الغُربة والأسى في شعر أخماتوفا – ملاك أشرف

الغُربة والأسى في شعر أخماتوفا – ملاك أشرف

وأسيرُ حيثُ لا حاجةً بي لشيءٍ

حيثُ ظلّي وحدهُ.. أعزُّ رفيقِ طريقٍ لي

والرّيح تهبُّ من الحديقةِ المُقفرة

والدّرجة الباردة تحتَ قدمي!

كتبوا الكثير عن الشّاعرةِ الرّوسيّة آنا أخماتوفا وعندما أقولُ كتبوا أيّ وصفوا بشكلٍ مُفرطٍ تلكَ الغُربة ومرارة الوحدة، بإسهابٍ تكلّموا عن وحشتها وكربتها، عن الاتهمات الّتي اعترتها وعن المُحاربات الّتي طالتها، وكأنّهم تحدّثوا عن شاعرةٍ مألوفةٍ في كُلِّ بلدٍ! وأنا اليوم عندَ حديثي عنها يحيلني كُلُّ هذا إلى مَن كانَ يُشابهها من الشّواعر، المُتعرضات لنفسِ المنوال، الّذي لا يرغبُ بالتّطوّر والاختفاء، مُجرّد ثورات وتهجمات مُتبجّحة ونافجة، تواجهها الشّاعرة باستمرار؛ وما كانَ هذا إلّا لحزنها وشدّةِ ألمها وغُربتها فضلًا عن تجدّيدها وابتكارها لقديمِ عصرها المُتبع، وهل اختلفت أخماتوفا عن الغابرات أو اللّاحقات؟

بالطّبع لا، هُناك تشابهٌ من حيثُ التّجربة الشّعرية وكذلك الحياتيّة(أيّ اليوميّة المُعاشة)؛ لاتفاق المُجتمعات حينئذٍ على إنشادِ نفسِ الموال.

حيّنما نذكّرُ الغربةَ لا مناصَ من معرفةِ أنواعها ودرجة تفواتها بينَ الشّاعرةِ وغيرها من المُعاصرين، علينا الشّرح والإطناب عن حياةِ الشّاعرة أوّلًا؛ لكي نصلُ إلى سببِ كتابة النّصوص الشّعريّة، الزّاخرة بالجوَى والكَمَد والسّخط!

الشّاعر حسب الشّيخ جعفر في كتابٍ مُترجمٍ من قبلهُ( مُختارات من الشّعرِ الرّوسيّ)، جعلنا أمامَ ضربين لهذهِ الغُربة-المُلازمة لها بصورةٍ دائمةٍ- والتّي تؤجّج شاعريتها، وكانَ ينبغي أن يعرفَ الجميع في بادئ ذي بدء هذهِ الحقائق، وهو إن الشّاعرة الرّوسيّة، عاشت غربتين رهيبتين طيلة حياتها، أوّلهما غُربتها الفكريّة، كونها شاعرةٌ برزت من أفقٍ لَمْ يعدّ مرغوبًا وجليًّا وقضي أن يغلقَ إلى الأبد – على حدِّ تعبير حسب الشّيخ- وهو يتداخلُ مع غُربتها الأُخرى وهي الزّمنيّة وبمعنى غيرِ بعيدٍ بل قريبٍ ويرتبطُ مع غربةِ الفكرِ، وما المُعاش في الحينِ ذاكَ سوى نتاجِ الأفكار والخيال وتكوين الرؤى ووجهات النّظر من منظورٍ ما!

وما كانت سوى شبحٍ منفيّ وتمّ تأطيرها من قبلُ الأعين بهذا الشّكلِ، الّذي أصفهُ بما كتبتهُ يومًا عندما وصفني أحدهم على أثرِ وحدتي وغُربتي ووحشتي بالشبحِ كذلك:

أنا شبحٌ مُزيفٌ من تلكَ الأشياء

أصنعُ من نفسي شخصًا في كُلِّ مرَّةٍ

لكنّ لا مناصَ من مروري بالإدراك

لا مهربَ من عدم ولادتي على الإطلاق..

كانت في عالمٍ غير عالمها المُراد والّتي ترغبُ بهِ وتطالبُ بنيلهِ وأن طالَ الزّمان وعذابهُ الفتَّاك، والمُهلك للمرءِ في مرورِ الأيّام، وبتعبير حسب الشّيخ(إنها في عالمٍ غير عالمها الرّوحيّ) ولفرادتها الشّخصيّة الحقيقيّة وبراعتها الأسلوبيّة مع بهائها الأخّاذ، حاوطتها حملات انتقاديّة فائقة المعقول، وهي حملات إعلانية مُستمرة، تتخذُ من حزنها وتشاؤمها ونصوصها المُترعة بالجَزَع واللّوعات حجةً؛ لتهلكتِها وتهميشها والقضاء عليها.

وعدم إغفالنا عن تناول موضوع الحروب والوضع النّفسيّ والسّياسيّ والأدبيّ في الأربعينات(الأمراض الواقعيّة ألفت لها النّظرَ هُنا)، هذا بجانبِ المُحاولات الدَّؤُوبة لاتحاد الكتّاب السّوفيت بطردِ أخماتوفا منهُ، ولَمْ يكتفِ أحدهم هُنا، بل نجدنا في هالةٍ من الانصدام والتّفاجئ ونحنُ نشاهدُ ونسمعُ خبرَ إعدام زوجها السّابق، أتلاحظون هذا الاضطهاد المُبرح من ناحيةِ السّلطة والمُجتمع معًا لشاعرةٍ بتلكَ الرّقّة المُتناهية؟!

رغمَ إن هذا طَفقها إلى أن تعيشَ وتنظّمَ حياتها على مقامٍ وَاجِفٍ ومُضطربٍ، مُتبَرّمٍ، إلّا إنّها حافظت على أصالتها وبصيرتها وأسلوبها الفذّ، مع ذلك الذّوق الأدبيّ والفنّيّ السّامق، باعتبارها شجرةٌ لا تبرحُ مكانها وجذورها وأنّ دائِبَ الإهمال ومواسم القحط.

في قصيدةِ(أنتَ تعلّم)، المُترجمة بأيدي حسب الشّيخ جعفر، وهُنا أعني دقّة التّرجمة ونقل مشاعر الشّاعرة عندَ كتابتها مع الأساليب الأدبيّة كما هي من دونِ تلاعبٍ زهيدٍ وعسير الهضم، يحتّم على القارئ النّفور ونبَذ المقروء.تبدأُ الشّاعرةُ قصيدتها بتذكيرِ الآخر عن شقائها وقيودها المُتَجَبِّرة، الّتي تدفعُها نحوَ طلبِ الموت؛ للخلاصِ والنّجاة، هذهِ الفلسفة، الّتي تبيّن كم الموت هو أعظم انتصارات الإنسان، وأهونُ من العيشِ بمشقّةٍ وإمْلاقٍ كالّذي جلسَ تحتَ أشجارِ الخريف ليؤنس بالطبيعةِ ونسيّ ميعاد الخريف وأيلول!وهي هُنا في مُقدّمةِ القصيدة، استهلتها بذكرِ الأرض الشّحيحة وعدم سخاء الحياة، الّتي تجعلُها تُرافق الوجع ولا تنساهُ وتكّبلها بالأصفاد وهي الطّليقة الآسرة فتقولُ:

أنتَ تعلّم أيّة شقيةٍ، مُكبلة أنا

أتضرّع إلى اللّه أن يميتني.

غير أنني أتذكر، حتّى الوجع، كُلّ شيء

عن أرضِ تغيرَ الشّحيحة

وهُنا تعودُ بنا إلى ما كتبهُ يومًا شاعر العصر العباسيّ(أبي العلاء المعريّ):

مَوتٌ يَسيرٌ مَعهُ رَحمَةٌ        خَيرٌ مِنَ اليُسرِ وَطولِ البَقاءِ

وَقَد بَلَونا العَيشَ أَطوارَهُ     فَما وَجَدنا فيهِ غَيرَ الشَّقاء

وعودَتنا إلى المعريّ ما هي إلا تنبيهٌ إلى فكر الشّاعرةِ وفلسفة قصائدها الخفيّة، والّتي يظنُّها القارئ الكسول والسّطحي بأنها عابرةٌ أو قصيدة النّثر بعيدة عن العمقِ والصّور البهيّة، ذات المعنى والمدلول الفلسفيّ.

بعدها تنقلُ لنا مشهدَ الطّائر الغرنيق وهو يقفُ عندَ البئرِ المُنهدفة، المُحطّمة، هذا الطّائر، ذو السّلوك الاجتماعيّ الحرّ، نقيض أخماتوفا المُفردة – والوحيدة- فكانَ رمزًا للحزنِ واِلتِماس الحُرّية، كونهُ خارج سرب أقرانهُ وبمفردهِ عندَ بئرٍ عميقة مُفتتة، تدلُّ على الخراب، المُماثل لروحها الذّاوية، مع دوي الماكانات في الحقولِ ورائحة القمم المُوحشة والسّحب الهائجة وكآبة المشهد، وكأنّها تصفُ أعماقها، الشاهقةٌ كالقممِ لكنّها ضبابيّة مُعتِمة، تغلي.

طائر الغرنيق عندَ البئر المهندمة

والسّحبَ من فوقهِ كزبدِ الغليان الأبيض،

صريرِ الماكنة في الحقول

ورائحة القمم والكآبة..

وفي قصيدةٍ أُخرى لها كانت بعنوان(آه ثانيةً تعود)، تكرّرُ هذا النّوع من الطّيور وتشيرُ إلى سوادِ الحقول، الّتي تريدُ بهِ شيئًا آخرَ وهو ظلام ما هي عليهِ، فترى سوادَ واقعها معكوسًا حتّى على الطّبيعةِ أو هي مَن تعكسُ سوادَ حقيقتها على الطّبيعةِ النّقيّة الزّاهيّة، فردّدت فيها:

لا أتذكرُ غير الحديقةِ الخريفيّةِ النّاعمة الشّفيفة،

وصراخ الغرانيق، والحقولِ السّوداء..

ليسَ من الغريبِ أن تختمَ القصيدة بأشطرٍ هي كصفيرِ قطارٍ، تُنبه المارَّ بوطأةِ الأنظار المُتحذلقة عليها، النّظرات المُستنكرة لها، العالقة في ذاكرةِ الشّاعرة، وباتت مُقتنعةً بها وتشعرُ إنها تستحقُّها وجديرة بأن تعلقَ في ذهنها وعلى شرفاتِ فُؤَادها، فغدت تشكلها بقصائدها بطرائقٍ يائسة وخافتة، مُتماهية مع الحقيقةِ كريحٍ هادئةٍ تمرُّ ووجهات واسعة باهتة وشاحبة، غير مُضيئةٍ ومُتوهّجة، فتصيغُها لنا بهذهِ الهيأة:

وتلكَ الجهاتِ الفسيحة الباهتة،

حيثُ الرّيح نفسها خافتةً تمرُّ

ونساء القرية الهادئات، المُلوّحات

يلقين عليّ نظراتِ استنكار!

تكادُ في الشّطرِ الأخير مُمتقعة الوجه وهي تلمحُ حتّى الأُناس الأشدّ هدوئًا ووداعةً ينكرونها ويرمقوها بشزرٍ، ينفونها وهي بينهم تحدّقُ على تلوّيحاتهم للعابرين والأقرباء، ونقدهم اللّاذع غير العادلِ كما الحياة؛ وهذا من أجلِ غموضٍ وضبابٍ، لا يفهمونه، يجهلون نزعتها الصّوفية ورهافة مُهجتها وميولها، وادّعائاتهم هي على وفقِ تصوّراتهم فليست هامّةً ولا يجبُ أن تأخذَ بعينِ الاعتبار.

فهذا ما حرّكها فعادت وكتبت عن الأمرِ ذاتهِ في إحدى قصائدها حيثُ أدرجت قائلةً:

أعطني من الأتربةِ السّامّة

ما يجعلُني بكماءَ،

وازحْ شهرتي الذّميمة

بالنسيانِ الوضيء.

كانت قصيدة الشّاعرة الأساسيّة(أنتَ تعلّم) مبنيةً على خفةٍ وموسيقى وأجراس باطنيّة غير ظاهريّة كُليًّا ممّا أفضى بالقصيدةِ نحوَ الانسياب والتّماشي مع المُفرداتِ بألقٍ وليونة.

نلاحظُ انتقائها للمعاني وصياغتها المُشرقة للأحداثِ، الصّياغة الدّاحضة للضجرِ والالتباس المُلبِّك.

وحتّى في بقيةِ المقاطع الشّعريّة، الّتي تلت القصيدة الأوّلى وشرعت بكشفها بسِمَةٍ أكبر، نلتمسُ سهولةَ تركيبها وبريقها الأسلوبيّ، وخفتها النّاتجة عن موسيقى وتناغم الشّجن الأبديّ لقلبِ أخماتوفا، ووصفها لمشاعر الإنسان الفعليّة، هذهِ المشاعر المُتولِّدة من مأساةِ الوجود، تعلن عن واقعيتها وواقع غيرها من الّذين ينازعونَ للبقاءِ والعيش بفضاءٍ أقلِّ ضنى ومُؤاحنة، وفسحةً لا تجثمُ عليهم بانبثاقاتٍ فُجائيّةٍ مُنهكة ومُكَدَرة لجسدِ المرء.

لا نستطيعُ أن نخفي أثر هذا الماضي والأسى في قصائدَ أخماتوفا، فقوّة شاعريتها تكمنُ في استحضار مآسيها ويأسها ونحيبها وتوظيفها لهُم من خلالِ مُفردات الخيبة المُتتالية في يومياتها والجمل الحادّة القصيرة، بيد أن هذا أدى بها في بعضِ مواطن بيت القصيد إلى الإسهاب واستهلاك الصّور الشّعريّة والتّرداد، فتبدو لي تافهة ورتيبة وبديلًا عن ينابيع إبداعها وفكرها الحيويّ المُشتعل، فلَمْ تحرص الشّاعرة على خروجها من ميدانِ ما اعتادت عليهِ في تجربتها الشّعريّة إلّا ما ندر ورُبّما التّرجمات العديدة، تضيفُ شيئًا من نكهةِ المنفى والأنين ولذّة الألم على النّصّ الأصليّ، باعتبارِهم وقعوا في فخِ سيرتها التّعسة، المُناقضة(أضداد) للبهجةِ.

ومن ناحيةٍ مُغايرة لهذا، كانت أخماتوفا أصدّق من غيرها عندَ الكتابةِ فهي لَمْ تبالِ بالعزوفِ عن سالف ما كتبت ولبثت تضفي الكثير عليهِ، ناسيةً التّجديد والاستحداث في الموضوعات والمضامين على الدّوام، ماكثةً تعبرُ عن هواجسها وما يختلجُ في أعماقها فضلًا عن أهوائها ووقائع أيّامها وتجرّدها من العبوديّة بسعيها الحثيث للتحرّرِ من كُلِّ شيءٍ مادامت طوال حياتها تقترنُ بالوجودِ والشّروع بمُغادرةِ العدم لظاهر ماتَطَلُّعت إليهِ عبرَ الاقتران بالطبيعةِ والمُحيط، فأمست قريبةً على القارئ في لحظاتِ التّذمر والتّشاؤم، مُبتعدةً عن ميدان الكذب والزيّف والألاعيب الشّعريّة المُعقّدة، الجارفة للقارئ نحوَ شواطئ الغموض والتّيه؛ سعيًا لكسبِ جولاتٍ أدبيّة مرموقة، وارضاء للقارئ، الباحث عن الرّاحةِ والخدمات الشّعريّة المُحدّدة حسب مزاجهِ، دونَ الأخذِ بالقيمة الأدبيّة وقواعد الشّعر وسمات الشّاعر الأصيل.

آنا أخماتوفا جسّدت الانفجارات الشّعريّة الصادقة، والبراكين العاطفيّة الإنسانيّة المطمورة، آنا حقيقيّة وواقعيّة أكثر من المُتوقع واللّازم، هذا ما كانَ مأساتها، نفسها مأساة مُدقعة.

وعن ارتباط القصيدة بالمكان، فهو أقوى حضورًا من أيّ شيءٍ آخرَ في قصائدها فلا بُدَّ من ذكر مدينة أو قرية أو مساحة كونيّة مُعيّنة كأنّ تكون طرقًا أو سفوحًا أو منطقةً، تضعُها مهدًا هانئًا أو سريرًا أو منفى مُتقلِّبًا مُقفرًا أو ملاذًا ومأوى لها، وتنشدُ أشطر المُعاناة من حدثٍ ما وتختصرُ مسافات العالم بينَ الكلمات، وتحجمُ ما هو أكبر وبعيد عن الأعين بيديها الشّمعية الجافة، الوهنة.

كما وردَّت لفظة القرية في القصيدة الأوّلى في هذا المقال وكذلك في قصيدةٍ غيرها مثّلت هذهِ الحالة بقولها في مقطعٍ منها:

وما كنتُ لأصدّق

أن سيكونَ لي صاحبًا لي،

عندما كنتُ أتجولُ على سفوحِ الجبال

في الطّريق الحجريّ اللّاهبِ.

وفي قصيدةِ(ينهزمُ الألم) نشاهدُ دهشتها إزاء المدن والأمكنة وفرادتها التّعبيريّة:

إنّني لأُحبّ هذهِ البقاع

حُبًّا مكينًا، هادئًا لا فكاكَ منهُ

إن قطرة من حياة المدن في دمي

كقطعةِ جليدٍ في خمرةٍ مزبدة.

وهذا شيءٌ لا يمكن رأبهُ بأيّ شكلٍ

ولَمْ يُذب القيظُ العظيم هذهِ القطعة

أيُّتها القرى الهادئة

يا إشراقةً في مديحي.

وأيلول وأكتُوبر رمزٌ تستعملهُ في قصائدها؛ للبوحِ بتساقطها وجفاف جسدها، كما عَايَنّا في المقطعِ السّابق:

لا أتذكرُ غير الحديقةِ الخريفيّةِ..

وتظمّنْ الخريف بمَرْأى أوسع في مقاطعٍ من قصائدَ عدّة لها، فراحَت مرَّةً تُتمتم في قصيدتها(ثانيةً تمنحُ لي) عن ذاكَ الخريف بأوراقهِ الحمراء، الّذي سيخلدُ أُغنيةَ الأوجاع والتَأَوُّه ويسهمُ في ازديادِ العذاب والعلّل:

لكي تعيشَ طويلًا في ذاكرتي

أُغنيةُ الوداع الأليم

جلبَ الخريف الأسمر بذيلِ ثوبه

أوراقه الحمراء المُتساقطة..

تبقى القصائدُ قلقةً وخائفة ومُتوترة وبعض أشطرها متين وبعضها مُتفتت وعاديّ ولا يسعُنا الانبهار بهِ، وهُنا لا يمكنني أن أتجاوزَ أو أنكرَ كيف هو حيٌّ شعرَ أخماتوفا، أراى وأسمعُ مشاهدَهُ ورسومه وتحرّكاته؛ لذلك هي اليوم خالدةٌ وتسيرُ وحيدةً كعادتها السّرمديّة بيننا، تئنُّ مُستيقظةً وهي تتوارى خلفَ كتاباتنا، الّتي تنزفُ وجوُمًا وحيرةً كما عينيها ونجدنا شبحٌ من روحها وزيّفٌ من تدوّيناتها لا أكثر، نحنُ الأشباح والنّسخ يا أخماتوفا وليسَ أنتِ!

مُتهلِّلة كوني أضعُ بينَ يديّ القارئ هذهِ الأوراق النّقدية – والتّحليليّة- عن هذهِ الشّاعرة، الّتي نبحثُ عن ضوء عينيها مرارًا وتكرارًا، وتارةً نصطادهُ وتارةً يفرُّ هاربًا حتّى يتلاشى في أروقة المدينة المُتجهّمة، وعبرَ الكنائس الباسقة المُظلمة، وفوقَ المُدرجات المُبتهلة لضمور الفرد، مغزى الأوراق هو التّعرف على شعرِ الشّاعرة وخفاياه وسبب تواجدهُ وتنظيمه، ومقدار صدقها وتفنّنها السّاحر بالصياغات ووصفها المُتدفّق لحقولِ الحياة وخريفها، للمناظر والتّقلبات والنّزعات، الّتي تطوقها بتلبدٍ دون هوادةٍ وهُدنات، فتتركُها مُتدثرةً بحنينٍ وآهات، بعدها تتناهى إلينا أخيرًا أنباءَ الشّعرِ ودفاتره، المنسوجة باحكام، المصنوعة من خشبِ الارتجاف فنقرأُها ونحنُ نفتشُ عن الذّات في مطاويها وطبيعة تكويتها وتركيبها الهش في حينٍ والصّارم في حينٍ آخر.

إذًا لَمْ يكن حزنها عبثًا، لِيغفر لها العابر على شِعرها والقاطِن طويلًا في دهاليزه المهجورة، المُوحشة، المُتدثرة بالشّال الرّومانسيّ القاتم والخانق.

اغفرْ لي أنني حزينةً

وقليلًا ما ابتهجتُ بالشمسِ.

اغفرْ لي، اغفرْ لي أنني

تقبلتُ تلكم الزّياراتِ العديدة.

________________________________________

*جميع القصائد، الّتي تراءت للقارئ في هذهِ الدّراسة القصيرة هي من كتابِ(مُختارات من الشّعر الرّوسيّ)، نقلها عن الرّوسيّةِ الشّاعر العراقيّ حسب الشّيخ جعفر.

مشاركة