أشكال تطور الخطابات والرموز في تفاحة حواء -1-
القصة القصيرة ونطاق السرد
ليث الصندوق
وصِفتْ رواية (أبواب الفردوس) للروائي ناطق خلوصي بأنها رواية إيروتيكية لما حفلت به من إشارات وتلميحات وصور ومواقف حسية ومثيرة . وقد سبق لي أن أشرت إلى تلك المواقع التي تبسط أثرها على مساحات واسعة من فضاء الرواية ، بيد أني لم أجد التوصيف مناسباً لها ، وبقيت متحفظاً في إطلاقه حتى مع أكثر فصول الرواية إثارة وحميمية ، بل حاولت أن أجد الأعذار التي تبرئها من الإيروتيكية وتنفيها عنها – إن كانت الإيروتيكية تهمة حقاً توجب التبرئة – ، فالجنس فيها لم يكن لاستجلاب إثارة مجردة ، أو تحقيق متعة حسية عابرة بقدر ما كان نزوعاً إنسانياً طبيعياً نحو الآخر ، أو ردود فعل إنسانية منكسرة على إكراهات إجتماعية قاهرة .
وجاءت الرواية التالية للروائي ناطق خلوصي (تفاحة حواء ) زاخرة هي الأخرى بإشارات وتلميحات ورموز ومواقف جنسية صارخة ومضخمة تصل كما في الرواية السابقة إلى ملامسة حدود العلاقات المحرمة ، إلا أن مسوغات التحفظ السابقة ما زالت قائمة تحول دون توصيفي لها بالإيروتيكية ، فالكاتب كما أرى قصد من وراء تضخيم الصورة الإستثنائية إلى لفت النظر ليس للعلاقة بحد ذاتها ، بل للظروف التي تنتجها ، وتدفع باتجاه تحويلها إلى خطيئة . من هنا جاء بحثه في نماذج العلاقات الإنسانية الشاذة والنادرة ، والتي لا تمثل ظاهرة بحد ذاتها بقدر ما تمثل سلوكاً مرضياً منحرفاً عن السوية الإنسانية . وإزاء هذا السلوك وقف الراوي – الذات الثانية للكاتب – موقف الناقل المحايد الذي يتحاشى التورط في تقويم أفعال الأبطال وسلوكهم ، تاركاً للقارئ حرية التلقي والتحليل والمشاركة في إعادة كتابة النص .
لقد مكن أسلوب السرد غير المباشر الذي يتوسط عبره الراوي المفارق ما بين الشخصيات وما بين القراء ، والذي عادة ما يُعبر عنه باستخدام ضمير الغائب ، مكّن منذ الصفحات الأولى من معرفة تطور العلاقة شبه الأبوية ما بين والد منير ، وسلافة زوجة منير ، بعد أن كانت الظروف الأمنية المضطربة قد حجبت الرأس الثالث لمثلث العلاقة الأسرية (منير ) دافعة به للهرب من العراق إلى القاهرة إثر التهديد بالموت الذي تلقاه من شخص مجهول ، تاركاً في بيت والده زوجته سلافة وإبنه الصغير سلام ، لتكون تلك الزوجة الجميلة ، والمحرومة من الحب مهددة بحاجتها الجنسية المقموعة . وتجيء الفرصة لتعبر سلافة عن كوامن الضعف الإنساني الذي تعانيه عندما تبسّط والد منير ، ورفع الكلفة معها ليرتكب بذلك الخطأ الأول ويمنحها فرصة إطلاق علاقتها المحرمة معه من عقالها . لقد اعترف لها – وهما يتناولان الغداء في أحد المطاعم الفاخرة – بأنه ليس بريئاً من اقتراف إثم الحب خارج حدود بيت الزوجية . ولكنه حاول أن يجد مسوغاً لذلك ، فزوجته كما يقول (أحالت نفسها إلى التقاعد من وظيفتها في التعليم ومن السرير . ص / 23 ) ويبدو أن المفردة الأخيرة في المقبوس قد حرضت سلافة على الاسترسال في حفر الأسرار ، والاستزادة من المفاجآت . كما دفع اعترافه ذاك رغبتها المؤجلة نحو الواجهة ، وأنطق مسكوتاتها ، وحرضها أن تدخل معه في قفص اعتراف مشترك ، فباحت بما كانت تخفيه (أنا بشر يا عمي ، إمرأة من لحم ودم وأعصاب ، زوجة يغيب عنها زوجها لأكثر من عام ، محاطة بذئاب تريد أن تنهشها ، تناضل من أجل أن لا تقع في الشراك التي ينصبونها لها في هذا الزمن الكافر الوضيع . ص / 25 ) . هذا الباب الذي فتحه أبو منير أمام زوجة إبنه الغائب للدخول إلى عالمه السري شجعها في المقابل على أن تفتح هي أيضاً باباً على آتون الرغبات المكبوتة . وإن كانت سلافة قد وجدت في الباب الذي فتحه لها أبو منير فرصتها المنتظرة لتسريب نيران كبتها ، فإن أبا منير على العكس منها لم يجد لديه الرغبة في دخول الباب الذي فتحته له سلافة ، وقد ظل متحفظاً متحرزاً إزاءه اندفاع سلافة ، في الوقت ذاته لم تكن سلافة لتفتح باب آتون الرغبات المكبوتة على مصراعيه دفعة واحدة ، بل تركته موارباً ، يسرب على دفعات لفح النار المضطرمة وراءه . فهي حيناً تقبله وتطبع شفتيها على خده فرحاً بنبأ سار يفاجئها به ، وهي مرة أخرى تقترب منه وتتعمد إدخال ساقيها ما بين ساقيه ، وهي مرة ثالثة ترفع ثوبها وتكشف له عن جسدها بحمام المطعم طالبة مساعدته في رفع حمالة الثديين بحجة أنها تضغط على صدرها وتسد شهيتها ، وهي مرة أخرى تكشف له أسرار صديقاتها في العمل اللواتي يتناولن الجعة لأنهن (يقلن إنها تزيد استمتاعهن على السرير . ص / 30 ) وهي مرة أخرى تعبر عن إعجابها بوسامته التي تؤثرها على وسامة زوجها – إبنه ، بل أن تلك الوسامة كانت السبب الرئيس لموافقتها على الزواج من إبنه (ما إن وقع بصري عليك حتى أحسست أنك دخلت قلبي على عجل . ص / 33 ) . ولعل الإسم المعلن للمطعم (الكهف ) والإسم السري (كهف العشاق ) اللذين يكشفان طبيعة العلاقات ما بين مرتاديه ، إضافة إلى الجو الحميمي الذي رسمه الراوي المفارق للمطعم من الداخل ، كل تلك العناصر التكوينية ساهمت في بناء تصور مسبق للتلميحات والأفعال التي ستدور فيه ما بين بطلي الرواية .
لم يكن والد منير يطمح بمغامرات نسائية سواء مستقرة أم عابرة أكثر من علاقته مع إمرأة متزوجة كشف عنها لسلافة . ولكن تداعياته الذهنية للفترة التي سبق أن عاشها في القاهرة كشفت أنه لم يشارك في حياكة شبكة تلك المغامرات ، ولم يرغب بها ، بل إنها كانت تتم عبر عناصر احترفت مهمة الإيقاع بالفرائس ، وإنه وجد نفسه مصادفة على مقربة من تلك الشبكة أو تلك المصيدة مرتين في الأقل ، ولكنه لم يكن على استعداد للتضحية باتزانه والمغامرة بكهولته . وإن كانت العلاقة المحرمة – التي لم تجتز في كل الأحوال حدود الإغواء – ما بين سلافة ووالد زوجها في ما سبق أن عاشته في مرحلة ما قبل زواجها من علاقات أسرية مختلة ، وكذلك في ما صارت تعانيه بعد زواجها من كبت وحرمان بعد أن تركها الزوج وسافر هارباً بحياته إلى القاهرة ، كما أن علاقة والد منير بعشيقته المجهولة خارج حدود العلاقة الزوجية تجد ربما مسوغاتها في حالة عدم تواصله عاطفياً مع زوجته . بالرغم من أن تلك العلاقة الخارجية لم تتطور إلى أكثر من مستوى اللقاءات والحوارات وأنها سرعان ما انقطعت بعودة زوج عشيقته مريضاً من مكان إقامته في الخليج . إلا ان المواقف العاطفية العابرة التي كان أبو منير على تماس معها في القاهرة دون أن يتورط بأي منها لا تجد لها مسوغاً ، ولذلك أبقاها الراوي عند مستوى السطح ، ولم ينقلها إلى ما فوق هذا المستوى ، ولذلك ظلت محصورة في حدود التداعيات الذهنية ، بل إنه تغاضى عن تلك التجربة وهي لم تزل في مراحل تشكلها الأولى احتراماً لكهولته ، وربما يكون ذلك دليلاً آخر بأن ما هدف إليه الكاتب من العلاقات الحسية يتجاوز الإثارة العارضة ، ويربط العلاقة بظروفها وأسبابها .
لقد اصبح مطعم الكهف هو النقطة الفارقة التي سيتحول فيها السرد من مستوى الإخبار إلى مستوى التساؤلات (ص 35 – 45 ) ، حيث سيتزامن طرح الأسئلة الذاتية لدى كل من أبي منير وسلافة مع دخولهما إليه ، ومن ثم مع خروجهما معاً منه ، وستكون أسئلة الطرفين متشابهة بالرغم من أنهما ما زالا يفكران منفصلين عن بعضهما . إذ ركزت أسئلة الطرفين على معرفة الأسباب التي دفعتهما لإزالت الفواصل الروحية ما بينهما والاقتراب من خصوصيات بعضهما اكثر من السابق . ولكن إن كانت أسئلة أبي منير المونولوجية تكشف عن براءته من أية محاولة متعمدة للفت انتباه سلافة إليه ، وجهله بدوافع سلافة التي لمحت إليها لفظياً ، وعبرت عنها جسدياً ، فإن أسئلة سلافة المونولوجية على عكس ذلك كشفت عن نية مبيتة لاستثارة الرجل وإغوائه ، كما كشفت عن محاولات سابقة في هذا الاتجاه (يبيت معي في الشقة منذ أن سافر منير لكنه لم يستجب في يوم من الأيام لمحاولاتي في جعله يقترب مني ليس روحياً فقط ، وإنما جسدياً أيضاً . ص / 38 ) و (يقرع الجرس فأنزل السلم على عجل وأفتح الباب ، فيشع وجهه الصبوح ، وأتمنى لو أنني أحتضنه أو أن يبادر هو لاحتضاني ، فيخيب أملي ويزيدني ذلك اقتراباً منه . ص / 38 ) وما بين المونولوجات الموزعة ما بين اعترافات سلافة الذاتية التي لا تخلو من استفسارات مبطنة ، وما بين الأسئلة الجريئة والصريحة للطرفين والتي تستهدف إماطة اللثام نوايا ودوافع المقابل يطل الراوي فجأة ليطرح السؤال الأخطر الذي كسر به الحصر الذي قصرت به التساؤلات على الطرفين ، لليشرك طرفين آخرين يكتمل بهما مربع التساؤلات ألا وهما منير الغائب ومرسل رسالة التهديد المجهول (ترى من الذي أبعد منير عنها ؟ من الذي كان يرسل إليه رسائل التهديد بالقتل هو دون غيره ؟ تعرف ان زوجها مسالم ، بعيد عن أي انتماء حزبي ، يهتم بعمله وبيته . ص / 38 ) ولعل تساؤل الراوي هو الذي أوقف التساؤلات الأخرى التي كانت تدور في ذهن سلافة عن نيتها في استدراج ابي زوحها إلى علاقة محرمة ، وحرفها باتجاه البحث عن الطرف المتورط في التهديد السري بالقتل الذي تلقاه زوحها منير . وستبدأ من اللحظة التي أطلق فيها الراوي تساؤله في البحث عن الشخص المشتبه في تورطه بالتهديد ، ومواجهته بما لديها من أدلة إدانة ، وكان المشتبه الوحيد هو إبن خالتها المدعو (داخل ) ألذي سبق أن راودها عن نفسها . وستتجمع لديها الأدلة على تورطه ، لتحول شكوكها إلى يقين ، وستعترف لوالد زوجها – بعد أكثر من عام على التهديد – وهما في عمان في طريقهما إلى القاهرة بأن داخل هو صاحب التهديد (ص / 145 ) . ولعل تدخل الراوي بهذه الطريقة في مجرى السرد هو أحد الحلول الممكنة التي يقدمها الكاتب لمساعدة أبطاله في حل ما يواجهونه من إشكاليات ، أو لإنضاج وإغناء محكياتهم . وسيتحول السرد في مرحلة ما بعد هذا التساؤل المحوري باتجاه إشباع الإجابة عنه ، مع عدم إغفال الرغبات المكبوتة لسلامة باتجاه أبي زوجها تحديداً والتي تعبر عنها أحياناً بلغة الجسد ، وأحياناً بالكلام المرموز والمبطن . ولكن دوافع ذلك الترميز أو التبطين لم تعد خافية على أبي منير ولا سيما بعد أن كشف الإثنان لبعضهما جوانب خفية من اوراقهما السرية ، وهذا ما انطوى عليه حذر سلافة وهي تهم بمغادرة مطعم الكهف بصحبته من ان تفضحها رائحة الجعة التي تناولتها ، فنصحها بأكل تفاحة :
(قالت وهي تلتقط تفاحة من الوعاء الموضوع في الخوان :
– التفاحة التي أخرجت أبانا أدم من الجنة.
إلتقطت سكيناً هذه المرة وشطرت التفاحة إلى شطرين ، ومدت يدها بشطر منهما إليه فاعتذر . قالت وهي تمد يدها بالشطر الأخر إلى فمها .
– كيف شطرت حواء التفاحة إلى شطرين ، شطر لأدم ، وشطر لها ، وهي لا تملك سكيناً ؟
(ص / 44 )
وبهذا الحوار وما تكتنفه من إداءات حركية تكون سلافة قد أوصلت رسالتها العاطفيه المحرمة إلى أبي منير ، ويكون هو قد استلم الرسالة وفض الغازها . فإزاء الرمزين اللغويين (التفاحة والسكين ) والرمز الأدائي (شطر التفاحة الواحدة إلى شطرين ، وتقاسم الشطرين فيما بينهما ) الواضحة في دلالاتها لم يجد أبو منير بداً من أن يكون جوابه من جنس السؤال ، ملغزاً وموحياً وينطوي على احتمالات تأويلية شتى ، فقد ضحك لها ، وأجاب (لم تكن تفاحة من هذا النوع . ص / 44 ) مختصراً الإجابة وكأنه يريد إنهاء أو بتر الحوار عند هذا الحد ، وعدم السماح بالاسترسال به ، مكتفياً التطرق إلى الجانب الأول من الرمز (التفاحة ) ومتلافياً التطرق إلى طرف الرمز الآخر (السكين ) . وبعد هذا الفاصل الحواري الرمزي القصير تطور من جانب واحد (جانب سلافة ) أسلوب الخطاب ، فلم تعد تطلق على أبي منير لقب (عمي ) ، وبذلك تكون قد أزالت المحدد الإجتماعي المرتبط جدلياً بالتزامات أخلاقية ، ممهدة لانفتاح العلاقة بينهما بنفس المستوى الذي انفتح بها ما بينهما الخطاب ، أو هذا ما كانت تأمل منه سلافة على الأقل ، وتدفع إليه .
لا تخلو هذه الرواية من ميزتين سبق ان وردتا في الرواية السابقة للكاتب (أبواب الفردوس ) ، الأولى : وجود شخصية فاعلة على الأحداث ، ومؤثرة على الشخصيات ذات تاريخ سياسي تقدمي ، والثانية : وجود اهتمامات أدبية أوثقافية عامة لدى واحد او أكثر من شخصيات الرواية . وكما اجتمعت الميزتان في الرواية السابقة في شخصية العم ، فالميزتان معاً اجتمعتا في هذه الرواية في أبي منير . وإن كانت الميزة الأولى في هذه الرواية لا تعدو أن تكون إطاراً خارجياً غير مفعّل سردياً ، إلا أن هذا التوصيف لميزة أبي منير الأولى والذي هيمن على دوره في اغلب مساحة الرواية لا يستمر إلى نهايتها ، حيث ستفعّل هذه الميزة السياسية ذات الخصوصية العراقية ليس في العراق ، بل في القاهرة (في الربع الأخير من الرواية ، وتحديداً في الصفحات 150 – 157 ) ، فهناك سيلتقي أبو منير بأحد رفاق النضال والسجن القدامى (عباس حلاوي ) وستتمخض عن لقائهما إضافات سردية هي مزيج من تداعيات ، وذكريات ، وحوارات تتصادم ثم تتلاقى فيها الرؤى بما يغنى هذه الميزة . بيد أن الميزة الثانية شكلت ملمحاً داخلياً أثر في صناعة الأحداث ، وتطويرها تصاعدياً ، فأبو منير كاتب وأديب وإعلامي ، واجتماع تلك التخصصات الثلاثة به جعلت منه شخصية عامة معروفة ، وهذا ما يكشفه رأي إحدى زميلات سلافة في الدائرة (نعرف الاستاذ عبد الوهاب معروف ، الكاتب الكبير .
أنا أقرأ أعمدته الأسبوعية بشكل خاص . ص / 97 ) . وبهذه الميزة تحولت الرواية إلى منبر حواري لمناقشات معمقة في الأدب والنقد ما بين أبي منير وسلافة ، حيث جرى تحليل قصة قصيرة لكاتب مفترض (وهذا ما سنأتي عليه فيما بعد ) كما جرى تحليل رواية (المسرات والأوجاع ) لفؤاد التكرلي. وعدا تلك المداخلات النقدية والتحليلية الغنية فإن رغبة الكاتب في مقاربة الرواية ثقافياً دفعه لتحويلها إلى نص مركب من نصّين تحت عنوان مشترك واحد (الرواية / تفاحة حواء + قصة قصيرة / تفاحة حواء ) وقد تمخض هذا التعالق السردي عن بناء من نصين ينعزل كل منهما عن الاخر على مستوى المحكيات ، ولكنهما ينفتحان على بعضهما على مستوى التلميحات والإحالات بحيث يمكن اعتبار القصة القصيرة نصاً مجازياً للرواية . وكانت القصة التي تحمل عنوان (تفاحة حواء ) لكاتبها التخييلي (مصعب بردان ) قد نشرت في مجلة استعارتها سلافة من إحدى زميلاتها في العمل ، وأعجبت بها ، وطلبت من عمها (أبي زوجها ) أن يقرأها ويقوّمها لها . إن دخول القصة إلى أفق الرواية لم يحولها إلى رواية ميتاسردية ، ولا أحسب أن الكاتب كان يطمح بتجريب هذه الصرعة الكتابية ، فمهمة الرواية غير محصورة تماماً بفحص وتدقيق النص القصصي بما يجعلها إنعكاساً له ، وتلك أهم خصائص الميتاسرد ، كما أن كلا النصين (الرواية والقصة القصيرة ) ظلا محتفظين باستقلالية أفقيهما السرديين (الأحداث والشخصيات ) دون ان تنفتح الرواية على القصة ، ودون أن تنفتح القصة القصيرة على الرواية ، بالرغم من ان ذلك الفصل لا يمنع وجود مناطق متشابهة ما بين النصين ، مثل عنوان القصة القصيرة الذي صار عنواناً للرواية ، والإيحاءات المشتركة العديدة ، والأحداث المتناظرة ، والشخصيات ذات الأفعال المتشابهة .
وبالعموم ، فإن ألقصة القصيرة (تفاحة حواء ) مدرجة بكاملها في نص الرواية (من صفحة 54 – 71 ) وتنماز عنها طباعياً بحروف مائلة ، وبفراغ إبتدائي تشغله ثلاث عبارات ، الأولى من كلمتين ، تحدد الأولى منهما جنس النص (قصة ) بينما تحيل الكلمة الثانية إلى شكل أحد حلقات السلسلة الطباعية / الدورية التي نشرت بها القصة (العدد ) لتصبح العبارة الأولى (قصة العدد ) . والعبارة الثانية أسفل العبارة الأولى وهي مخصصة للعنونة (تفاحة حواء ) . أما العبارة الثالثة ، فتتوسط أعلى الفضاء الإبتدائي وتشير إلى كاتبها (بقلم : مصعب بردان ) . أما نهاية القصة فقد ختمت بكلمة واحدة مقوسة هي (انتهت ) إيذاناً بعودة الرواية إلى سياقها المقطوع (ما قبل القصة ) وتؤكد هذه العودة الحروف الطباعية النمطية . ويبدو أن مهارة الكاتب وتملكه من أدواته مكّناه من صياغة القصة (أو الجزء الأول منها ) بأسلوب أخر يتباين عن الأسلوب الذي صيغت به الرواية ، فأوحى بذلك التباين إلى تباين المصدرين . فالأحداث في بداية القصة تتوالى متسارعة ومتداخلة ببعضها حتى إذا ما استقر بناء الشخصيات بدأ إيقاع الأحداث بالتباطؤ متزامناً مع انضفار الأحداث الفرعية في ضفيرة واحدة تمثل الحدث الرئيس (الثيمة ). والرؤية في هذا الجزء الإفتتاحي من القصة رؤية خارجية قلما تتوغل في التفاصيل الدقيقة ، وقلما تخترق أعماق الشخصيات . تتحدث القصة عن بنت في سن المراهقة ، ولدت بعد انتظار لرجل وامرأة لم يُرزقا سواها ، ولذلك أساء الأب تربيتها بالتدليل ، فنشأت متعلقة به ، وتطور ذلك التعلق سلبياً ليتحول إلى علاقة محرمة ، حاول الأب إصلاحها ، ولكن بعد فوات الأوان . ووكما تبيّن سابقاً فمن الواضح أن هناك على المستويين الحكائي والبنائي أكثر من رابط يجمع ما بين مجريات الرواية ومجريات القصة ، وهذا ما يجعل من تساؤل ابي منير – بعد قراءته القصة – مستغرباً (ترى لماذا أعجبت سلافة بهذه القصة ؟ ) ولا سيما إنه بدأ يدرك – قبل قراءته للقصة – بذكائه وثقافته ملامح المعضلة النفسية التي تعانيها . ولعلي لا أغالي إذا قلت بأن القصة القصيرة (تفاحة حواء ) جاءت استطراداً متأخراً لتحلل دوافع وأسباب العلاقات المحرمة التي انطوت عليها الرواية السابقة (أبواب الفردوس ) ، بل إن (تفاحة حواء – الرواية ) بحد ذاتها توشك أن تكون نصاً تفسيرياً لما فات تفسيره في (أبواب الفردوس).