القاص العراقي نجمان ياسين لـ الزمان أنا صديق النهر والفقراء والمبدعين
حاوره تلفازياًً فخري فاضل
كتبه عمر حماد هلال
شجرة كبيرة من العطاء والإبداع، تفيأ ظلالها الكثيرون من طلبة الأدب والثقافة والفكر والفن في العراق.. منشغل مؤرق دائماً من لظى عشقه المحرق للأدب والمعرفة، قصة ورواية وشعراً وتأريخاً، يستمد شعوراً مزمناً بالهيام بكل ما هو جميل ورائع عبر ذاكرة فذة سجلت حضورها الراسخ في جغرافية حركة الثقافة والإبداع على مستوى الوطن العربي.
وصف بأنه مثقف عراقي كبير، وأديب بارز ومؤرخ لامع مجدد، وأنه رمز للوفاء والطيبة والصدق والإخلاص.
وقيل عنه إنه إنسان مملوء عطاء ً ومتقد إبداعاً، وموسوعة ثقافية وشعلة ذكاء.
ذاك هو نجمان ياسين. والحوار الذي ننشره مع نجمان ياسين، جزء من حوار موسع كان أجراه معه الفنان فخري فاضل لقناة، الفضائية الموصلية، وقد قام بتحريره وكتابته الشاعر عمر حماد هلال، مركزاً على الجوهري الذي ينير عالم إبداع نجمان ياسين، ويكشف عن رؤيته الإبداعية والفكرية التي إتسمت بالثراء والتنوع وخصوبة المنجز المميز له.
ماذا يشكل نهر دجلة لك، وما علاقتك به؟
النهر بالنسبة لي، يعني نفسي، وجهي، صوتي، ويعني جذري الأول، والمصبات الفاتنة التي أرنو إليها كي أصل مدن الجمال.
في الأسطورة اليونانية، وفي إحدى معجزات ــ هرقل ــ يواجه أحد التيتان من العمالقة، وكلما صرعه ــ هرقل ــ وألقاه أرضاً، إستمد العملاق قوة إضافية من الأرض…. أنا أشبه ذلك العملاق، ولكني أستمد قوتي من النهر.
النهر ملاذي وجسر الخلاص، وهو يشكل حالة حضور باذخ في كتاباتي، وقد إنتبه أكثر من ناقد إلى أن أغلب قصصي ورواياتي وقصائدي تستحضر النهر بأشكال عدة ورموز كثيرة.
قبل أيام، عشت تجربة روحية ونفسية مركبة وشائكة نتيجة خيانة من افترضت أنه صديق، ولم أجد ملاذاً أكبر من النهر ليمتص همومي، فأنا كلما هطل الثلج الأسود على روحي وغمر قلبي، ألوذ بالنهر لأسترد روحي من جديد.
أحس أنني أعرف طقوس النهر ومنذ طفولتي كنت سباحاً ماهراً أمتلك طاقة خاصة من حيث علاقتي بالنهر، كنت أسبح في شهر آذار وأصدقائي وهم أحياء، يعرفون ذلك، فقد كنا منذ خمسين سنة مضت، نسبح من منطقة الرشيدية إلى الجسر القديم،من دون أن نأخذ معنا أية عدة مساعدة في السباحة، فعلاقتي مع النهر روحية فكلما دهم السخام روحي، وكلما نث الرماد على أعماقي، أنفض روحي وأسترد ذلك القميص الأبيض الجميل الذي هو نفسي، كي أطأ وأسحق الغدر والخيانة والتواطؤ وكل النذالات والتفاهات والسخافات التي تورثني القلق، وربما يصل الأمر أن أجدني وقد أرتفع ضغط دمي.
إن النهر يقدم لي، ينابيع الفتنة، وينابيع الدهشة والإبداع، وبدوري أحسن العلاقة مع النهر، ولعلي أدرك بحدسي الداخلي وبنوع من الإستبطان، زمن فيضان النهر، وأعرف طقوسه ومتى يتغير وينقلب لونه، وأين يرق ويصفو، وأين يتعكر مزاجه، وأعرف أين أجد عمقه، وأعرف أين أجده غير عميق.. إنها حياة كاملة عشتها مع النهر ومع طقوس صيد الأسماك والصيادين، وعالم ــ الجمّاسة ــ وغير ذلك من متممات العلاقة مع النهر، فالنهر صديقي الأول والأخير، وهو وجهي، والقراء يذكرون أن مجموعة قصصية لي قد حملت عنوان، ذلك النهر الغريب،
عشت طويلاً قرب النهر، من تغير الإنسان أم النهر؟
النهر لا يتغير، لا يكف عن الجريان، إنه كائن يعدو بلا قدمين.. البيئة تتغير، المكان يتغير، وديان النهر ومساراته تتغير، أما النهر فلا يتغير، إنه يعلمنا الحكمة والدهشة والجنون، ويدعونا لمخاصرة جنيات الماء والرقص مع سحر الأعماق.
أنت تحول كل أزمة تلازمك إلى إبداع، فكيف يتم تعاملك مع الأزمات؟
سؤال ذكي ودقيق، فأنا بالتأكيد، أحول كل أزمة إلى إبداع ولا أريد للأزمة أن تأخذني إلى الهاوية أو الاستسلام، وأنا مؤمن بمقولة إرنست همنغواي ، من الممكن تحطيم الإنسان، ولكن ليس من الممكن هزيمته، فمن الممكن أن يخسر الإنسان معركة، ولكن لا ينبغي له أن ينهزم، وليفكر بمعارك أخرى قادمة.
الأزمات تثير وتذكي جذوة الإبداع في زهرة قلبي وتجعلني أشتعل بالخلق والمعرفة، وأنكفئ على عالمي الداخلي وأستبطن أعماقي لكي أصنع وأولد الكتب والنتاج الذي يتجاوز الأزمة.
لقد أصبت بسرطان الغدة الدرقية، وكان أن كتبت، غزال الحب والموت، كي أحول تجربتي مع المرض إلى إبداع، لا بل أردت أن أسجن الموت في قفص، صادقت الموت وآخيته وأصبح أليفاً بالنسبة لي، إن لم أقل تركته وراء ظهري، كان بعض الأطباء يتوقعون أن أرحل عن الدنيا خلال أشهر، ولكن ولله عظيم الحمد، مضت 25 سنة، وبقيت أقاتل الأزمات وأقارعها.
الحروب قرضت عمري، وتجارب الغدر والدسائس من الصغار وناكري الجميل، ومن المخنثين الذين إستفزوا المارد في داخلي، هي الأخرى أثرت على تجربتي الإبداعية والمعرفية، لقد كتبت رواية ــ حجابات الفاو ــ أثر حصاري وبعض زملائي في مملحة الفاو وفي منطقة الحجابات عام 1986، وكتبت رواية ــ شظايا قلب ــ عام 2002 م، لتحكي لوعة وطيبة وغرور قلبي في عالم يفتقد التوازن، لأنتقل وأكتب رواية ــ موسيقى سوداء ــ عام 2004 م، لتؤرخ لتجربة احتلال العراق ومعاناتي وعذاباتي في سجون الأمريكان، ناهيك عن أن كل ما كتبته من قصص، يصدر عن معاناة ويرسم صبوات وروح إنسان لا يكتب إلا ّ عما يعرف ويعيش، ولي أن أقول إنني أنجز حالياً مجموعة قصص تحمل عنوان، أخبار الساقطين، أريد أن تكون وثيقة إبداع، تكشف وتفضح وتدين فنياً، السقوط النفسي والروحي والأخلاقي والاجتماعي والسياسي وغير ذلك من متممات السقوط المرتبطة مع بعضها عبر وشائج سرية، لنماذج بشرية اختزلت الإنسان إلى كائن أشبه ما يكون بأنبوب يمتد من المطبخ إلى حفرة المياه الثقيلة الآسنة
أجل، أحول كل أزمة أعيشها، سواء كانت شخصية ذاتية، أم كانت موضوعية ــ إلى نتاج إبداعي.
هذا يعني أن الأزمات جعلتك تكتب وتبدع؟
أنا أشكر حسادي ولا أقول أعدائي، فليس لديّ أعداء في معركة الفن والإبداع، وإلى هذا فأنا لا أتطير على الإطلاق من الحاسدين لأني أعرف قدراتي وتميزي، وما لدي يكفيني ويفيض عن حاجة مبدع، ولي أن أشكر جميع الذين حاولوا أن يحاصروا العملاق في أعماقي والذي هو عصي على قمقم سليمان ــ ع ــ وأسألهم هل بمقدور أي كان أن يسجن نور العقل ونبض القلب؟
يظهر الموروث الشعبي في قصصك بشكل جلي، فمن أي كنز أو منجم تستمد هذا الموروث الخصيب؟
أنا كاتب محلي، أنطلق من المحلية إلى العالم، وأنا مغرم حد العشق والفناء بالموصل، بدءاً من المحلة، مروراً بالمحلات والأحياء الأخرى والناس البسطاء المعذبين. والمكان يظهر في أعمالي الإبداعية بقوة، ويفصح عن عبقريته، وقد قمت أكثر من مرة باكتشاف الموصل والدخول إلى أزقتها، زقاقاً زقاقاً، ومحلة محلة، لأتعرف على الجوامع والمساجد والأديرة والكنائس، والأضرحة ومراقد الأنبياء والأولياء، وأعرف أن مدينتي خصيبة بالموروث الشعبي، وقد جعلني تكويني الفئوي والاجتماعي، أعيش في بيئة شعبية، فقد عشت في محلة، الشيخ فتحي، ومحلة ،دكة بركة، و، الميدان، وفي، الشهوان، وهذه الأماكن غنية بالموروث الشعبي والبطولات الإنسانية ومترعة بالحكايات والأمثال الشعبية وألعاب الأطفال وأغانيهم الجميلة العذبة، وهذه الأغاني منقوشة في روحي ولم تغادر ذاكرتي، إن الفنان الصادق يستطيع أن يصل من خلال عبقرية المكان وبساطته المحلية إلى العالم أجمع، وأتذكر أن الشاعر الداغستاني رسول حمزاتوف، عاش في بلد صغير أشبه ما يكون بقرية،و استطاع أن يكتب عنها كتابه العظيم، داغستان بلدي، لينتشر في كل بقاع الأرض ويبرهن أن المحلية هي الطريق الأمثل للعالمية.
نحن نتعلم من كبار المبدعين، ونتعلم من البيئة، البيئة، كانت المدرس الأول لي، وتعلمت من جدتي، وجدي الصوفي ملا فهمي بن ملا سعيد النقشبندي الذي كان صوفياً يؤلف ويكتب بقلم القصب وهو جدي لأمي، أما جدي لأبي، فقد كان أمياً، وكان فارساًو كبير قومه، وقد إنحدر من الخابور في سوريا إلى أعالي المياه في مناطق زمار قبل أن تغمرها مياه سد الموصل، وحبي للماء والنهر يقترن بجدي وأعمامي وطفولتي.. أذكر تأثير القرية التي سكنها جدي وأعمامي، وهيامي بقيادة،الجرجر، وأغاني الحصاد، والفجر المبكر المقترن بصياح ألديكة ويقظة الماشية، وقد قضيت الليالي على سطوح الأكواخ الطينية وسبحت في النهر وامتطيت الخيول، وقاتلت وصارعت صبيان القرية الأشداء، وإذا أتيح لك أن تلتقي بعض أعمامي من سكان القرية، فسيقولون لك هذا الفتى، كان متوثباً منذ صباه، وكان يمتلك قلب ذئب.
كتبت عن المناطق الشعبية، فما هي صورة الإنسان في قصصك؟
كتبت عن الإنسان المعذب، وعن البؤساء والمعزولين المنفيين وكتبت أخيراً عن مجانين المدينة في موصلنا العذبة، ولعلي في بحث متواصل عن النماذج الاستثنائية، فكاتب القصة القصيرة، معني بالإنسان المهمش، إنسان الأقبية المعتمة، وإنسان الخانات، وإنسان المناطق النائية، إنسان الجبال المنقطعة وإنسان الصحراء الشاسعة المعزولة، ولنتذكر الإنسان المهجور المتعب، وسنبصره في قصص ادغار الان بو الذي بوأ إنسان القصة عنده القلق والفزع من غرائبية الوجود ولا معقوليته، وقصص موباسان التي حكت عذابات نسائه المتعبات المنزويات مع أمراضهن العصية من بائعات الهوى، كذلك يوقفنا أنطوان تشيخوف وغوغول أمام الموظف الصغير المنسحق، بينما كان كامو في، المنفى والملكوت، يجسد عزلة ونفي بطله.
أبطال قصصي من المهمشين، المنفيين، القابعين في عزلتهم وأماكنهم التي لا ينوشها الضوء، مع ملاحظة أنني أولي عناية لإشكالية الإصطدام الحضاري بين الشرق والغرب من خلال قصص، رائحة التفاح، التي رسمت عوالم نساء عذبات، معذبات، محترقات بنار الحب والوحدة.
إقليعات، الموصل، ماذا تمثل عندك؟
سأحكي لك حكاية صغيرة، تريك ماذا تعني إقليعات بالنسبة لي، فقبل شهرين أخذت ابنتي الوسطى إلى بيت أعمامها لأداء واجب اجتماعي، وبعد أن انتهينا من ذلك، قلت ُ لها تعالي معي لأريك ِ بعض مراتع طفولتي. أخذتها إلى حديقة بيت توحلة، التي تحولت اليوم إلى مرآب للسيارات، وكانت واحدة من أجمل حدائق الموصل، وأخذتها إلى منطقة، الشهوان، وصعدت معها عشرات الدرجات من منطقة، الشهوان، لأصل معها إلى إقليعات التي أسميها مركز الدنيا، وأسمي السماء فيها سجادة مغزولة من النجوم، ومن إقليعات إتصلت ُ هاتفياً بزوجتي وسألتها هل تعرفين من أي مكان أهاتفك؟
فقالت والله لا أعرف.
قلت لها أنا مع إبنتنا فوز نتحدث معك من إقليعات.
فقالت لا أستغرب، فأنت مسكون بطفولتك
وقبل أن نكون في إقليعات، أريت إبنتي، أين كنت أصطاد السمك، ومن أين أرمي نفسي في النهر، وعرفتها ببعض الشخصيات المقعدة والمهمشة والبائسة والفقيرة، وكان منهم من يعرفني، بينما كان بعضهم لا يتعرف على ملامحي الجديدة بحكم تقدم السن، وعندما كنت أذكرهم من أنا وأذكر لهم أسماء أفراد عائلتي، كانوا يهرعون لاحتضاني ويحتفون بي بطريقتهم الخاصة، وفي أعالي إقليعات، تقدم منا صاحب محل للنجارة وقال لي لقد خدمت المدينة والموصل، وأنت إبن بار لها. وقدم لنا شاياً ورغيف خبز أخرج للتو من التنور.
وعدت بابنتي إلى، بيت النجدي، الذي يشغله، بيت المقام العراقي، حالياً ثم ذهبنا إلى، السماكة، حيث يباع السمك، وأريتها في، الميدان، دكان أبي القديم، فأنا أحرص أن يتشبع أولادي بروح البيئة والمكان، لأن أولادي أصدقائي.
إقليعات جزء من روحي، في كل شهر أذهب لأبصرها، هي وــ الشيخ فتحي ــ والمناطق القديمة من الموصل، لأضيع نفسي في الأزقة، فأنا ابن المكان والبيئة معلمي الأول.
من أين أخذت روح الحكواتي وسحر الحكي في قصصك؟
جدتي لأمي، كانت تمتلك خزيناً هائلاً من أمثال الموصل الشعبية، وكانت شاعرة بالفطرة، وخالتي كانت ماهرة في رواية الحكايات، وامرأة خالي كانت مدهشة في عرض الحكايات، وقد تشبعت بروح الحكاية وسحرها وجاذبيتها عن طريقهن.
لك أن تعرف أنّ جدي لأمي، كان يعرف القراءة والكتابة، ووصل خالي إلى الرابع الابتدائي، أما بقية أفراد أسرتي، فكانوا أميين كلياً إذ لا يوجد من أسرتي لأمي ولأبي ــ إبّان نشأتي ــ من يقرأ ويكتب، أو من حصل على شهادة على الإطلاق، وأنت تفهم أنني نبتة خاصة وطفرة وراثية، وقد إعتاد بعض أخوتي الذين أتيح لهم الحصول على شهادات جامعية فيما بعد، أن يقولوا لي
ــ لقد إستوليت على كل حظوظ عشيرتنا
أنت محب لكل أصدقائك، وتجمعهم في كل المناسبات، سواء في اتحاد الأدباء من قبل، أو في بيتك، أو أماكن أخرى، لتخدم الجميع.. هذه الطيبة لديك من أين جاءت؟ وهذه البساطة والعفوية في التعامل من أين جاءتا، أقول هذا وأنا أعرف أنك قد تبوأت العديد من المناصب العالية، ولم تتغير حيث بقيت بسيطاً متواضعاً؟
الإنسان الذي يمتلك عينين جميلتين مدركتين يبصر الجميل جميلاً في عينيه، فهو ينطلق من المحبة، والمحبة تقترن بالمعرفة، فنحن نحب الأشياء بعد أن نعرفها وليس لنا أن نحب شيئاً إلا ّ بعد معرفته.. قد نكتشف في بعض الأحيان، أننا أخطأنا في محبة هذا أو ذاك الكائن، وهنا نهمله ونكفر بخطيئة الوقوع في إثم خداع الحواس.
كان والدي الراحل، طيب القلب بطريقة تثير العجب، وهو الذي أودع طيبة القلب في أعماقي، وكانت أمي الراحلة إنسانة مرهفة، طيبة لا تعرف أن تتحدث عن أحد بسوء ولا تلفظ كلمة نابية إطلاقاً كانت أمي لا تنتسب إلى هذا الزمن، وقد رحلت عنا بعد عيد الأضحى بيوم واحد، رحيلاً سلساً، وكانت طيبة جداً وممتلئة بالحنان ومحبة الناس، ولم تكن تحسن عد ّ النقود، ولم تنزل طوال حياتها إلى، السرجخانة، ولم تطلب لا مني ولا من أخوتي، شيئاً مادياً على الإطلاق
وها أنت تعرف الآن من أين أستمد طيبتي.
إن كنز الإنسان يتمثل في محبة الآخرين له ومحبته لهم، وأنت تحب الناس ويحبونك إذا كانت الثقة راسخة بين الطرفين، إما إذا فقدت الثقة بكائن معين، فذاك هو الجحيم، وأنا أقول باعتزاز وأصدقائي يعرفون ذلك،إنني كنت وسأظل أسعى بالخير لأصدقائي قبل أن أسعى به لنفسي.
أنا أعرف أن صديقك صديق، وأنك طيب ومتسامح، وتُستَغل من قبل بعض ناكري الجميل ممن يدعون الصداقة، وأعرف أنك عنيد وحاسم، فأنت تتخذ مواقف حاسمة في هكذا أمور سيما عندما تحس بالغدر واللؤم فتبتر العلاقة ولا تؤذي أحداً. ماذا تقول بهذا الشأن؟
صديقي هو الصدوق، وصديقي هو الصدق، فأنا لا أحب الكذب والمراوغة والمخاتلة، قد أغفر لإنسان لمرة أو لمرتين وأمنحه الفرصة حينما يخدعني ولكن عندما أفقد الثقة به وأتأكد من عدم قدرته على أن يكون مستقيماً، أهمله وأخرجه من حياتي،ولا ألحق به أي ضرر إحتراماً للعشرة بيني وبينه ولتاريخنا المشترك، سلطته في الحفاظ على الذكريات
هناك كثير من الطارئين في حياتي إدعوّا أنهم أصدقائي، وأرادوا أن يسرقوا شيئاً من ضوئي والإفادة من علاقاتي الإنسانية الواسعة، وعندما اكتشف هؤلاء الدخلاء، أنزعهم من قلبي، وهناك مشكلة في قلب نجمان ياسين، وقد كتبت عن هذا القلب رواية ــ شظايا قلب ــ وحاكمته فهو قلب لا يرتدع ولا يرعوي ويوقعني في مصيدة الجاحدين، والمشكلة أنه كثير النسيان لأخطاء وخطايا الآخرين، وأنا أعرف قلبي جيداً واستوعب عقلياً سوء الآخرين،ولكنني رقيق عاطفياً وروحياً وسرعان ما أهرع لمساعدة وعون من سدد لي الطعنات.
أنا لا أستطيع أن ألحق أذى ً بأحد، ولا أرد سائلاً، ولو استغاث بي إنسان أساء لي من قبل، لن أستطيع رده، بل أسارع لنجدته، فتلك سمة قلبي.
عملت في العديد من المفاصل الفكرية والثقافية والقيادية، وما كنت إلا ذلك الإنسان الذي يسعى لخدمة الآخرين ويقدم لهم روحه المسفوحة.. ولكن عندما أصل إلى فقدان الثقة بإنسان، تنتهي علاقتي به كلياً، وتجدني مؤمناً بقول شاعرنا القديم
إذا انصرفت نفسي عن الشيء لم تكن إليه بود آخر الدهر تقبل
يقال عنك أنت شخصية عامة، وكثيراً ما تكون الشخصية العامة مستهدفة من قبل الآخرين. كيف تنظر إلى هذا الموضوع؟
هذا صحيح، ولا أتطيّر من الحسد والغيرة، فليس لديّ أعداء، لدي ّ حساد، وأنا أعرف أن الجبال تؤاخي بعضها وأغلب أصدقائي من المبدعين الكبار، وهم يحبونني ويغنون لي ويكتبون عني قصائد،ويحتضنون قلبي، ويتألمون لألمي، ويفرحون لفرحي، ولا عقدة عندهم في التعامل معي.. كل العمالقة والعباقرة والمثقفين الكبار أصدقائي لأنهم صنوي.. ما لديّ من موهبة يكفيني، وكلما زاد حسّادي زاد إبداعي، فالرد على الصغار والأقزام يتم باستنهاض جبل النور والإبداع في روحي .
هل أنت مع جمهورية النساء؟
لعلي لا أؤمن بالمساواة بين المرأة والرجل، بل أؤمن بالموازاة، بمعنى أن تكون المرأة بموازاة الرجل كي لا تلغي أنوثتها وتهدد رجولة الرجل، يعني أن المرأة يجب أن تتكافأ مع الرجل وتوازيه، وقيمة كل فنان ومثقف ومفكر، تتحدد من خلال موقفه من المرأة، إذا كان موقفه متخلفاً فلن ينتج إبداعاً، ويكفي المرأة أنها تحافظ على بقاء النوع البشري، وهي أكثر قدرة من الرجل على العطاء، وإلى هذا فالرجل يتوفر على الكثير من الأنانية، أما المرأة فهي موئل وكنز ومنجم التضحية. كان الفيلسوف العظيم ابن رشد، قد ذهب إلى أن سبب بؤس المدن أن النساء لا يعملن، وكانت هناك دعوات كثيرة من أنبياء وفلاسفة وقديسين وثوار ومصلحين وأدباء ومبدعين، تدعو لتحرير المرأة، ولكن الظروف الموضوعية لم تكن مواتية، وفي أعقاب الثورة الصناعية، صارت الظروف مناسبة إذ دخلت المرأة إلى العمل وبدأت تمتلك إنسانيتها وشرعت في التحرر الاقتصادي الذي أتاح لها الحرية فكان لها أن أبدعت في شتى العلوم والفنون والمعارف ثمة من يفرق بين طبيعة المرأة وطبيعة الرجل، ولعل الصحيح أن نقول بوجود فرق في الدرجة وليس في الطبيعة، ولنا أن نشير إلى أن بعض الدراسات الحديثة تذهب إلى أن الأولاد يرثون الذكاء من أمهم، أكثر مما يرثونه من أبيهم.. يكفي أن تلهمنا المرأة، القدرة على الخلق ِ والإبداع، وتتحمل نزواتنا وحماقاتنا، نحن معشر الرجال، ويكفي أن تكون المرأة رمزاً للعطاء والتضحية في مجتمعنا الشرقي الذي لا تعيش المرأة فيه لنفسها، فهي تعيش لإسعاد الآخرين وهي تعمل لأبيها وأخيها الأصغر، وتعيش من أجلهما، وتعيش لأمها وأبيها، وعندما تتزوج تفني ذاتها لتعيش من أجل زوجها، ثم تلد الأولاد وتحقق ذاتها فيهم وتعيش من أجلهم، فهي عنصر عطاء وبذل، ناهيك عن أنها كيان مليء بالخصوبة، وحقاً أن الحضارة أنثى وكل ما هو حضاري أنثوي، وحقاً أنه، لولا المرأة والبحر لأصابنا الجفاف،.
من أين جاءت فكرة اللجنة الإستشارية التي رأستها في الموصل؟
أنا من إقترح فكرة تشكيل اللجنة الإستشارية، فهنالك بيوت الثقافة في مصر، وهنالك دور الثقافة وبيوتها في العديد من الأقطار العربية، فلم لا يكون لنا في العراق لجان استشارية، تجمع جميع المؤسسات الثقافية وتحقق التناسق بينها، وقد توليت رئاسة اللجنة الاستشارية للثقافة والفنون في الموصل لعدة سنوات، ثم رأسها الشاعر الكبير معد الجبوري، ومن خلال اللجنة الاستشارية، إنبثقت فكرة إقامة مهرجان الحضر الدولي الأول، وأنا من اقترح فكرة إقامته، وإلى هذا ابتكرنا احتفالية تكريم المبدعين بإسم، يوم المبدع، وكرمنا الرائد المبدع الراحل نجيب يونس، والرائد الكبير يوسف ذنون، المبدع الراحل محمود جنداري، والمؤرخ الكبير الراحل سعيد الديوه جي، والموسيقار الفذ أكرم حبيب، وغيرهم من رموز الإبداع الموصلي، فضلاً عن تنظيم ندوة واحتفالية الملا عثمان الموصلي.
كيف أثرت تجربتك في العيش في لندن، لسنوات عدة، في رؤيتك الفكرية والإبداعية؟
ج أستطيع أن أقول وبكثير من الطمأنينة، إنني أحد القراء الجادين للثقافة العالمية والآداب العالمية، ومن ضمن ذلك، كان لي قراءاتي في الثقافة البريطانية، ومن قبل كنت أقرأ عن كتاب ومسرحيين وفنانين وسينمائيين وشعراء و أدباء، هذا على مستوى القراءة.. أما على مستوى المعايشة والتجربة، فقد أتاحت لي لندن التعرف على أعمال عظيمة في شتى الفنون، فلندن تختصر الكرة الأرضية في العلوم والمعارف والفنون والآداب.
في لندن، كتبت أكثر من خمسمائة مقالة ونشرتها في مجلتي،الدستور وفنون، وبعد أن كنت أقرأ عن النحات العظيم هنري مور، إستطعت أن أبصر أعماله في، الهايد بارك، بلندن، حيث عرض أكثر من مائتي عملاً عملاقاً، وكان الأطفال يتسلقون هذه الأعمال، وأنا ألمسها بيدي وأعاينها بعيني، وقد لاحظت تأثر مور بالفن العراقي القديم والآشوري تحديداً، وأتيح لي أن أشاهد أعمال جياكوميتي وإنسانه الشبيه بالصرصار، أن أقف أمام أعمال بيكاسو الحية في مراحل إبداعه الثرية في تيت كاليري، وبهرني رينوار بنسائه الشامخات العذبات المتألقات تحت ألوانه الإنطباعية، تلك الألوان التي غادرت كآبة ورتابة ونمطية القصور والعقل الكلاسيكي الجامد والطبقة الأرستقراطية البليدة، إلى طلاقة وحرية ضوء الطبيعة وسحر النهر والشمس والحقول، ناهيك عن أعمال تيرنر عن تحولات البحر وأسراره، وجنون سلفادور دالي في أعماله الجارحة المدهشة، فضلاً عن أعمال رمبرانت وروبنزوغويا وغيرهم التي سحرتني لوناً وموضوعاً وأثرت روحي. وأتاحت لي لندن، أن أرحل مع السينما العالمية، فقد شاهدت مجموعة كبيرة من الأفلام المذهلة مثل أفلام أورسون ويلز عطيل، الملك لير، المواطن كين، وأفلام أنطوني كوين، وأفلام فرانسوا تروفو عن الطفولة، تلك الأفلام جعلتني أمسك بسريات عالم الطفولة الذي يتكامل مع عالمي الذي شيدته عن الأطفال والطفولة من قبل في ــ ذلك النهر الغريب ــ كما أمكن لي أن أشاهد بعض مسرحيات مسرح الغضب التي كتبها جون اوزبورن، وهارولد بنتر، ومن الأمور الطريفة رؤيتي للفاتنة صوفيا لورين في حفل توقيع مذكراتها في مؤسسة باركر، كذلك مشاهدتي لعرض مسرحية ــ ثعالب صغيرة ــ من بطولة اليزابيث تايلور ذات العينين البنفسجيتين وكنت على بعد عدة أمتار من المسرح، كما التقيت فانيسيا ردغريف وحاورتها في المركز الثقافي العراقي بلندن، لقد كتبت ونشرت مئات المقالات عما رأيت من معارض وأفلام ومسرحيات وآداب، والمهم أنني كتبت عن تجربتي في لندن، مجموعتي القصصية رائحة التفاح التي تتحدث عن نساء لهن عذوبة وحزن تتجلى في تجربة الإصطدام الحضاري بعيداً عن شخصية، الكازانوفا والدون جوان، وليس كما فعل أكثر من أديب عربي ركز على نقل فتوحاته الغرامية، بل ركزت على إشكالية الصراع بين عقليتين متنافرتين حيناً، ومتكاملتين حيناً آخر، والبطل عندي هنا يخفق ويفشل في التواصل مرة، وينجح ويتناغم مرة أخرى وهو يحاول إمساك برق الأنوثة المتدثر برماد اختناقات اجتماعية ونفسية وروحية.
كنت رئيساً للإتحاد العام للأدباء في العراق للدورة 1996 ــ 1998، وشغلت موقع نائب الأمين العام للأدباء والكتاب العرب عام 1997 ــ 1998. فكيف كان العمل في الإتحاد في تلك السنوات الصعبة؟
عندما كان العراق محاصراً، لم تكن لدينا أي إتفاقية ثقافية مع أي دولة من دول العالم بما في ذلك الوطن العربي، وعندما استلمت رئاسة الإتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق 1996ــ 1998، أقمت علاقات مع جميع الدول العربية ــ باستثناء الكويت ــ وعقدت اتفاقيات ثقافية من خلال المحبة والحضور والوضوح، هذه الاتفاقيات التي عقدت خلال سنتين من عملي، لم يحققها الإتحاد خلال عشرين سنة سابقة، وإلى هذا عقدت اتفاقيات ثقافية مع روسيا وفرنسا والهند، وشهدت دورتنا في الإتحاد، كسر الحصار الثقافي إلى حد ما، فقد جلبنا عام 1997 عشرين طناً من الأدوية وخمسين طناً من الكتب، هدية من إتحاد الكتاب العرب بسوريا ومن إتحاد الكتاب اللبنانيين. وأسجل لنفسي، أني لم أقدم إلا ّ المحبة لكل أدباء وكتاب العراق على اختلاف مشاربهم وانتماءاتهم وقومياتهم وأديانهم، ولك أن تعرف أن أول محافظة زرتها واحتفت بي وكرمتني بعد استلامي رئاسة الإتحاد، كانت النجف الأشرف، وكنت أول من إفتتح مقراً للإتحاد في محافظة المثنى التي حرمت من ذلك خلال خمسين سنة.
جزء من حوار طويل
/8/2013 Issue 4483 – Date 15 Azzaman International Newspape
جريدة الزمان الدولية العدد 4483 التاريخ 15»8»2013
AZP09