العراقية سهى الجميلي ونص الانعتاق

العراقية سهى الجميلي ونص الانعتاق
رؤية تشكيلية تنبثق من التعبيرية إلى التجريبية
مؤيد داود البصام
الفنانة سهى ألجميلي في معرضها الأخير في قاعة أكد في شارع أبي نؤاس في مدينة بغداد؟ تضعنا أمام سؤال اين الاختلاف بين السابق والحاضر، لندرك إبعاد الاختلاف بين إعمالها السابقة وإعمالها في معرضها هذا، ويظل سؤالنا محكوم بمدى التطور الذي بنت عليه الفنانة لوحتها، وروح التجريب الذي تشتغل عليه، فهي لم تتوقف عن محاولاتها في إيجاد البعد المتوازي بين الحلم والواقع، عندما يقترب ويبتعد الخطان لحظة دمج الحلم بالواقع أو جعل الحلم ممكن التحقق ، هذه الرؤية البصرية التي تنظر للواقع بعين الحالم، وهو المعمار الذي اتخذته مسارا في بناء لوحتها ضمن الروحية التي تتوق إلى إيصال الرؤيا المتخفية من جمال الطبيعة للرائي وكشف ما لم ير، وهذا التمثل عند الفنانة سهى حالة لمحاولة إعتاق النص من وجوده الواقعي إلى رؤيا تتجسد من خلال الحلم الذي تتوق لتحقيقه، فهي تحرك نصها من الواقعية التعبيرية إلى الواقعية التجريدية، تقوم بتجزئة هذا المعمار لزجه بين المحورين الواقعي والخيالي، باحتواء النص الذي تجتزئه من الواقع ثم تعيد صياغته برؤية جمالية فيها قوة الإدراك للون والخط والإبقاء على النص متخفي بين طيات اللون والخط كمؤشر مدروس في فهمها للخط البياني الذي تتسم به واقعية إعمالها، وتشتمل تجاربها في معارضها السابقة وفي معرضها الحالي على اختبار وتجريب جميع التقنيات لإبراز القيم الجمالية، فخطوطها لا تنح نحو الشد والتكثيف أو الظهور بوضوح لتحديد المسافات، وإنما حديتها قابلة للمرونة مع تحولات اللون، الذي تحاول من خلاله الجمع بين ألوان ممزوجة وألوان نقية لتوضيح هذا الجمال للصورة غير المرئية للمتلقي، وهي محاولات كسر النمط إلى بناء جديد للرؤية البصرية، ومع كل ما تمثله إعمالها التجريدية التعبيرية، الا أنها تنساق نحو تمثل التشخيص كحالة منفردة تعبر بها عن غربة داخلية، تسوق بها متداخلات هذه الغربة التي يشتبك فيها الذاتي والعام، ولكن يبقى بين يديها هذا الحلم الذي تحاول تجسيده عبر اللون والخط، بإخفاء النص وتحييده، لبناء معمار حداثوية للوحة، فيه هذه الدسامة اللونية، فهي تتوق لجعل عملها الفني معبرا عن الوجود الكوني للإنسان، بعيدا عن حالة التأمل الذاتي، وإنما لجر الفضاء الكوني على سطح لوحتها، بالبحث عن التقنية، أو صياغة الشكل حسب رؤاها التأملية، أنها تحاول أن تقول عن عالم الكينونة لا عن أحلامها، فروحية التأمل حددت وجودها بهذه اللغة الجديدة التي تتعامل بها في الحوار بين ذاتها ووحدانيتها وبين العالم.
بناء اللوحة ومدركات اللون
تمتلك الفنانة سهى ألجميلي من خلال استمرارية محاولاتها التجريبية، وما يحدث لديها من انزياح، استيعاب لإدراك القيم اللونية وجمالياتها، وهو ما يوضحه لنا هذا التعارض بين الألوان بخلاف أسس بناءه وتدرجه وقابلية التضاد والتكرار، إننا إذ نقف إمام مجموعة لوحات تستخدم فيها الألوان الحارة، فإنها في لوحات أخر تنزاح نحو استخدام الألوان الباردة، والفضاء المفتوح، والخطوط في لوحاتها تظهر من خلال اللون لا تحديد لوجودها، وهو ما يجعل تقارب النص من روح العمل بشكله الكامل، برؤية شبه هلامية للأشياء، توضح حدود الفكرة بين اسطر مدركات اللون والخط، مع التوازن العام لعناصر اللوحة بشكلها الكامل، وعلى الرغم من ثقل الكتلة لديها ان كان في اللوحات التي تعطي انطباع الكولاج اللصق أو اللوحات التي توحي في بنائها بالشكل الكرافيكي، الا ان الكتلة تبقى محاطة بالفضاء المانح السكينة في الرؤية البصرية، وهو الشئ الذي لا يحرم الكتلة من التوازن مع الفضاء الذي ترسمه بإتقان في بناءها العام للوحة، ومحاولتها تصعيد التركيب المزدوج بين الواقعي والحلمي، هذه الفنتازيات نجدها تتكرر في الكثير من إعمالها، خصوصا في معرضها الأخير، هذه الرؤية البصرية التي نجدها كذلك في لوحات الفنان ضياء العزاوي، الذي يمنح الكتلة هذه الاحتفالية في داخل الفضاء، وهو ما نجده في بعض لوحات الفنانة سهى ألجميلي، بناء غير مقصود النقل أو الاستنساخ ولكنه يقع ضمن إطار الانزياح لاشتغالها على التجريب، المنحى الذي يشكل خروق للخط العام الذي تشتغل عليه، ولكنه يؤشر لنا الانطباع الذي نجده في بعض اللوحات من ضعف في التكنيك في استخدام اللون إذ يظهر لنا مدى تأثرها في محاولة الاستمرارية والجهد الذي تعطيه لبناء لوحتها، وعدم الوقوف عند خط واحد مستقيم، إنما تعمل لإيجاد نوافذ ومسارات متعددة في إعمالها في الزمن المتقارب، وهذا لا يمثل عيبا في رؤية الفنان، أو انتكاسة في المجمل العام لإنتاجه، بقدر ما ذكرناه مما يحدثه الانزياح، ان النتائج الحسية التي توقفنا عليها الفنانة سهى ألجميلي في الرؤية البصرية، فيها هذا الاندفاع لتحقيق الذات عبر دمج العام بالخاص وإيجاد السطوة التي تخضعها إلى محاورة الذات وجرها إلى منعطف الرسوخ والثبات، ودفع القلق إلى الوراء، أنها العلاقات المتضاربة في النفس البشرية للبحث عن الجدوى، ومحاورة العالم من حيث تنتهي الحكاية ولتبدأ حكاية جديدة، للتأمل وإيجاد الموقع في فضاء هذا الكون، ولكن مستحدثات التجربة ومعاناتها شئ والإظهار شئ آخر، لوحاتها تدافع عن نفسها وتغير مساراتها حتى تقتنع أنها لا تخضع للمباشرة والاستنساخ، فتكيف اللون في معمار اللوحة تحكمه هذه الرؤية المتشابكة التي ترنو نحو الانعتاق من إسار المدرسة الواحدة إلى البعد الشمولي في إبراز القيم الجمالية للطبيعة التي تشتغل عليها، ان مكونات بعض لوحاتها التي تحاول فيها دمج مواد مختلفة مع ألوان الاكريليك فيها هذا التركيب الذي يجعلها تتحرر من المحددات إلى رؤية اعم في بناء لوحتها.
ماذا تحقق اثناء التجريب؟
في عملية الجرد لمجموع العمل في معرضها الأخير، هناك إعمال أخذت وسعها في قوة البناء العام وتوازن العناصر، وصلابة في الخط وإدراك لقيم اللون الجمالية، وهي الإعمال التي تمثل استمرارية لتجربة سابقة نضجت لديها لتقدم هذه الانطلاقة الرائعة، وبعض الإعمال لا ترتقي إلى الإعمال التي ذكرناها وهذا متأتي من الانزياح الذي يحدث لدى الفنان في عملية التجريب الأولى قبل الوصول إلى ما يشبه الحرفة، ولكن هذا لا يمثل مؤاخذة أو عيب على إعماله، بقدر ما للنتائج من أهمية، لهذا نؤكد على ان ليس كل عمل ينجز يعرض، إنما يجب ان يمر بفترة اختبار بين وجوده كمنجز وبين تأملات الفنان، ولعامل الزمن سطوة في ذلك في تحديد مسار الخطوة التي سيقدم عليها لاحقا، التوقف أو الاستمرار في التجربة، أو إعطائها إبعادها بعد ان تنضج لديه.
لا شك ان معرض الفنانة سهى ألجميلي الأخير يمثل قفزة في معمارية لوحتها وتطور رائع في رؤيتها للقيم الجمالية للون وفهم واضح لحركة الكتلة والفراغ، وإدراك واعي لكيفية التعامل مع النص، ان الرؤية التي اشتغلت عليها في ترحيل القيم الجمالية الواقعية للطبيعة، إلى رؤى تعبيرية وتجريدية، فيها الكثير من الجرأة والإقدام على الخوض لاستنباط المتعة والدهشة للمتلقي، بحيث لا يأخذها نحو المباشرة أو الاستنساخ، إنما إيجاد موقعها وفرادة عملها، وقد وضح المعرض قدرتها في التعامل مع الكتلة، وكيف توازن الشكل العام، وكذلك إمكانياتها في فهم دلائل اللون وإعطاء مساحة للنص ليبقى له وجود في المحصلة العامة.
AZP09

مشاركة