القطار القديم
عبد الرزاق صالح
البصرة
كُنْتُ في الثانية عشرة من عمري
أصعدُ في القطار الصاعد إلى بغدادَ
أنامُ ليلاً في السَّلة الخشبية المُعَدَّةِ لحقائب المسافرين!
يَصْفِرُ القطارُ ؛ يتطاير البخارُ مُشكِّلاً ذيلاً أبيضَ!
يمضي القطارُ رويداً … رويداً على سكة الحديد المترية
يهدرُ ؛ يزبدُ؛ يرعدُ ؛ يترنحُ المسافرونَ في العربات!
قلق أنا أو بالأحرى نومي قلق!
في محطةِ السَّماوة يتأخرُ في الوقوف كثيراً!
ينتظرُ القطارَ القادمَ من بغدادَ إلى البصرة
يقفزُ المسافرونَ إلى أرض المحطة
يشربونَ الشاي أو يتعشونَ
وحينَ يصلُ القطارُ القادمُ من بغداد
يطلقُ قطارُنا صفارةَ المغادرة
يتراكضُ المسافرونَ للصعود
كان القطارُ القديمُ يَمرُّ على سدة الهندية في الغبش
يقفُ في المحطة لدقائق معدودات!
يصحو المسافرونَ على صوت بائعات القيمر الوديعات
القيمرُ في الأواني الفخارية!
الإفطار لذيذٌ في ساعات الصبح الأولى
من أيدٍ بيض كالبلور
مداعبات بريئة
وضحكات مجنونة
صبايا خجولات
رياح باردة
تُداعبُ خدوداً حُمرَ
وترقصُ في الريح جدائلُ سود
أرى عيونَ النساءِ تفتشُ عن الأواني الفخارية الفارغة!
وحينَ يطلقُ القطارُ صفارةَ المغادرة ، يرتبكنَ!
ينزلنَ من صعدنَ إلى عربات القطار مُسرعات!
مرَّة لم تستطعْ الصبيةُ الجميلةُ بائعة القيمر النزول!
كانت كالقمر ، وحينَ غادرَ القطارُ المحطةَ مُسرعاً
أجهشت بالبكاء وهي واقفة تترنح داخل العربة!
وبعد دقائق صَمتتْ ، بعد أن طمئنها ( التيتي)!
ونزلتْ في المحطة التالية!
آه. كان عمري محطاتٍ!
كَنْتُ منبهراً حين يدخلُ القطار ضواحي بغداد
كَنْتُ أرى عالماً جديداً
كَنْتُ مذهولاً وأنا أرى الحقول الغناء
والطيور الشاردة
والمياه الصافية
كانت الأنهارُ نظيفةً في تلك السنوات الخوالي
ودجلة يجري مجنوناً
أرى القرى البعيدة والمتشتتة
أرى عيون الأطفال السَّاحرة
والتلاميذ الذاهبين إلى المدرسة
أرى الفلاحينَ والفلاحاتِ في الحقول
أرى الحيوانات الأليفة وهي سارحةً في المدى البعيد
أرى الأشجار وهي تسير عكس اتجاه القطار
أرى النخيل الباسقات
أرى قرص الشَّمس
أرى أكواخ الفلاحين ( الصرائف)
والوجوه الباسمة
والنوايا الصافية
في السَّماوات الصافية
في السنوات الصافية
في بلد الخير والمحبة
بلد الجمال
وعندما أصلُ إلى المحطة العالمية في بغداد صباحاً
أنزلُ من القطار
وأستقلُ حافلة الركاب ذات الطابقين
قاصداً الشاكرية….
كَنْتُ وقتها في السادس الابتدائي!