العلمانية هي الأسلم والأمثل

العلمانية هي الأسلم والأمثل

يعقوب أفرام منصور

في أثناء الحرب العالمية الأولى وقف العرب إلى جانب دول الحلفاء الغربيين في مواجهة دولة الإمبراطورية العثمانية، وفي أثناء الحرب العالمية الثانية وقف العرب مع الحلفاء الغربيين أيضًا في مواجهة دول المحور (ألمانيا ـ إيطاليا ـ اليابان).وبالرغم من هذه المواقف ألإيجابية من جانب العرب حيال الأنظمة الغربية الأستعمارية (إنكلترا ـ فرنسا ـ أمريكا ـ إيطاليا)، لم تقدم الدولتان الإستعماريتان (إنكلترا وفرنسا) ولا إيطالياالإستقلال التام ـ بعد ربع قرن من معاهدة تجزئة الوطن العربي (سايكس ـ بيكو) إلى عديد من الدول العربية ـ الإسلامية القائمة آنذاك في مشرقه، منها أقطار الخليج وفلسطين تحت الإنتداب، وفي مغرب الوطن العربي (أقطار الشمال الأفريقي). وعلى الرغم من وجود عدد كبير من الأحزاب والمنظّمات والجمعيات التي انتشرت في البلاد العربية إبان حقبة  الحربين المذكورتين وقبلهما أيضًا في مصر، سوريا، لبنان، العراق، علاوة على أقطار المغرب العربي؛ ومع انتشار الوعي القومي العربي في مشرق الوطن العربي، ومع المطالبة بوحدة البلدان العربية ـ الأسلامية، ومع مواجهتها القوى الإستعمارية في ثورات وانتفاضات واحتجاجات وانتقادات ومظاهرات، لم نجد في المقابل منظّمة إسلامية أو حزب إسلامي واحد يكافح ضد الإستعمار أو يطلب سيادة واستقلال البلدان العربية أو وحدتها بالرغم من وجود بعض أحزاب الإسلام السياسي في بعض البلدان العربية  ـ الأسلامية بعد الحربين العالميتين، وخصوصًا حركة الإخوان المسلمين في مصر، التي أُسست في عام 1928 ، وكانت مدعومة ماليًا من المملكة العربية السعودية في عهد مؤسسها عبد العزيز بن سعود وخلفائه( أنظر مقال الدكتور مبدِر ألويس، المنشور في جريدة “الزمان” البغدادية الصادرة في 28 أيلول/14 ص 14 ـ العمود الثالث).

يضيف الأستاذ مبدر إن  تلك الحال تؤكّد على أن أحزاب الإسلام السياسي، أسِنِّية كانت أم شيعية قد لبثت صامتة إزاء مواجهة الإستعمار، متقبّلة تبعيتَته وهيمنتَه، لأن أحزاب الإسلام السياسي تلك  كان همّها الوحيد هو السلطة وامتيازاتها وممارسة الطائفية بصرف النظر عن الهيمنة الأجنبية أو الإستغلال، كما هو الحال في لبنان وتونس والسودان والعراق الذي حوّله  الإسلام السياسي  إل دولة غنائم ]. وقد أثبتت سلوكيات وممارسات ومقترفات جماعة الإخوان المسلمين في مصر وحدها (على سبيل المثال) بعد عام 1928  وخلال الأعوام الثلاثة المنصرمة وحتى الآن، صحة رأي الدكتور مبدر في هذا الشأن، إضافة إلى الأحداث الجسام التي وقعت وما برحت محتدمة الوقوع  في الأقطار التي أسلف ذكرها الدكتور مبدر، وأضيف أنا إليها ليبيا وسوريا والصومال واليمن منذ ثلاثة أعوام وأكثر.

يستطرد الدكتور مبدِر قائلاً : إن  غياب الأمن والإستقرار، وانقسام الشعب يرتبط  ـ وجودًا وعدمًا ـ مع حكم الإسلام السياسي في النظم العربية التي يحكمها. إن تدخّل الدين في السياسة في النظم العربية ـ كما هو الحال في لبنان والعراق والسودان والصومال وأقطار أخرى ـ  قد أدّى إلى الفوضى وعدم الإستقرار بسبب غياب المساواة وذيوع التمييز بين المواطنين كما تمارسه الطائفية المذهبية أو الدينية التي تلغي الديمقراطية في هذه البلدان ]. أجل: الطائفية تنحَر العدالة والمساواة والديمقراطية. الطائفية والديمقراطية  كالزيت والماء ، لا يلتئمان، لا يمتزجان؛ والطائفيون المنادون بالديمقراطية، وما أكثرهم في الكيانات العربية حاليًا ومنذ أعوام، يكذبون على أنفسهم أولاً، وعلى شعبهم ثانيًا !

    شخّص الدكتور مبدِر ألويس علّة اضطراب وفوضى ومآسي النظم العربية الحاكمة في الأقطار   العربية ـ الإسلامية تشخيصًا واقعيًا مقرونًا بالأدلّة والتحليل والتعليل في هذه الفقرة من العمود الرابع من مقاله الموسوم (دور الأنظمة العربية في اغتصاب فلسطين)، وقد نقلت “الزمان” هذه الفقرة المهمة  بعينها إلى أقصى الزاوية اليسرى في أسفل الصفحة14 :   ألإسلام السياسي في وقتنا الحاضر يمارس السياسة من خلال الطائفية، ويمارس الدين من خلال السياسة للحصول على مغانم سياسية. فلا هو سياسي بشكل صحيح يطبق السياسة كما يجب أن تكون، ولا هو ديني يعمل لترسيخ الدين، بل يمزج بين الحالتين للوصول للسلطة لخدمة الطائفية المذهبية أو الدينية، ولضمان المصالح الشخصية للقائمين على السلطة التي تقودها عناصر غير مؤهلة وغير كفوءة، ولا متخصصة في معظمها، ترشّحهم الطائفة، مما يسهم في تعميم الفساد داخل الدولة والمجتمع بمختلف أشكاله، كما هو قائم اليوم في الدول العربية التي يحكمها الإسلام السياسي الذي حوّلها إلى دول فاشلة، تمارس ديمقراطية مشوهة وزائفة، يشكّل مؤسساتها المال السياسي بالرشا والإعلام الطائفي والوعد بالإمتيازات والتعيين بالوظائف، وليس بالدعم الشعبي الحر والإرادي والنزيه والمنافسة على أساس المبادئ والأفكار، والعقائد والبرامج الحضارية بين الكتل والأحزاب السياسية، كما هو قائم في النظم الديمقراطية المتحضّرة التي تنهض بالعلم والثقافة في صفوف شعبها ].

فما هو الحل لهذه المعضلة الفتّاكة، الناجمة أصلاً عن خطأ مقصود مبعثه المتجذّر من عقود عديدة ـ إبان عهود الخلافات العربية الإسلامية ـ راسخة في نفوس كثيرة في زماننا، وهو الأنانية المفرطة في إيثار حيازة السلطة والكراسي وتبوّأ المراكز، فهذه ” الشهوات والمطامع” هي، في الحقيقة والواقع ،أعدى أعداء الديمقراطية التي يتشدّق بها الكثيرون (بينهم رجال دين)، كما هي الحائل الأكبر دون سيادة العدالة التي هي قدس الأقداس في المرام المنشود من كل نظام حاكم ناجح سعيد؟ في رأيي للخلاص والحل، هو تطبيق “العلمانية ” الخالصة في الإدارة الرشيدة عن سبيل فصل الدين عن السياسة في إدارة دفّة الحكم، أسوةً حسنة بالنظم الغربية الحاكمة وفقًا لهذا المنحى، في حين بقي الشرق العربي ـ الإسلامي متمسّكًا بعدم فصل الدين عن السياسة في إدارة دفّة الحكم؛ وهذا هو الإسلام السياسي الذي تعاني منه الأنظمة العربية ـ الإسلامية أشدّ المعاناة وأوخم العواقب وأفجع الكوارث اليوم ومنذ عقود، وقد قال في ذلك جبران خليل جبران، المتمرّد الثائر الحداثي الأول قبل قرن، في معرض تطرّقه إلى (الدين) في “المواكب”:     كأنما الدينُ ضربٌ من متاجرهم إن واظبوا ربحوا، أو أهملوا خسروا ]. فأفضل “الدين”  حين لا يكون مشتملاً على ” مذاهب وطوائف ” ، وحين لا يكون مفروضًا بالإكراه (سورة البقرة/ 256) ، ولا مقرونًا بالإرهاب  والفتك والتفجير، بل ان يكون مصحوبًا بالإقناع والوعظ والتحاور ، كما تفعل وتنجح بقية الديانات الكتابية وغير الكتابية. أليس بالإكراه والإرهاب إساءة إلى الدين الإسلامي؟ ألا يجدر بعقلاء ومتّزني الشيوخ ان يشجبوا ويحرّموا، بأعلى أصواتهم ،الإكراهَ والعنف والتطرّف والإرهاب؟! فصمتهم يعني رضًا وقبولاً ضمنيًا. وهذا يعني توالي الكوارث والمصائب والجرائر، والمستفيد من كل هذا، أعداء الإسلام والمسلمين والعرب والأوطان، بل أعداء الله وأجناد الشيطان ! فمتى يفطن ويفقه الواهمون، وإلى متى هم ينفّذون مخططات أعداء دينهم وحضارتهم وشعوبهم؟!

أجل، العلمانية هي الحل الأسلم والأمثل  في انتهاج أسلوب الحكم السياسي الديمقراطي العادل،  فليس الحكم الديني، ولا حكم الإسلام السياسي هما كذلك، ولا أي دين آخَر هو كذلك، فالتاريخ يثبت أن الدين لم يكن يومًا حلاً للمعضلات والمشكلات والقضايا الإجتماعية والإقتصادية والسياسية، بل على النقيض يزيدها عُسرًا وتعقيدًا واضطرابًا وشحناء واحترابًا . والإسلام ـ كالديانات الأخرى غير مستثنى من ذلك ـ لا يمكن أن يتلاءم في السير، جنبًا إلى جنب،  في مسيرة تنظيم إدارة مدنية متحضّرة عصرية تنتهجها النظُم “العَلمانية ” بالنظر إلى الأسباب التي أسلفتُ ذكرها. فأوضاع الحياة في أوربا لم تتحسّن إستقرارًا وارتقاءً ورفاهًا إلا بعد إقصاء الكنيسة عن تأثيراتها في توجيهات دفّة النظُم الحاكمة من خلال عملية فصل الدين عن السياسة ـ أي فصل  الكنيسة عن إدارة حكومة الدولة. فتجربة الأنظمة الغربية التي اتّبعت النهج العَلماني قد أثبتت أن البشر يمكنهم العيش باستقرار وحرية وكرامة في حال كونهم متدينين وعَلمانيين في آن واحد؛ كما ثبت أن ليس كل عَلماني يناهض الدين، ولا كل متديّن يقاوم ويضادد أو يضطهد العَلمانية. فالعَلمانية في أوربا وأمريكا وأوستراليا لم تَعنِ يومَا إقصاء الدين عن ممارسة مفردات الحياة الإيمانية، أو تمنع اعتناق القناعات الإيمانية المتباينة، وخير دليل على ذلك وجود مؤسسات دينية مختلفة : كنائس، جوامع، معابد يهودية وبوذية وهندوسية وغيرها، وأتباع هذه الأديان والعقائد الإديولوجية يمارسون طقوسَهم وفروضهم بتمام الحرية تحت خيمة حماية الدولة ورضاها وعدم التدخّل في شؤونها. ففي فرنسا مَثلاً، المعروفة بالتشدد في تطبيقها مبادئ العَلمانية،  لا وجودَ لإقصاء الدين عن شؤون الحياة الأخرى، وكذلك الحال في أمريكا وإنكلترا وأوستراليا. لكن بلدان هذه القارات لا تسمح بتداخل نزعات وميادئ دينية أو مذهبية مع المناهج والإدارات السياسية، كما لا تسمح بفرض أي دين اومعتقد مذهبي على الآخرين، ومحظور في تلك البلدان على أي حكومة أو دولة أن تحابي دينًا أو مذهبًا معيّنًا، حتى لو كان معتنقوه يشكلون الأغلبية في تلك الدولة أو الحكومة، كما محظور عليها  الجنوح إلى التقليل من شأن أيّ دين أو مذهب حتى لو كان تابعوه قليلي العدد، لا يتجاوزون العشرة.

خلاصة القول: ألعلمانية نهج لنظام الحكم لا يضادد الدين، إذ ليست هي دينًا مغايرًا للأديان المعروفة، بل هي وسيلة لتنظيم العلاقة بين النهج السياسي وبين النهج الديني، كل منهما في حقله، من دون تجاوز الحدود الفاصلة بينهما، ومن دون تدخّل ولا ضغوط . وقد يكون الدين عاملاً إيجابيًا أو موحِيًا أو باعثًا إلى النهج السياسي في مجال الإستفادة معنويًا وأخلاقيًا وربما ماديًا أيضًا من خلال بعض ما تبثه قنوات دينية تدعو إلى التسامح والقناعة، وتحث على التمسّك بالفضائل وعلى التحاور في التعايش وحل المعضلات، بدلاً من الإحتراب والعنف.

فلا منا صَ إذن ـ لخير الأنظمة الحاكمة القائمة الآن في الشرق الأوسط ، ولخير الأنظمة العربية ـالإسلامية ،  من اتّباع النهج العلماني الصِرف في الحكم السياسي المدني، كما لا مهربَ من الإنتقال من دولة الأديان إلى دولة الأوطان، ومن دولة المتديّنين إلى دولة المواطنين، ومن  دولة الإسلام السياسي إلى دولة النظام العَلماني، حيث تمارِس كل الأديان والمذاهب الكتابية وغير الكتابية طقوسَ  وفروضَ عبادتها، وتعتنقُ أفكارها الإيمانية وعقائدها كما  “أُنزلت” إليها، أو كما آلت إليها خلَفًا عن سلف، ما  دامت هذه كلها خاضعة للقوانين الوضعية المدنية ، وملتزمة بشــــرعة “حقــــوق اللإنســــان”.

سطور مهمة أخنم بها مقالي، مخاطبًا إخوتي في الإيمان بالإلاه الواحد، وإخوتي في المواطنة : المسلمين بمذهبَيهم السنّي والشيعي مُستَعلِمًا إياهم : حتّامَ الخلاف بين طائفتيكم إلى حد الجفاء والتناحر والتعادي، منذ 1400 عام حتى الآن، في حين أن عقيدنكم الإيمانية واحدة، ورسولكم واحد، وكتابكم واحد؟ وهل من دواعي الإسلام هذا التنافر، أم أن هذا التعادي هو في صالح الإسلام أو صالح معتنقيه؟! هل تعلمون أن أعداءكم وأعداء حضارتكم العربية ـ الإسلامية يستغلّون أحسن إستغلال هذا العداء المدمِّر المتبادل بين فريقَيكم (والعداء هذا هو لبواعث سياسية سلطوية وليست عقائدية) كي يحققوا  نتائج  إستراتيجيتهم التي وضعوها في خمسينيات القرن المنصرم، للعمل الحثيث في مجال إستفحال العداء بين الطائفتينا الشيعة والسنّة في أقطار الشرق الأوسط ، وخصوصًا في العراق كي يؤدّي ذلك إلى إضعاف المنطقة وإنهاكها وتغذية روح الضغينة والإحتراب  بين شعوبها، وهذا بدوره يفضي إلى تدمير الإسلام  من خلال المسلمين أنفسهم ؟! أعداؤكم أنفسهم يعترفون بأن عملاءهم أسسوا أهم الحركات الإسلامية السابقة ـ طلبان والقاعدة ـ ونشروا ثقافة العمليات الإنتحارية الإسلامية ضد المسلمين انفسهم، وكل هذا يصب في حوض هدف واحد هو عدم قيام حضارة عربية ـ إسلامية تنافس حضارة الغرب المادية الصِرفة ، ويتمثّل تطبيق هذه الخطة التدميرية الشاملة للإسلام في احتلال العراق لتحويله إلى ساحة الصراع الدامي الشامل بين القطبين السنّي والشيعي.]

فهل أنتم غافلون أم نائمون؟ هل أنتم لأول مرة تُطالعون تفاصيل هذه الستراتيجية الجهنمية  قيد التطبيق في العراق منذ عام 2003 ؟ ألا يعرفها قادتكم الحربيون وأئمّتكم ورجال دينكم، أم هم يعرفونها ويتجاهلونها؟ هل ستمكثون متعادين  متناحرين  لتمضوا إلى حتوفكم وخرابكم، وتُفرحوا أعداءكم؟! أما آن لكم أن تقتدوا  بغيركم في قلبهم صفحة الماضي البغيض السقيم المؤذي، وفتحهم صفحة المستقبل الأفضل البنّاء الخالي من التباغض الهدّام الدموي؟ أقطار الشرق الأوسط غاصّة بالقتول والتفجيرات والإحتراب بسبب الشقاق الطائقي بين الشيعة والسنّة؛ فإلى متى تُفرِحون أعداءكم بشِقاقكم، وتهدمون أنفسكم وكيانكم بتباغُضِكم؟! وإلى متى تسببون الموت والإفناء والهدم والتفجير والتهجيروالنزوح لغيركم من البرايا الذين لا يحملون هذه النزعات الشقاقية والمشاعر التنافرية والتناحرية الضارة المزمنة التي تتمسّكون بها، وقد أكل الدهر عليها وشرب؟!

قال أحمد شوقي في هذا المجال الهُمومي:

لامَ الخُلفُ بينكمُ  إلاما ؟وهذي الضجّةُ الكبرى علاما؟وفيمَ يَكيدُ بعضُكمُ لبعضٍ

وتُبدُو نَ العداوةَ والخِصاما؟!

وأُضيف أنا:

علامَ طول التجافي علاما؟فالعاقبةُ ليست إلا حُطاما

وعُسفًا وضحايا وموتًا زؤاما ! وقال المعرّي:

إذا الإنسانُ كفَّ الشرّ عنّي

فسَقيًا في البلادِ له ورَعيا

ويدرُسُ إن أرادَ كتابَ مُوسى

ويُضمِرُ إن أحـــــبَّ ولاءَ شعـــــيا.

مشاركة