرات بسيطة تناسب المقام، وقد رأيت اكثر من متحدث، ما ان يكمل حديثه الفارغ، حتى يغادر الجلسة، لانه الى ندوة اخرى، وكأنه (متعهد) احاديث او (قنطرجي).

اقول: ما يلبث هذا الكاتب الوظيفي، او الناقد المتحدث الخافر ان يظهر على حقيقته الخاوية خالي الوفاض، الا من كلام فروق منمق:

فقد قال لكل الذي يريد قوله، وسيصبح (صاقولا) كما اطلق الدكتور علي الوردي على نفسه هذا الوصف – وكان جريئا وصادقا – اي ان يعيد و (يصقل) ما سبق ان كتبه وتحدث به، لانه لا يقرأ، كي يضيف الى ثرائه المعرفي ثراء جديدا.

الكتابة مسؤولية، بل صعبة كما يصفها ابراهيم الجرادي في مقال جميل عنونه بـ(استدراك الامر بصريح العبارة) نشرته جريدة (المنتدى) الاسبوعية الثقافية الرائعة التي تذكرني بجريدة (البلد) المحتجبة التي اصدرها الصحفي الرائد عبد القادر البراك- رحمه الله- منتصف العقد الستيني الفارط، لقد كانت جريدة (البلد) واحة وارفة الظلال، تتفيأ فيها اقلام كتاب ذلك الوقت ولعلها اول صحيفة كان الهم الثقافي والكتابي فيها يعلو على صوت السياسة، اقول: قرأت في جريدة (المنتدى) بالعدد المرقم 157 الصادر في يوم الاربعاء 19/ من ذي الحجة/ 1432-16/11/2011 ما يشبه الاعتراف الصريح بضرورة الايفاء بالتزامات هذه الكتابات الوظيفية المقننة، في مواجهة من يستهلها، الذي يرى انه يكتب بدوافع لا علاقة لها بقيمة ما يكتب وهذه هي الكارثة والداهية الدهياء، يقول الجرادي ابراهيم: لم يصدقني صاحبي حيت قلت له : انني استصعب كتابة الزاوية الصحفية اكثر من سواها، ولم يصدقه اصدقاؤه الحاضرون حين اعترف انه يكتب وهو الاسم المعروف بدوافع لا علاقة لها بقيمة ما يكتب، لان في الامر بواعث مرتبطة بالذات الكاتبة ورغبتها في الظهور والحضور وتاكيد الذات.

بصراحة، انا لا اقرأ الاعمدة الثابتة، لا بل اقرأ نتفا منها، وسطورا، حتى للكبار امثال: اودنيس، وعبد السلام المسدي، وجابر عصفور، وصلاح فضل وغيرهم، لانني بمقارنة هذه الكتابات الوظيفية الوجائبية ومقارنتها بما كتبوا خارج هذه الاطر المحددة، ارى البون شاسعا بين الكتابتين والنهجين.

قد يكون الكاتب محتاجا الى المال، لكني اراه بحاجة كبرى الى هذه الاصرة بينه وبين القراء والتي سداها ولحمتها الاحترام المتبادل، وليس رغبة في الحضور وتاكيد الذات، فهذه الكتابات المنبتة الصلة والقطوعة الاصر، لن تجلب لك حضورا، وتاكيد ذات، لانها صادرة عن خواء نفسي، واستغفال قد يبدو متعمدا للقارئ، وان يضع في حسبانه ان ليس الكاتب منتج النص وكاتبا له، بل القارئ من خلال خزينه الثقافي، وذائقته القرائية، هو الاخر منتج للنص ومفسر له، وانه ليس من المجدي- من اجل ديمومة العلاقة وبقائها بين وجهي  العلاقة  هذه، واعني الكاتب والقارئ – ان يظل هؤلاء يبثون لغوهم الفارغ، فالباث او الكاتب بحاجة الى الركن الثاني من عملية البث او الكتابة،  اي المبثوث له، القارئ والمتلقي، فهل يجوز لهؤلاء ان يواصلوا بث فارغ القول، او المبثوث الفارغ، يصدعون به ادمغة قرائهم؟!

المسالة اخيرا بحاجة الى مراجعة للذات. انريد علاقة احترام مع القارئ وللقارئ، ام علاقة ! استغفال له وتدليس عليه؟!

فالقول الصادر من القلب يدخــــل القلب، امــــا القـــــول الصادر عن اللسان، فلا يكاد يصل الــــى الاذان، اذن القــــارئ الــــسامع!