الفيلم الوثائقي ملاكي … الوقت يحاصر ضحاياه
رسم الواقع بفرشاة حاذقة
محمد جبّار الربيعي
هل تقتصر وظيفة الفيلم الوثائقي علي تقديم المعلومة وطريقة طرح تلك المعلومة أم أن هناك أدواراً أكبر وأعمق لهذا النوع الخطير من أنواع الفيلم السينمائي؟ واذا كانت مهمته طرح المعلومة فبما يختلف عن التقرير والريبورتاج التلفزيوني المصور؟ واذا كان كذلك فأين مكان اللغة السينمائية ولماذا دخل هذا النوع من الأفلام عالم السينما اصلاً؟ حاصرتني هذه الاسئلة وأنا اتابع الفيلم الوثائقي اللبناني ملاكي للمخرج خليل زعرور الذي استخدم لغة سينمائية راقية مفعمة بالرمزية في إطار فيلم وثائقي إمتاز بميزة قد يفتقر اليها الكثير من الأفلام الوثائقية وهو متعة المشاهدة فنحن نعرف أن من أهم بل ومن ركائز السينما انها فضلاً عن كونها سلاحاً ثقافياً خطيراً يستطيع تغيير مجتمعات كاملة بأدواته المعروفة الا أنها في النهاية لاتستطيع أن تُبارح وظيفتها الرئيسية وهي الترفيه والمتعة، والفيلم لناجح علي مر الأزمان هو ذلك الفيلم الذي يقدم للمشاهد المعلومة والدرس المستقي من الحياة في إطار من التسلية والتشويق وهذا ماحققه فيلم “ملاكي” بإمتياز .
الماساة مكتوبة ثم مجسدة
يبدأ الفيلم بكلمات مكتوبة عن الحرب اللبنانية التي أودت بحياة 150 الف مواطن وفقدان 18 الف آخرين وأن هناك عوائل تحاول الحصول علي معلومات عن ذويهم المختطفين دون أن يجدوا مايشفي غليلهم لذلك عمدوا الي الاعتصام بنصب خيم صغيرة في حديقة عامة وهم يعتصمون منذ 5 سنوات دون أن يلتفت اليهم أحد ” ويبدو أن هذا الفيلم أخذ علي عاتقه هذه المهمة ” هنا المعلومة وصلت ويحير المُشاهد ماذا سيقدم المخرج بعد هذا،
ثم يستدرجنا نحو غابة جردها الخريف من أوراق أشجارها لتكون المدخل للفيلم لتبدأ المعتصمات بسرد حكاياتهن والبوح بآلامهن، يتناول الفيلم حكايات ست نساء فقدن أحباءهن لينتقي نماذج، فمنهن سيدة فقدت والدها وأخري فقدت زوجها أما البقية ففقدن أبناءهن ، والمخرج وضع لكل منهن بيئة خاصة تُعبِّر عن مكنوناتها بما يناسب حالتها ووضعها النفسي فمنهن من وضعها في مكان فارغ مقفر وثانية في غابة جرداء وثالثة علي البحر واُخري في مكان يغطيه الجليد وخامسة في محطة قطار مهجورة وهكذا، و درس بالتاكيد هذه الأماكن بعناية فائقة ليعبر المكان عن مكنونات كل واحدة منهن فمثلاً السيدة التي كانت تفتقد زوجها كانت تجلس في مكان يغطيه الجليد وعلَّق أغراض زوجها وبدلته التي لم يلبسها منذ أكثر من عقدين في هذا المكان وهنا الرمزية واضحة جدا في أن الزوجة تفتقر الي الدفئ والحنان الذي يوفره الزوج لها وللبيت بشكل عام فهي تعيش جليد نفسي وافتقاد محموم لذلك الدفء العاطفي أما السيدة التي تنتظر والدها فكان جلوسها بقرب ارجوحة أطفال وعلي الأرجوحة تم تعليق أغراض الأب الغائب لأنها فقدت طفولتها بفقدان الأب فيما وضع احدي السيدات اللواتي فقدن أبناءهن في داخل أسلاك شائكة علي شكل دائري يحيط بها من كل الجهات تقترب من شكل القلب ورسم حول هذه الاسلاك دائرة تحيط بتلك الأسلاك ليحدد أرقام الساعة الرئيسية وهي 12،9،6،3وهي تجلس في الوسط بحيث يكون ظلها عقربا للساعة يتحرك كلما تحركت الشمس حوله تلك السيدة فهي ثابتة والوقت هو الذي يمر بها ويمضي لتتسمر هي في مكانها بأنتظار الابن .
ثيمة الوقت ولمسة الافتقاد
إشتغل المخرج في القصص التي تناولها علي ثيمة رئيسة تجمعن جميعاً وهي ثيمة الوقت الذي يمر بطيئاً ومثقلاً بمرارة الإنتظار فوضع في خلفية كل شخصياته ساعات صغيرة أو كبيرة وعلقها في أماكن خارجية ليست مناسبة لها كالشجرة أو الأرجوحة أو أعمدة نصبت في العراء لتحمل تلك الساعات كذلك رسم الساعات علي الجدران كما وضع أكثر من بندول وبأحجام مختلفة لتحاصر احدي الشخصيات وهكذا وهو هنا استثمر ثيمة الزمن للتعبير عن مكنونات النساء بالصورة فضلاً عن كلامهن عن تلك الدقائق والساعات والأيام والسنين التي تمر ولايحصلن الا علي الغياب، ثم قبل نهاية الفيلم يؤكد علي هذه الثيمة التي تجمعهن معا برمي أوراق “روزنامة “كُتب عليها أرقام الأيام التي مضت في الفراق وهي كثيرة تملأ كادر الكامير وتتلاطمها الرياح لتبعثرها في أرجاء الغابة المقفرة والمتخمة بالأشجار العارية من خضرتها، وهناك ثيمة اخري كررتها السيدات مع كل قصة وهي لمس الصور وملابس ومقتنيات المفقودين “حتي ان السيدة التي تفتقد زوجها تتلمس يد زوجها التي ظهرت علي شاشة العرض بعد أن شغلت فيلم قديم لهما معا ” فاللمس هنا صار معنوياً جدا فهن يلمسن بقايا مفقوديهن رغم أن تلك المقتنيات بعيدة كل البعد عن الحقيقة فهنّ لايلمسن سوي الأوراق والاقمشة التي طبعت عليها الصور لكن المخرج هنا حاول تكرار هذه الثيمة للمبالغة في تجسيد الافتقاد .
وثيقة خيالية
وخلافاً لما عهدناه في الفيلم الوثائقي في تصوير الواقع يُصرّ المخرج علي تصوير إنعاكسات خيالات بطلاته فمثلاً السيدة التي تنتظر والدها تقول إنها لم تشعر بالسعادة التي تشعر بها العروس عندما تزوجت بسبب غياب أبيها عن حفل الزفاف وتعود بذاكرتها الي يوم عرسها “رمزيا” وليس واقعيا فهي ترتدي في ليلة زفافها ثوبا أسود وتمسك بباقة ورد «العرائس» الباهتة الالوان ليطبع المخرج وضعها النفسي عند زفافها لدي المتفرج فيتماها مع احساسها بالالم ليشعر به هو، كذلك في مشهد عودة الابن الذي تخيلته أو حلمت به وهنا تم تصويره علي انه واقع فتتحدث الأم الي ابنها «الفراغ» في بعض اللقطات لتبث له آلآم الفراق ورتابة الانتظار وتصب له الطعام تماماً وكأنه حقيقة ولا أعتقد أن هناك فيلم صور الخيال والاحلام في فيلم وثائقي غير في هذا الفيلم فمخرج الفيلم الوثائقي يكون مقيداً بالواقع وتجسيد الاحداث التي حدثت بشكل مباشر محاولا محاكاة الواقع جهد إمكانه، في هذا الفيلم يكون جُلَّ جهده منصباً حول الفجيعة التي تكسو كل حياة بطلاته كي يتبني المتلقي موضوعهن ويسقط فجيعتهن علي نفسه فيشعر شعورهن وهذا تؤكده احدي السيدات بقولها ربما يسمع انسان عن شخص ما مفقود فيفكر فيقول لنفسه :”وماذا يعني؟ هو خطف مادخلي أنا بالموضوع مادام بعيدا عني؟ لكن هذا الأمر حصل معي “والكلام للسيدة” وخطف زوجي وكان بالامكان أن يحصل وحصل فعلا للآخرين ملمحة الي أن هذا كان من الممكن يحدث للمتفرج أيضا فعليه أن يشعر بها ولايكتفي بالتعاطف المؤقت معها والذي ينتهي بمجرد انتهاء عرض الفيلم لأن الموضوع سيكون يخصه حينها.
ثم يتناول الفيلم احدي السيدات اللواتي شاركن في الاعتصام وتوفيت خلاله دون أن تحصل علي جواب شاف عن مصير ابنها وهي تُدعي اوديت سالم وهي الوحيدة التي تم التركيز علي اسمها وذكره أكثر من مرة لانها غادرت الدنيا بحسرتها علي ولدها “وهذا قد يحصل للبقية ” إن لم يلتفت اليهن احد، يمتن في خيمهن وحيدات منكسرات هدَّهن الانتظار، يصور المخرج مراسيم دفن اوديت بشكل توثيقي لكنه لايغادر هاجس الرمزية كما فعل مع الأخريات فبعد مشهد الدفن تدخل وجبة الرمزية بتصوير سجن متحرك علي سيارة ليقوم احد الاشخاص بفتح باب هذا السجن لتنطلق روح اوديت التي عبر عنها بالتصوير من وجة نظر الكاميرا وكأن اوديت هي الكامير والتي بالنهاية تمثل وجهة نظر المتفرج ذاته، فلا يظهر منها سوي يديها لتتحرك نحو بيتها وتقلب صور ابنها الغائب لتتحسس تلك الصور واغراض ابنها المفقود ولتتحسس حتي صورها فهي تفتقد صورتها ايضا لانها كانت قد غادرتها منذ غادرها ولدها، ثم يعود الي الامهات وانطباعاتهن وخوفهن من أن يكون مصيرهن كمصير زميلتهن اوديت ليخاطبن السياسيين للتدخل لحل مشكلتهن فهم تقاتلوا واصطلحوا وبقي مصير الضحايا مجهولاً لتخرج الكاميرا في آخر مشهد من الفيلم كما دخلت منسحبة هذه المرة من الغابة الجرداء التي دخلتها، برعت السيدات في الاداء والكلام المؤثر الي درجة إن احداهن تجعلك تبكي رغماً عنك بينما تحدتث احداهن الي الكاميرا وكأنها تتحدث الي لدها في مشهد تخيلت فيه انه حضر اليها، كذلك برع المخرج في توظيف الرمزية للإرتقاء بالتأثير البصري الي اعلي مستوياته كذلك في إختيار شخصياته من حيث التنوع في انتمائهن الي الطوائف المتحاربة فتوزعت المأساة علي كل الطوائف لآن الجميع كان خاسرأ لدخوله تلك الحرب العبثية المؤلمة، عُرض الفيلم في مهرجان بغداد السينمائي ضمن مسابقة صورة انسان – أفلام حقوق الأنسان وحصل علي الجائزة الاولي عن جدارة لأنه يتميز بأنه لمسة تجديد مدروسة في عالم الفيلم الوثائقي.
/2/2012 Issue 4116 – Date 7- Azzaman International Newspape
جريدة «الزمان» الدولية – العدد 4116 – التاريخ 7/2/2012
AZP09