القرآن والسارق
حسن حنفي
مشهد قديم رآه الجميع عندما كانت محاكمات رموز النظام السابق علنية يشاهدها الجميع قبل منع بثها بذرائع غير مقنعة إذا كانت الغاية من المحاكمات التربية السياسية لأنها جزء من العمل السياسي وإذا كان للثورة أن تحقق نتائجها لأنها جزء من نتائج الثورة. هو مشهد الوريث ممسكا بيديه الاثنين بالقرآن وراء ظهره وهو يخفي الجانب الأعظم للرئيس المخلوع إلا ما ظهر من وجهه من ثنايا القضبان. يهدف إلى التأثير على النفس، وأنه بالرغم من محاكمته إلا أنه مؤمن بكتاب الله مثل باقي المؤمنين. فيدرأ عن نفسه صفة الاتهام. فإنه يصعب على النفس أن يظل الإنسان متهما بينه وبين نفسه إلى الأبد. فلابد من التبرئة أو الإدانة. وقد يكون الهدف التأثير على القضاة حتى ينظروا إلى المتهمين بعين العطف والرعاية. فالمتهم في النهاية هو مسلم من المسلمين وليس يهوديا ولا نصرانيا ولا مجوسيا، من أهل الكتاب. وقد يكون الهدف التأثير على الجمهور عندما كانت المحاكمة مذاعة على الهواء مباشرة ينتظرها الملايين ولسان حالهم يقول وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ أو سبحان المعز المذل أو لك يوم يا ظالم .
والمتهم في لباس أبيض مثل لون لباس الإحرام. والأبيض لون البراءة والصفاء وإن كان هو أفرول السجن، الأزرق بعد العقوبة، والأبيض قبلها، والمصحف باليدين وراء الظهر حتى تصوره آلات التصوير ويراه الناس. يخفي والده بمنطق الإخفاء إلا ما ظهر من الوجه من خلال القضبان. والقرآن قادر على أن يحمي أكثر من اثنين من الشر وإخراجهما من الأزمات، وتفريج الكرب. يخفي الوجه ويرى الناس الظهر وحده حتى يرى الناس القرآن بين اليدين المشبكين وراء الظهر. واليد التي تمسك بالقرآن كيف يمكن اتهامها بالسرقة وتهريب الأموال والرشوة والفساد؟ القرآن حارس من كل هذه الاتهامات التي تنقصها الأدلة بعد إخفائها، والمتهم منها براء. والناس تؤمن بصدق أن القرآن حارس. وتستبعد نفسيا أن تمتد هذه اليد الممسكة بالقرآن إلى المال الحرام. فهناك عرق ينبض فيه إذا حدث ذلك مثل كبار المؤمنين. وهي من كرامات الصوفية. وقد يكون الهدف شعوريا أو لاشعوريا طلب العفو. كل بني آدم خطاءون، وخير الخطائين التوابون . والعفو عند المقدرة. ومسك القرآن بكلتا اليدين مؤشر على طلب العفو بدلا من رفعهما إلى السماء منفصلتين. وهو استعطاف للناس بمقدساتهم، وجعل المقدس الواسطة بين المتهم والناس. فينسى الناس المتهم. ولا يتذكرون إلا المقدس كمن يحلف بالله على شيء كي يصدقه الناس. فينسى الناس الشيء. ولا يتذكرون إلا الحلف بالله أو التوسط بالحبيب الغالي. فإذا ما طلب تخفيف العقوبة استجيب إلى طلبه، وإذا ما طلب العفو التام لم يُرفض. وربما كان الدافع هو رفع الروح المعنوية للمتهم بينه وبين نفسه فمازال في حظيرة الأمة وفي زمرة المؤمنين. والحكم على الأفعال تـُرجأ إلى يوم القيامة كما قال المرجئة قديما.
والسؤال هو هل القرآن هو المصحف؟ هل كلام الله هو الورق المجلد حتى ولو كان بأفخم الألوان وبالذهب وبالقطيفة؟ وهو ما يتهادى به الناس خاصة كبار المسئولين، ورجال الأعمال، وقادة الجيش وكأنه هو الذي سيزيد من الربح أو الذي يحفظ من الشر. خاصة لو قام المهدى إليه بتقبيله ورفعه إلى الجبهة ثلاث مرات، وزيّن به المجالس، ووضعه على الرف الخلفي للعربة ليحرسها من الحوادث الخلفية، وتعلقه السيدات على جيدها في حجم أصغر كي يحرسها من العين لو كانت جميلة أو يجذب الأزواج إليها لإيمانها. هل القرآن ستار على الأفعال وغطاء على ما يخالف الضمير والأخلاق كما هو الحال في شخصية الشيخ متلوف الذي يدعي الإيمان بذقنه وسبحته وهو فاسد من أعلى رأسه إلى إخمص قدميه. وفي هذه الحالة من يفعل ذلك يكون منافقا، يظهر غير ما يبطن، ويقول ما لا يفعل. بالإضافة إلى أنه وقوع في الخرافة أن المصحف ينقذ من الشر. يعلق في الأحجبة. ويكتب على أوراق تبل في الماء ويشرب بعدها للشفاء من الأمراض. وفي الفقه القديم باب الشفاء بالقرآن. فمن له مثل هذا الإيمان الشعبي مع الناس بالخرافات والخزعبلات فكيف له أن يسرق المال العام؟ ومن يقوم بمثل هذا التبرك بالقرآن كيف يتهم بتهريب الأموال؟ ومن له مثل هذا الوجه من الجدية والصرامة كيف يرتشي ويتلاعب بأراضي الدولة ويأخذ العمولات على الموافقة على كل المشاريع الاقتصادية؟ وكيف تجرؤ النيابة العامة على توجيه الاتهامات على من يمسك بالقرآن بيديه خلف ظهره وكأنهما مقيدتان به بدلا من القيد الحديدي في أيادي المتهمين العاديين؟ واليد الممسكة بالقرآن لا تسرق، ولا تمتد إلى المال الحرام. وليس هناك أفضل من البداهة لإقناع البسطاء الذين قاموا بالثورة وقلبوه من وريث إلى سجين.
السرقة حتى ولو كانت بالمليارات ليست شيئا أمام القرآن. المسروقات يمكن أن تـُعاد في نطاق المصالحة بين المتهم والدولة. بل إن الاعتراف بالسرقة وارد في مقابل الإفراج عن المتهم، كفاه عاما سجنا. بل إن التوبة واردة على يد شيخ أو شيخ المشايخ أو أحد رؤساء الطرق الصوفية أو أمام شيخ الجامع الأزهر نفسه أمام الإعلام حتى يعود بريئا من كل ذنب كما ولدته أمه. والله يغفر الذنوب جميعا. بل إن ما تبقى من ماله الخاص يبني به مسجدا باسمه كصدقة جارية. بل هو مستعد لأن يقيم مؤسسة لرعاية الأيتام باسمه تكفيرا عما سلبه من أموال المحرومين وثروة البلاد. ولو عرف السارق، وربما يعرف، أن مضمون القرآن ضده. وعقوبة السرقة قطع اليد حتى ولو كان الوريث والله لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها . فالقرآن ليس هو المصحف الورقي بل هي الأحكام الشرعية المتضمنة فيه. به أحكام خيانة الأمانة العامة، الأمانة في الأموال. وبه أحكام ضد اعتقال الناس وتعذيبهم حتى الموت. وبه أحكام ضد التوريث لأن الأمر شورى بين المسلمين وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ ، وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ . والذي يتولى الولاية العامة هو آخر من يأكل ويشرب ويلبس ويسكن بعد أن يكون ذلك قد تحقق لعامة المسلمين. القرآن ضد الفساد والاستغلال والرشوة والعمولة وأخذ الأموال بغير حق وتهريبها إلى الخارج. القرآن ضد من له تسع وتسعون نعجة ويريد أن يضم نعجة أخيه الوحيدة إليه. فالاستغلال ليس له حدود. والطمع ليس له نهاية. كان أحد مصادر القهر السياسي. بل إنه كان الحاكم الفعلي للبلاد تمهيدا لإعلانه كذلك إذا ما تنازل الأب أو مرض أو جاء أجله. يضغط على الأب ويطيع الأم التي تود أن تكون زوجة الرئيس السابق وأم الرئيس القادم، أم الرئيسين مثل أم المصريين أو السيدة الأولى.
إن الحضور إلى قفص الاتهام واليدان ممسكتان بالمصحف من البداية إلى النهاية، من أول الجلسة إلى آخرها تدنيس للمصحف، وتدليس على الناس، وخداع للقضاة، وتمويه على النفس. وقد يأتي متهم آخر في قفص الاتهام بسبحة بين يديه. يتمتم بشفتيه آيات من القرآن بأن يحفظه الله من كل شر. يعلن إيمانه للناس. يفعل كما يفعلون. وقد يقوم بأداء الصلاة إذا حان موعدها. فالصلاة كتاب موقوت على كل مؤمن ومؤمنة. على الوجوه علامة الجد وصلابة الإيمان. والرئيس المخلوع يدخل القفص على سرير متحرك بعد أن ينزل من الطائرة المروحية ويدخل سيارة الإسعاف. ويستعطف بالشعر وبكبر السن وبحرب أكتوبر. ويتلو الآيات المختارة بعناية من محاميه القدير رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ . فيشيع في جو المحكمة روح التسامح والعفو. وتبرز المصالحة بين الدولة والمتهمين جاهزة، رد مئات المليارات من أموال مصر المنهوبة في مقابل الإفراج عنهم. تحل أزمة مصر الحالية. وهو أنفع لها من عقاب المتهمين اعتمادا على المثل الشعبي اللي فات مات . يكفي قراءة يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ . إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ .
/5/2012 Issue 4194 – Date 8 Azzaman International Newspape
جريدة الزمان الدولية العدد 4194 التاريخ 8»5»2012
AZP07