قصة قصيرة
الـزلَّـة
علي القاسمي
كان في بلدتنا الصغيرة بنّاءٌ وحيدٌ يدعونه “الأُسطا سليم”. و”الأُسطا” تحريفٌ لكلمة “الأُستاذ” بمعنى المعلِّم في مهنة ما. ولا يوجد ثمَّة بنّاءٌ غير الأُسطا سليم. فإذا قُدِّر لكَ أنْ تكون من أهالي بلدتنا، وحالفكَ الحظٌّ في امتلاك عرصةٍ أو قطعةِ أرضٍ تبتغي تعميرها، أو عزمتَ على توسيع داركَ، وإضافة بعض المرافق إليها، لتَّتسع لأفراد عائلتكَ المتناميّة، فلا مندوحة لكَ من الاستعانة بالأُسطا سليم.تتأهَّبُ لمقابلة الأُسطا سليم، وترسمُ ابتسامة استعطاف ودود على وجهكَ، وتعرض عليه الموضوع. وربّما تختتم عرضكَ قائلاً إنَّ اختياركَ وقع عليه (وأنت وأنا نعلم أنَّه لا خيار لك) لِما تجمّع له من كنوز الخبرة والدراية اللتَين لا نظير لهما، وما توافر فيه من بحور الأمانة والحماسة الفريدتَين في تاريخ البِناء والعمارة.
وبعد ذلك، لا ينبغي لك أنْ تتفوَّه بشيءٍ، وإنَّما تُجيب فقط عن سؤالٍ محدَّدٍ واحدٍ يطلقه عليكَ الأُسطا سليم، مثل رصاصة الرحمة وهو: “كم من المال لديك لهذا المشروع؟” وبعد أن تجيب باقتضاب على هذا السؤال، يتحتَّم عليك أن تظلَّ صامتًا، فلا يحقُّ لك مطلقًا أنْ تناقش ما يقوله الأُسطا سليم، لا فُضَّ فوه، كما أنصحكَ أن تُداري جميع انفعالاتك وتُخفيها وهو يتكلَّم، فلا يبدو على وجهك أيُّ أثرٍ لدهشةٍ أو استغرابٍ مهما تبدو لك غرابة بعض أقواله. وطبعًا، ناهيك عن الاعتراض على قراره الأخير أو حتّى رجائه مراجعته، فقرارات الأُسطا سليم أشبه ما تكون بأحكامِ المحكمة العليا غير القابلة للطعن أو الاستئناف أو التمييز. فالأُسطا سليم سيصمِّم خريطةَ البناء في ضوء خبراته المعمَّقة ومحتويات جيبك، وسيحدِّد سُمْك كلِّ جدارٍ خارجيٍّ وداخليٍّ، وينتقي مواد البناء، ويختار العمّال المياومين؛ ويقرِّر أجر كلِّ واحدٍ منهم، حسب مدى إخلاصه للأُسطا، لا حسب قدراته المهنيَّة؛ ويعيّن تواريخ بدء العمل وتوقُّفه واستئنافه وانتهائه، طبقاً لارتباطاته الأُخرى؛ ويفرض التكلفة الإجماليّة للبناء. يفعل كلَّ ذلك دون أن يستشيركَ بتاتًا، فهذه أمورٌ تقنيَّة لا يفقهها غير المتخصِّصين من أمثالكَ وأمثالي، ولا يحقُّ لهم الخوض فيها مطلقًا.
ولا أنصحكَ بوضع أيِّ قرار من قراراته موضع تساؤلٍ أو حتّى استفسار، لأنَّكَ قد تثير غضبه، خاصَّةً إذا كان مزاجه متعكِّراً في ذلك اليوم.
والويل لكَ إذا أغضبتَه، فتلك هي غلطة العمر، لأنَّه سيرفض مساعدتكَ رفضاً قاطعاً، وتظلُّ عرصتكَ أفرغ من فؤاد أم موسى.وإذا دهستك تلكَ المصيبة، فلا يمكنك الاستنجاد بأيِّ بنّاء آخر، لأنَّ الأُسطا سليم هو البنّاء الأوحد في بلدتنا. وجميع العُمّال، الذين ساقهم سوء طالعهم إلى العمل بإشرافه وفي خدمته مدَّةً طويلةً، لم يتعلَّموا شيئًا من أسرار المهنة، ولم يتدرّج فردٌ منهم في سُلّم المهنة ليصبح “خِلفة” (أي خليفة المعلِّم أو نائبه)، لا لضَعْفٍ في فطنتهم، ولا لفتور في رغبتهم، وإنَّما لأنَّ الأُسطا سليم ـــ بكلِّ بساطة وبكلِّ فجاجة ـــ كان يحرص أشدَّ الحرص على أن تظلَّ أساليب المهنة سرًّا من أقدس الأسرار، لا يبوح به لأحد، ولا يطَّلع عليه غيره. فاستعمال المتر، مثلًا، لقياس الأبعاد المختلفة، لا يجيده إلا الأُسطا، بل إنَّ المتر لا يغادر جيبه إلا لتمسك به يده الكريمة فقط، مثل الصولجان، بيد السلطان، في غابر الأزمان. والأمر ذاته ينطبق على الشاقول الذي يضبط بواسطته استقامةَ الجدران، وكذلك كيفيَّة وضع اللَّبِنَة أو الآجرة في موضعها وتثبيتها بالمطرقة. والويل والثبور للعامل الذي يتجرَّأ على أن يبصَّ للأُسطا سليم أو يسترق النظر إليه وهو يستعمل المتر أو الشاقول أو المطرقة، فعقابه معروفٌ معلومٌ لدى الجميع، وهو البقاء من غير عملٍ، والاضطرار إلى البحث عن حرفةٍ أُخرى.وقد عزا بعض العمّال المقرّبين من الأُسطا ذلك إلى أمورٍ روحيّةٍ أو أسطوريّة مفادها إخفاق الأُسطا في العمليَّة إذا وقعتْ عين أحدهم عليها، إذ إنّه سيحسد الأُسطا ويصيبه بالعَين حتّى إنْ لم يقصد ذلك، لأنَّه سينبهر بخفَّة يد الأُسطا ومهارته الفائقة؛ في حين تهامس عمّال آخرون من المشاغبين أَنَّ الأسطا ــــ على الرغم من ظاهر سطوته ـــــ فإنّه رعديد في أعماقه، فهو يخشى أن يتعلَّم أحدٌ ما أسرار المهنة فينافسه في سوقٍ ضعيفة الطلب، وأَنَّ دَخْل الأسطا متواضع لا يتناسب مع تكاليف المعيشة، مما يزيد من خشيته بروزَ منافس له في أواخر عمره.
وفي يومٍ من أيام الصيف القائظ، وقد أضحى الجوُّ حارًا خانقًا، والشمس لاهبةً لافحةً، والعَرق يتصبَّب من وجوه العمّال وأجسادهم، زلَّت قَدَم الأُسطا سليم، وهو يزاول عمله على سطح دارٍ رهن التشييد، فسقطَ إلى الأرض على ظهره، وأسرع إليه العمّال وحملوه إلى مستوصفِ البلدة، حيث أسعفه الطبيب بالإمكانات المتواضعة المتوافـرة لديه، وجبَّر له ساقه وظهره المكسورين، وطمأنه. ولكن بعد مدَّة، تأكَّد للطبيب أنَّ الأُسطا سليم سيصاب بشللٍ جزئيٍّ، ويظلُّ مُقْعدًا، ولا يمكنه مزاولة مهنته بعد ذلك.
وقد تضاربت الإشاعات حول ظروف سقوط الأسطا سليم من السطح، فقد زعم العمّال المُقرَّبون منه أنّه راح ضحية حرصه على الإسراع في إنجاز العمل في أقصر وقت وبأقلّ النفقات، إذ حاول أن يقفز من حائط إلى حائط آخر توفيرًا للوقت، فأخطأتْ قدمه الجدار وسقط، في حين ادّعى منتقدوه من العمّال المشاغبين أنَّ الأسطا استشاط غضبًا أفقده صوابه، بعد أن ضبط أحد العمّال وهو يسترق إليه النظر أثناء استعماله الشاقول. ومهما يكُن السبب الحقيقيّ لزلّة قدم الأسطا سليم، فإنَّ النتيجة المؤكَّدة هي أنَّ بلدتنا الصغيرة كُتِبَ عليها أن تظلَّ راكدةً بلا بناء ولا تعمير لرَدَحٍ طويلٍ من الزمن.