القراءة وضرورتها للكاتب والمتلقي – نصوص – شكيب كاظم

حوار هادئ مع باسم عبد الحميد حمودي

القراءة وضرورتها للكاتب والمتلقي – نصوص – شكيب كاظم

اتابع ما يكتبه الاستاذ باسم عبد الحميد حمودي، منذ اوائل كتاباته ولاسيما في نقد القصة والرواية، كتابه الاول (في القصة العراقية) الصادر عام 1961، وثانيا كتابه (الوجه الثالث للمرأة) 1973، فضلا عن كتابه النقدي المهم (رحلة مع القصة العراقية) الصادر عن دار الرشيد للنشر عام 1980، ومازالت في الذاكرة توصلاته الاستقصائية التوثيقية الرصينة، في مسألة اولية من كتب القصة القصيرة جدا في العراق، وان (نئويل رسام) اول من كتبها عراقيا، في 16/ من حزيران، 1930،

حين نشرت جريدة (البلاد) قصته (موت الفقير) وذلك في دراسته القيمة (القصة العراقية القصيرة جدا) التي نشرتها مجلة (الاقلام) العراقية بعددها (11-12) من السنة الثالثة والعشرين، الصادر في تشرين الثاني/ كانون الاول 1988 والخاص  بالقصة العراقية القصيرة، والذي اعيد القراءة فيه والرجوع اليه.

كنت اجد في كتابات الاستاذ باسم، اخلاصا ونزاهة واحتراما للحرف والكلمة، فضلا عن ما زان كتاباته من رواء وكثرة بهاء وماء، بخلاف كتابات حجرية، كانها قدت من صخر، وبين يدي كتابه الصادر عام 2014 (سحر الحقيقة. شخصيات وكتب ودراسات في التراث الشعبي).

مؤخرا قرأت عموده الذي اعطاه عنوان (ماذا يترتب على المبدعين من مطالعات ؟) المنشور على الصفحة الثامنة من عدد جريدة (الزمان) الصادر يوم الخميس 26/ من صفر 1436 / 18/12/2014 والذي يتحدث فيه عن حوار عبر فيس بوك، مع الروائي العراقي الكبير عبد الخالق الركابي، يلوم فيه الركابي نفسه، متطلعا الى عديد الكتب  ولاسيما الروايات، التي لم يقرأها بعد، واقفا عند رأي عباس محمود العقاد، بأن ليس هناك كتاب يقرأه ولا يستفيد منه، حتى الكتاب التافه ليتعلم منه كيف يكتب الكتاب التافهون؟، فضلا عن رأي توفيق الحكيم، الذي يقرأ كل شيء، ويخلص الاستاذ باسم من حديثه هذا الى ضرورة ان تكون القراءة منتجة اي انها تطلعه على الجديد مما يصدر في حقله الابداعي، وعلى طرف من هذا وطرف من ذاك من العلوم والمعارف، ذلك ان القراءة ينبغي ان تسير الى غايتها، في الحاجة الى مادتها، وفي الحصول الى المعرفة المبتغاة، لأن قراءة المبدع تجوهر ابداعه وتضيف اليه الكثير.

اقول لقد كنت المس شغف الركابي بالكتاب واحتجانه، من خلال كثرة غثيانه المكتبات، فضلا عن ما كان يحمل اليه، ونحن في مجلسنا الاسبوعي في مقهى الشابندر، ومن قبلها في مقهى حسن عجمي، من كتب ودوريات، وكنت احدث نفسي، ترى هل يستطيع انسان قراءة كل هذه الكتب اسبوعيا؟، واعين في الحسبان انه كاتب يخصص جزءا من وقته للكتابة ايضا، سيكون الوطء في هذه الحالة مضاعفا، فهو ليس بقارئ فقط، بل كانت موغل في كتابته، نعم. قد تستهوينا الكتب واقتناؤها ومطالعتها، ولكن يجب ان نكون في المنطقة الوسطى، بين الاقتناء  وبين انجاز القراءة، ولطالما كبحت جماح نفسي عن الاقتناء، وكثرته، لانني ارى ضرورة ان يقرأ الكتاب المقتنى، لا ان يظل  يرنو الي متسائلا متى يحين دوره في القراءة؟ وهذا مما يؤلمني حقا، لذلك اطلقت على الكتب التي تقرأ حال اقتنائها بالكتب المحظوظة، في حين يظل كتاب اخر يعاتبك لانك ما فككت سجنه، وتركته قابعاً على رف المكتبة، ولعل الركابي يعاتبك ثاني اثنين في كثرة اقتناء الكتب، اما الثاني فهو الاستاذ مؤيد البصام، ويوم زرت مكتبته العامرة في داره الانيقة،  وقد احتجت الى مصادر لكتابة رسالتي في القراءات القرآنية لنيل الماجستير في معهد التاريخ العربي للدراسات العليا، عام 2001، وكانت الدنيا، دنيا جوع وشظف وحصار، ولا نملك الفلس لشراء الطعام، فكيف نشتري كتباً؟ وجدت غرفة زاخرة بامات المراجع والمصادر، يحتاج الصعود الى رفوفها درج، وهو قد كان موجودا فيها مما سهل مهمتي ويبدو ان البصام من الذين لا يلدغون من جحر مرتين، واذ بدأت اعيد الكتب اليه تباعا، وقد فرغت منها، فأن نفسي سولت لي الاحتفاظ، او لنقل سرقة الكتاب (بحث في نشأة علم التاريخ عند العرب) لفيلسوف التاريخ العربي الاسلامي الاستاذ  الدكتور عبد العزيز الدوري (1917-2010) الصادر عن المطبعة الكاثوليكية في بيروت سنة 1960، وإذ اعاد طبعه وكل مؤلفات الدوري، مركز دراسات الوحدة العربية، وبمساعدة من مؤسسة عبد الحميد شومان سنة 2005، اقتنيت نسخة منه، واغلب اصدارات المركز من مؤلفاته، واذ سوفت باعادته طالبني مؤيد البصام به، لاكتشف انه يسجل الكتب التي يعيرها لاصدقائه، وانكشفت سرقتي، وضحكنا لهذا كثيراً !

لم اجد احداً، كان ينجز قراءة كل ما يقتني من كتب سوى المرحوم ابي اذ كان يذهب بين اونة واخرى الى صديقه قاسم محمد الرجب، ليعود محملاً بما لذ وطاب من كتب، ولا يذهب ثانية اليه، الا بعد ان ياتي عليها كلها قراءة، لذا ما كان في مكتبته كتاب لم يقرأه!

لقد قيل الكثير في قضية القراءة، وضرورتها للكتابة وحيويتها، ولقد سبق لي وان ناقشت مثل هذا الموضوع –  تراجع  الصفحة 77 من كتابي (المرء يلقي عصا ترحاله) الصادر عن دار فضاءات في عمان سنة 2013، ومقالتي المعنونة (المكتبة وضرورتها للكاتب والقارئ) اذ ان هناك الكثير ممن لا يعول على القراءة.

في عملية الكتابة والإبداع، ويرى ان مهمة القراءة وإقتناء الكتب من مهمات القارئ والمتلقي، وإن شغل الكاتب ومهماته –  وقد تخطى المرحلة الإعدادية، مرحلة إعداد نفسه لمهمة الكتابة والإنتاج –  ان يحيا الحياة بامتداداتها، فما عاد يقرأ، بل هو كائن يعبر من الكتاب الى الحياة الدنيا، فالكتاب ليس الا محطة في مسيرته، بينما الحياة تظل مواقف وممارسة وقراءة وكتابة، وسفرا دائما، وإطلاعا على حياة الشعوب والأوطان الاخرى، إذ لا تجد في القراءة والكتب الا صورة معبرة عن رأي مؤلف واحد، في حين نرى في الحياة ولاسيما السفر ملايين الصور التي لم يكتبها كاتب حتى الآن، او قد كتبها ولم تعثر عليها، ولم تقرأها، لأنك لست موكلا بقراءة كل ما يكتب، ولقد حدثني صديق روائي وقاص، بما يتناغم ويتواءم مع ما ذكرت آنفا، واذ قال لي: إن وقت القراءة قد مضى مع سنوات التأهل والتأهيل الذاتي للدخول الى عالم الكتابة، وإنه يكرس الآن جل وقته للكتابة، وإذ قلت له.. هل هناك كتابة جادة من غير قراءة اكثر حيوية وجدا؟ دارى خجله وجفاوة رأيه، انه لا يقصد عدم القراءة، بل قراءة قليلة، نعم قد لا يحتاج الشاعر الى قراءة عميقة ورصينة، او يحتاجها، اقل من الناقد او القاص او الروائي او المسرحي، لأن الشاعر يعتمد على موهبة النظم وبيع الكلام، ولقد قرأت رأيا طريفا للشاعر المصري المعروف محمود حسن إسماعيل (1910 –  25/4/1975) مفاده ان الشاعر الموصول بأسباب الوحي والإلهام، لا يحتاج الى التوسع في المطالعات لأنها (تشوش) على ما يتنزل عليه من ربات الشعر، فالشعر لا تصنعه المطالعات مهما اتسعت، إنما تصنعه موهبته التي فطر عليها وصارت جزءا من جبلته ولا سبيل الى إصطناعها إن إنتفت (…) وإذا اراد ان ينأى بنفسه عن التقليد والمحاكاة قلل من مطالعاته –  يراجع الفصل الخامس للشاعر من كتاب (وديع فلسطين يتحدث عن أعلام عصره) للأديب المصري المعروف وديع فلسطين) وهو رأي وإن كان قد سبق إليه، فهو جدير بالتنويه والإشادة به والاشارة اليه، وقد ورد في كتب النقد القديمة، ان على الشاعر من اجل زيادة محصوله الشعري، ان يحفظ الشعر، ثم ينسى ما حفظ، وهي وجهة نظر نقدية ذكية ورائعة، أي ان يبقى للشاعر صوته الخاص به، والنهر الذي يسبح بين ضفتيه، ويؤكد ذلك سبرنا لحيوات الكثير من الشعراء، فهذا الرصافي، الذي ما احتفظ بكتاب واحد، ولقد زاره احمد حسن الزيات صاحب مجلة (الرسالة) فما وجد في غرفته العارية سوى طاولة وفراش فقير، وحتى وهو يورط نفسه في الكتابة عن الشخصية المحمدية ومقوده في معتزله ذاك بالفلوجة، في احد دور آل عريم الكرام المطل على نهر الفرات، لغرض كتابة كتابه ذاك، لك يكن عنده غير السيرة الحليبة، وسيرة ابن هشام، وتفسير وكتب أخر، وهي ليست له، بل تعود لروايته الاستاذ مصطفى علي، اذ لم اجد وأنا اجوس مخطوطة الكتاب، الذي نشرته دار الجمل بالمانية، غير ذكر السيرتين الحلبية وابن هشام، ولو درى الرصافي، ان مثل هذه الدراسات، التي تحتاج الى قراءات معمقة وصبر ومطاولة ليست من وكد الشعراء وجبلتهم، وهم الذين وصفهم القرآن الكريم فأحسن وصفهم، لما ورط نفسه فركب هذا المركب الصعب، هو الذي امضى العمر مع الناس وفي الاول المتقدمة حيث الحياة متسعة ومتتدة وتجاربها تلهم الكتاب والمبدعين وتزيد حصيلتهم، قد لا يحتاج الكتاب الى قراءات موسعة، لكن ما بالك بالمبدع العراقي، وقد كان يعيش، ولاسيما بعد منع السفر سنة 1981 عزلة مدمرة وتجارب محدودة، كيف يبدع إذا لم يقرأ ويطلع على تجارب الحياة الدنيا، وفي سنة تلت منع استيراد الكتاب، فالدنيا حرب واحنا مشينا للحرب!! فما شأننا بالقراءة والكتابة شغل المعقدين والخاصة، ولا صوت يعلو على صوت الحرب، فالقراءة تعويض للكاتب والأديب عن العزلة وقلة التجارب، ولقد كنت اقارن كتابات القاص الأنيق عبد الستار ناصر (1947 –  2013) المستوحاة من سفراته الدائمة الى دول اوربا والغرب، بكتابات كتاب آخرين ما غادروا العراق، فأجد البون شاسعا، فعبد الستار ناصر ينهل من حلو الحياة وسفراتها، لقد كانت كتاباته بلسما لقروح حياتنا وجراحاتها. منذ سنوات (2/9/2006) كتب الناقد العراقي ياسين النصير من مغتربه في هولندا مقالة نشرتها جريدة (الزمان) في 2/أيلول/ 2006 عنوانها (المكتبة والقارئ) نقل فيها رأيا لكاتب هولندي، صديقه الذي يحتفظ بكتب لا تتجاوز المئة كتاب، وأدوات قليلة، وصور قديمة، وتحف تملأ ارففا صغيرة وشيء من تراث قديم، إذ يرى ان المكتبة اضحت عائقا له عن ان يحيا ويعيش الحياة بامتداداتها، في حين يرى الناقد الأديب ياسين في مقالاته آنفة الذكر إن المكتبة عائق كبير، فهي تمتعني من قراءة الحياة وتجعلني اعيش في ضمن عيش الآخرين، بل تمنحني فرصة للتأمل الصغير، غير تلك التي يتيحها لي سفر على شاطئ بحيرة بصحبة من اعشق.

وإذا كان الشعراء لا يحتاجون الى قراءات معمقة، لأسباب ذكرتها آنفا، فما هو بدر شاكر السياب، كما يقول ياسين النضير في مقالته انفة الذكر لا يملك مكتبة كبيرة كان يقرأ ويعطي كتبه للغير، والبياتي لا يحتفظ بأي كتاب، إلا ما يكتبه، كل ما يمدى له يعطيه لأقرب الناس اليه، وسعدي يوسف يزرع في كل مدينة مكتبة صغيرة، ثم لما يغادرها، لا يحمل منها الا ما يخصه، والجواهري يمتلك مكتبة، لكنه يتصفح إلا كتبها القديمة، واضيف انا نقلا عن صديقه الحميم الباحث الدكتور محمد حسين الأعرجي، إنه كان يستعير منه دواوين الشعر القديمة، كي يدون منتقياته منها، ولأنه لا يعيد ما يستعير من كتب، فقد اشترط عليه الأعرجي، ان لا يعيره شيئا إلا بعد ان يعيد ما استعار منه من دواوين وكتب! وهو ما فصله الأعرجي في كتابه الجميل (الجواهري دراسة ووثائق) اصدرته دار المدى عام 2002، وأدرت عنه حديثا نقديا نشرته مجلة (صوت الآخر) في 25/4/2014، وإذ ضعف نظره اخريات سنواته كان صهره صباح المندلاوي يقرأ له، وهو ما دونه في كتاب، نشرناه مسلسلا في (الزمان) يوم كان يحرر صفحتها الثقافية الرائع النبيل الدكتور طاهر عبد مسلم علوان، قبل ان يغادرنا نحو بروكسل، ومحمود البريكان، ليست عنده سوى مكتبة موسيقية، فضلا عن ذلك الشاعر الذي ما رأيته يوما يحمل كتابا، حتى إذا وصفته بالشاعر الكبير او السارق الكبير، جاء اخواه الى (الزمان) يعاتباني، هما اللذان تركاه يموت في العراء وذبح احدها صفحة كاملة في ملحق (الصباح) الثقافي لشتمي، هو الذي ما كتب قبل تلك الشتيمة شيئا، وما قرأت بعدها له ابدا؟! كما شتمني الدكتور داود سلوم سنة 1988 بثقافية العراق، بأسم مستعار (سادر جازع) اذ لم اقرأ لهذا السادر الجازع شيئا قبل ان يشتمني، وهكذا تكون الكتابة وإلا فلا!!

اخلص من هنا للقول: ان العمر الانساني القصير، يدعونا الى ان نحسن إختيار ما نقرأ، فلعيوننا حق علينا، ان لا نتعبها بفارغ القول، وسخف المكتوب، ولا دفعتنا –  كذلك –  فطاقة استيعابها محدودة، وأن نجعل المعلومة المفيدة، تأخذ مكانها في تلافيف ادمغتنا. قال الفيلسوف عمانوئيل كانت: هناك الكثير من المعلومات التي اعرفها ولا احتاج اليها، في حين هناك معلومات انا بحاجة اليها ولا اعرفها اذن يجب ان نبحث عن المعلومة التي نحتاجها في كتاباتنا ولا نعرفها فالقراءة ضرورة للباحث والأديب والأستاذ الجامعي، ولأن القراءة تجوهر عقل الكاتب واسلوبه، ولأنها تضيف إليه، والى معينه الإبداعي كثيرا، فنحن مجموعة القراءات التي قرأناها، والأفلام التي شاهدناها، والموسيقى التي استمعنا اليها، وتجارب الحياة التي مررنا بها او مرت بنا، ومشاهداتنا في اسفارنا، وما نحمله من مورثات وجينات في اجسادنا، التي فك شفرتها الوراثية ذلك العالم الأمريكي.