العراق بين إعادة التصنيع والأنتاج الأمريكي – سامر ناهض خضوري
إن المتمعن في شأن السياسة الخارجية الامريكية يجدها في الأساس تقوم على وجود أستراتيجيات بعيدة المدى في الغالب ما بين الثابتة المتعلقة بالامن القومي الامريكي والاسرائيلي والمتغيرة حسب ضروف البيئة الدولية التى تفرضها، ويبدو ان العراق بحكم موقعه الشرق أوسطي الجيوستراتيجي الرابط بين المحيط الهندي والبحر المتوسط الذي يمثل بوابة بين قارتي اسيا واوربا وغزارة موارده الطبيعية جعل من صانع القرار الامريكي يفكر ان المسيطر على هكذا موقع يتمكن من السيطرة على اهم مفاصل العالم ومكامن طاقته، فضلاً عن الشئ المهم الاخر الذي يكمن في كينونة المجتمع العراقي من دلالات بنوية ردكالية اتجاه اسرائيل الذي يقتضي استبدالها، ففي ظل هذان المتغيران وضع العراق ضمن اولويات الاهداف الامريكية الثابتة. ووفقاً لستراتيجية النفس الطويل عمل الاعب الامريكي على اعادة تصنيع وانتاج توجه مجتمعي عراقي اخر يتوافق مع البعد الامريكي من خلال احداث متسلسلة ومتناسقة ووفقاً لتوقيتات زمنية دقيقة ومدروسة على شكل مراحل مترابطة تستكمل الواحدة تلوَ الاخرى ولكن مهما اختلفت في الادوات والممارسات ما بين الخشنة والناعمة نجدها في الاساس تصب نحو تحقيق هدف يتعلق بطبيعة الايديولوجية لدى المجتمع العراقي بعد اخضاعها الى تقلبات عقائدية عديدة وصلاً بها الى انتاج ايدلوجية تتلائم مع الرؤية الامريكية، يمكن تناول ذلك من خلال مجموعة احداث مر بها العراق التي ظهرت بها ادوات الاعب الامريكي بشكل واضح على النحو الاتي:
اولاً: مرحلة التأسيس والانحراف: ابان وصول صدام حسين الى سدة الحكم في العام 1979 بدأ المشروع في وضع قواعده الاساسية المتمثلة في اعادة تصنيع بنية مجتمعية تحمل في طياتها رؤى وافكار مختلفة عن الايديولوجية المنقادة نحو السامية العروبية اتجاه القضية الفلسطينية، من خلال قيام الاعب الامريكي في توظيف صدام ذات الشخصية الاندفاعية التواقة الى الحكم، للدخول في حرباً طويلة مع الجمهورية الايرانية في سبيل احداث خللٍ ذات مديات واسعة في القيم المجتمعية وتوجهاتها الاساسية من خلال خلق عدو بديلاً عن العدو الاسرائيلي، فضلاً عن محاولة تدمير البنى التحتية للبلد وعلى وجه الخصوص التعليمية التى تمكنت من بناء مجتمع سليم انعكس على احداث تنمية اقتصادية منذ سبعينيات القرن الماضي وهذا مثلَ تهديداً حقيقياً للرؤية الامريكية، فمنذ ثمانينيات القرن الماضي وبداية الحرب بدأ المسار ينحرف بأتجاه اخر في تمزيق ثوابت المجتمع الاساسية من جراء مخلفات الحرب التي تركتها على واقع البلد، فضلا عن محاولات صدام الاستفزازية في تأسيس ما يسمى بجيش القدس واجبار الفرد العراقي على الالتحاق بصفوفه بعد خضوعهم الى التدريب القاسي لعدة شهور، ولد تذمراً كبيراً لدى المجتمع العراقي من القضية الفلسطينية.
ثانياً: مرحلة الانعزال والتجويع: بعد الخسائر البشرية والمادية الكبيرة التى تعرض لها العراق ابان الحرب العراقية الايرانية، دفع الامريكان صدام حسين بشكل غير مباشر للدخول الى الكويت في العام 1990 في محاولة للاجهاز على ما تبقى من قواته المسلحة، فضلاً عن تكملة الانحراف لمسار الايديولوجية للشعب العراقي، فبعد دخول دخول القوات العراقية الى الكويت جاءت الولايات المتحدة بقواتها وفقاً لقرار مجلس الامن لاخراج القوات العراقية من الكويت، وما سبقه من حصار اقتصادي خانق وعزلة دولية، اللذان ارهقا كاهل الشعب العراقي الى حد حدوث انهياراً كبيراً للقيم والمبادئ الاساسية للمجتمع نتيجة حالة الفقر المعتق التى عاشها وحالة التخلف جراء ذلك، وفي الوقت الذي امتنعت كل الدول العربية على مد يد العون الى الشعب العراقي بأدخال الادوية والمواد الغذائية على اقل تقدير ذهبت ايران الدولة المعادية الى فتح حدودها امام العراق لبيع النفط من خلالها ودخول بعض المواد الغذائية كل ذلك زاد النقمة والكره من الشعب العراقي جراء كل شأن عربي.
نجد ان المرحلة الاولى صنعت عدواً وفي المرحلة الثانية صنعت عدواً اخر في المقابل العدو الاول اصبح مساعداً، هذه الانتقالة في المواقف والاتجاهات تخلق نوعاً من الارتباك في طبيعة عمل النظام السياسي الذي ينعكس على الواقع الاجتماعي.
مرحلة الحسم
ثالثاً: مرحلة الحسم: بعد الخلل الكبير الذي تعرض له النظام السياسي بمؤسساته الرسمية وغير الرسمية جراء المراحل السابقة جاء الوقت لحصد ثمارها من خلال قيام الولايات المتحدة الامريكية للتحرك نحو اشتياح العراق في العام 2003 من دون اية مقاومة تذكر تتلائم مع صلابة الجيش العراقي بل اضحت هناك رغبة مجتمعية في دخول الولايات المتحدة الى العراق نتيجة حالة الاضطهاد والبأس الذي خلف عنه انهيار مجتمعي كبير في ذلك الوقت وهو ما كان معداً له سابقاً، وأستشعر الاعب الامريكي بالأطمئنان حيال ذلك بنجاح خطواته السابقة في عملية التصنيع، وبدأ ينسج خيوط المشهد السياسي وفقاً لمخطط مرسوم يقوم على استكمال ما بدأ منه، فعمل على تأسيس مجلس للحكم يقوم على ثلاثة مكونات رئيسة اثنية شيعة وسنة وقومية الاكراد الذين كانو خارج اللعبة، بحجة تمثيل المكونات، وفقاً لهذا الاجراء تمكن الاعب الامريكي من تثبيت قواعد التجزئة السياسية التى انعكست فيما بعد على الواقع الاجتماعي، والاكثر من ذلك ذهب الى التعامل مع العراق على اساس المكونات وليس الشعب الواحد، وذلك في سبيل رفع الهواجس الردكالية المتبقية لدى البعض اتجاه اسرائيل، فقد تمكن من احداث شقاً واضحاً في المجتمع من خلال تأسيسه بيئة ملائمة لاثارت النعرات الاثنية بين ابناء الشعب العراقي، والدليل على ذلك هو تخلي الولايات المتحدة عن الرجل الاول المقرب لها صاحب النظرية الاقتصادية في بناء الدولة احمد الجلبي والتعويض عنه بشخصيات ذات طابع ديني طائفي لا تمتلك الخبرة في ادارة الدولة بشكل مؤسساتي في سبيل تصنيع ايديولوجية مشوهة للنظام السياسي تقوم على الاثنية بشكلٍ اساس تخدم بها التوجهات الامريكية.
ونتيجة ترسيخ ثقافات المكونات وظهور حالات التشند الاثني ذهب المشرع العراقي عند كتابته للدستور العراقي في العام 2005 الى الاشارة الى ذلك بشكل واضح في مواده بدلاً من الاشارة الى الشعب العراقي، هذه الفلسفة في عملية بناء الدولة كان لها مردود سلبي على بنية مؤسسات النظام السياسي التي احدثت خلل نوعياً في طبيعة مخرجاتها في ادارة الدولة بشكل سليم مما احدث فوضى عارمة في البلد تكرست في حالات عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي الذي نتج عنه عنف مجتمعي مع غياب لدور الدولة في الحفاظ على الامن من خلال عمليات تعزز دور القانون لمعالجة اي نشاط يهدد امن البلد سواء أكان مصدره داخلي ام خارجي، ونتيجة لهذا الضعف في ادارة الدولة على محاسبة الخارجين على القانون، وجدنا منذ العام 2005 كان هناك دور سلبي للاشقاء العرب في خضم تلك الفوضى التي تعرض لها العراق فبدل تقديم المساعدة لتعضيد دور مؤسسات الدولة وجدنا هناك دعم مالي ولوجستي في ادامة هذا الوضع، بل وصل الحال الى ارسال العديد من الارهابين الانتحاريين العرب لتفجير انفسهم على طائفة دون الاخرى بحجة الجهاد وكان من بين هؤلاء الانتحاريين الكثيرين ممن يحملون الجنسية الفلسطينية التي اثارت حفيضة الكثير من الشعب العراقي اتجاه القضية الفلسطينية. وفي خضم ذلك المشهد ذهبت الولايات المتحدة الى السماح للجمهورية الايرانية للتدخل في الشأن العراقي من اوسع ابوابه مستغلاً في ذلك الاعب الامريكي التوجه الايراني الاثني الذي يقوم على ترسيخ ثقافة مجتمعية ذات مديات دينية اثنية خالصة تعضد حرف المسار في تعزيز الانكفاء عن كل توجهات المجتمع نحو الشعور بالقومية العربية. ولكي تتبلور عملية التصنيع بشكل نهائي ما كان للاعب الامريكي الا ان يقوم بخطواته الاخيرة للوصول الى عملية الانتاج عندما ذهب على دعم تأسيس كيان ارهابي مدعوم مالياً وتكنلوجياً ولوجستياً واعلامياً توازي قدراته قدرات الدولة بكل امكانياتها العسكرية، الذي اطلق عليه اسم تنظيم الدولة الاسلامية في العراق والشام داعش تمكن في تاريخ 10/6/2014 من قضم ثلث الاراضي العراقية واضحت بغداد مهددة بالانهيار في ظل انكسار عسكري نتيجة حالات الفساد المالي والاداري التى ادت الى اضعافه، تتطلب الحاجة الى وجود قوى مساندة على اثرها صدرة فتوى الجهاد الكفائي الشهيرة من قبل المرجع الاعلى السيد علي السيستاني التي تمخضت عنها مجاميع من المقاتلين المتطوعين الذين لعبوا دوراً كبيراً في استعادة الاراضي العراقية، ولكن الاعب الامريكي لم يكن منزعجاً من ذلك والسبب في ذلك يعود الى ان ذلك الحشد المقاتل جاء وفقاً لمخرجات دينية لا تشكل ضرراً كبيراً على الستراتيجية التى عمل من اجلها، وفي ظل تلك الفتوى توفر المقاتل في مقابل شحة الاسلحة شكل ذلك عائقاً كبيراً في خوض المعركة استدعى الامر الطلب من بعض الدول العربية على تقديم الدعم العسكري المتمثل بالاسلحة لكن كان الطلب مرفوضاً منها في المقابل نجد ان الجمهورية الايرانية قدمت الدعم العسكري بكل اشكاله وبوقت قصير هذا الفعل ولد سخطاً كبيراً لدى المجتمع العراقي اتجاه كل القضايا العربية. وبعد الانتصار الذي تحقق في سنة 2017 على تنظيم داعش الارهابي تمخض عنه مجموعة كبيرة من الاضرار النفسية والمادية لاسيما في المحافظات التي احتلتها داعش من دمار وخراب وقتلى وجرى ومخطوفين ونازحين مشردين بلا مأوى ومسلوبي الارادة باحثين عن ادنى فرص العيش الكريم، وبهذا يكون الاعب الامريكي قد انتهى من عملية التصنيع لهذا المكون الى انتاج توجه جديد يتوافق مع الرؤية الامريكية في ظل الظروف الصعبة التى يعيشها المكون في تلك المحافظات.
عملية تصنيع
وبذلك فان عملية التصنيع للبنية المجتمعية العراقية وصلت الى مرحلة نهائية لعملية الانتاج بفعل عمليات التصنيع الى مرت بمجموعة من المراحل من ايديولوجية قومية ردكالية الى دينية ومن ثم الى دينية اثنية وصولاً بها الى الى ايدلوجية تقوم على اهمية الفرد في تحقيق حياة كريمة، وقد يكون هناك طرفاً أو اخر في القيام بأعلان رفضه لهذا التوجه، فيتم معالجته من خلال استغلال السخط الشعبي جراء الممارسات الخاطئة التي قامت بها بعض المتصدرين للمشهد السياسي والاجتماعي التي ادت الى انعدام ابسط سبل العيش الكريم من الخدمات وتوفير فرص العمل في مقابل اعمار وازدهار في المحافظات التي انساقة وفقاً لتوجه اخر المتمثلة بالمحافظات الشمالية والغربية. ويبقى التحدي الاخير لدى الاعب الامريكي هو انهاء الدور الايراني في العراق الذي كلفت به ليكون العراق حليفاً أستراتيجياً للولايات المتحدة الامريكية بلا منافس كموقع جيوستراتيجي وكمصدر غني بالطاقة، ولكن ذلك لا يمكن ان يتم بسهولة مع ايران لأخراجها من اللعبة دون اتفاق امريكي ايراني وهذا يجسد الصراع الامريكي الايراني في الكثير من جوانبه وليس فقط حول الاتفاق النووي.