العجز المائي في العراق

العجز المائي في العراق
سعد سعيد الديوه ي
محمد عبد الفتاح الملاح
وَإِنَّ مِنْ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ 74 البقرة
مقدمة مما لا شك فيه بأن المياه السطحية هي المصدر الرئيسي لاحتياجات الزراعة والاستخدامات الأخرى في معظم أنحاء العراق، ففي السنين المائية المعتدلة يبلغ المعدل السنوي لمياه الأنهار في العراق بحوالي 77 مليار م3» سنة، ونحو 44 مليار م3» سنة، في السنين الجافة، وأن معدل الاستهلاك الحالي لكافة الاحتياجات يقدر بنحو 53 مليار م3» سنة. وأما المصدر الثاني فهو مياه الأمطار، حيث تبلغ المساحة التي يكون فيها السقيط أقل من 100ملم»سنة، بحوالي 10 من المساحة الكلية للعراق وبين 100 ــ 300 ملم»سنة، حوالي 55 من مساحة العراق وبقية المساحة يبلغ فيها معدل السقيط بأكثر من هذين الرقمين. وأما المصدر الأخير فهي المياه الجوفية التي يمكن الحصول عليها بواسطة الينابيع أو بواسطة الآبار الاعتيادية أو الارتوازية وتقدر كمياتها المكتشفة بين 4 ــ 5 مليار م3 في الظروف الاعتيادية، أي حوالي 10 من الاحتياجات الحالية وهي كمية لا يستهان بها، وتشير دراسات أخرى أن هذا المخزون قد يرتفع الى 10مليار م3.
وعليه فالعراق تتحكم فيه ظروف غير مستقرة من ناحية وفرة المياه الصالحة للزراعة والاستخدامات الأخرى، خصوصاً بعد النقصان الشديد في كميات المياه القادمة من بلدان الجوار، والتذبذبات في كميات الأمطار الساقطة بين سنة وأخرى نتيجة التقلبات المناخية في العالم قاطبة والتي يعزوها البعض لمشكلة الاحتباس الحراري. ان وقوع العراق ضمن المناطق القاحلة وشبه القاحلة، وتعوّد الناس على الاسراف في استهلاك المياه قبل هذه الظروف، قد زاد الأمور تعقيداً، وجعلته يعاني من عوز مائي شديد، خصوصاً في الوسط والجنوب مع ارتفاع نسبة الملوحة، فصار يشكل تحدياً خطيراً على مستقبل الزراعة فيه والتي تدهورت الى مستويات لا يحسدنا عليها أحد، بجوانب عوامل أخرى هي خارج سياق هذه الورقة.
وعليه فالتوجه نحو كل السبل لاستغلال المياه استغلالاً مثالياً ومنها المياه الجوفية هو أمر حتمي تفرضه التوجهات الواقعية والعقلانية لارساء أسس التنمية، حتى لو لم يمر العراق، بمثل هذه الظروف، ذلك أن الزيادة السكانية تقتضي توزيع السكان خارج نطاق الأنهار أحواض قدر المستطاع، حيث أن توفر المياه لهذه المناطق موقعياً يكون أكثر اقتصادية من نقله من أمكنة بعيدة، فالاحصاءات الحديثة تدل على أن مياه الاسالة تصل الى حوالي 55 من سكان المدن المتركزة حول أحواض الأنهار، والى 5 ــ 10 من سكان الأرياف فقط، وأن حوالي 15 ــ 20 من سكان المدن يستخدمون مياه الآبار المحلية وأن هذه النسب تختلف من منطقة الى أخرى اختلافاً كبيراً.
علاوة على ذلك فان استهلاك سكان المدن للمياه وللأغراض المنزلية يتراوح بين 80 ــ 100 لتر» يوم، وتنخفض هذه النسبة لدى سكان الأرياف لتصل 20 ــ 30 لتر» يوم، باستثناء الحاجات الزراعية، وهي كلها أقل من المتوسط العالمي لاستهلاك الفرد والبالغ حوالي 200 لتر» يوم، بينما يرتفع هذا الرقم في دولة الامارات العربية المتحدة والتي لا توجد فيها انهار جارية حوالي 350 لتر» يوم. وهي أرقام من الممكن أن تزداد في حالة استغلال المياه الجوفية استغلالاً أمثل
دراسات المياه الجوفية
من خلال تتبعنا لتاريخ الدراسات المتعلقة بالموضوع، فقد تبين بأنه لا يوجد نقص في كمية هذه الدراسات داخل العراق بقدر ما يوجد نقص في توحيد وتنسيق لهذه الدراسات في هيئة واحدة تختص بتقديم الاستشارات والارشادات بصورة سريعة للراغبين باستغلال تلك المياه.
وهذه الدراسات بصورة عامة جيدة وقد أخذت بعين الاعتبار، نوع السريان ان كان تدفقياً أم ارتوازياً أم اعتيادياً وكذلك مستوى الماء الجوفي وعدد الآبار التي من الممكن حفرها لديمومة استخدام المياه، والتصريف المتوقع، ونسبة الأملاح، ومنها قد أعطى ارشادات عن نوعية المحاصيل المطلوب زراعتها.
ففي عام 1958 أختص المجلس الاقتصادي والاجتماعي للأمم المتحدة في قراره 675 د ــ 25 ، قراراً بتنمية المياه الجوفية وركز على مشاكلها باعتبارها من المواضيع ذات الأولوية، عند وضع برامج دراسات التنمية لدول العالم الثالث كافة وأعد تقريراً متكاملاً بذلك، وقد تم نشر الدراسة المتعلقة بالعراق، في الجزء الخاص المسمى المياه الجوفية في شرقي البحر المتوسط وغربي آسيا عام 1960 ، وكانت الحكومة العراقية قد طلبت من شركة رالف بارسونز الهندسية بين عامي 1953 و1957 القيام بدراسة شاملة للأوضاع الهيدروجيولوجية في العراق، والتي أصبحت مصدراً رئيسياً لدراسة الأمم المتحدة المشار اليها أعلاه.
فارتفاع هذه النسب في الاقليم الشمالي عائد لقلة الأملاح وممارسة الزراعة المروية خارج أحواض الأنهر، والذي كان معكوساً آنذاك على شكل توفر المحاصيل الزراعية والمنتجات الحيوانية الصيفية والانتاج الوفير، وتشير بعض تفاصيل الدراسة بأن 70 من قرى المنطقة يتم امدادها بمياه الآبار والينابيع و23 من مياه الأنهار والباقي من مصادر أخرى، بينما في الاقليمين الأوسط والجنوبي، فان مشكلة الملوحة وسهولة الحصول على المياه العذبة المتوفرة آنذاك وانبساط الأراضي قد قلل من هذه النسب بشكل حاد، وهذا بالطبع أحد العوامل المؤثرة بجانب عوامل أخرى أدت لتغيير هذه المفاهيم رأساً على عقب.
وعلى ضوء هذه الدراسات وغيرها، فقد قامت الحكومة العراقية في بداية الستينات من القرن الماضي بحفر 110 بئراً في الصحاري الجنوبية والشمالية، وذلك لتوفير المياه للرعاة والعمل على اسكان البدو الرحل، وأستمرت هذه السياسة حيث تم حفر ما يقارب 3000 بئراً صالحاً للاستغلال في سبعينات القرن الماضي، وعندما أثبتت هذه العملية فعاليتها الاقتصادية، فقد أدى بالمزارعين ومربي الماشية لحفر أكثر من ضعفي هذا العدد يدوياً، فقد كانت أهداف الدراسة والمرتبطة بوزارة التخطيط، تقديم الارشاد والنفع للعاملين في هذا المجال ومساعدتهم آلياً وفنياً في استخراجها.
ان 75 من الآبار التي تم حفرها آنذاك في عموم العراق قد أُستغلت للأغراض المنزلية والشرب و25 لأغراض الزراعة 7 ، وقد زادت النسبة الأولى حوالي عام 2000 لتبلغ 85 وتقل الثانية لتبلغ 15 وذلك لزيادة السكان وتأخر الزراعة عموماً، وهذا يُعد في حد ذاته مؤشر خطيراً على زيادة السكان من جهة وتدهور الزراعة من جهة أخرى. والحقيقة أن الدراسات المتعلقة بالمياه الجوفية ضمن متطلبات الدراسات العليا لم تتوقف في الجامعات العراقية، فهنالك العديد من هذه الدراسات قد تمت في جامعة الموصل وبالتعاون بين أقسام الموارد المائية والجيولوجي والجغرافية، وكل ما تحتاجه هذه الدراسات هي عملية تنسيق متكاملة لكي يتم استغلالها من قبل الوزارات المعنية، كما أن الشركة العامة للمسح الجيولوجي والتعدين العراقية قد نشرت أبحاثاً مرموقة حول هيدرولوجية السهل الرسوبي وهيدرولوجية منطقة الجزيرة ودراسات قيمة في الصحراء الغربية منشورة في مجلة الجيولوجيا والتعدين العراقية IRAQI BULLETIN OF GEOLOGYANO MINING .
وكما ذكرنا فان التنسيق بين هذه الجهود ليس بالمستوى المطلوب، حيث لا توجد على حد علمنا مؤسسة مستقلة تقوم بالتنسيق بين هذه الدراسات وتقديم المعلومات المستحصلة للجهات المعنية بالتخطيط للزراعة أو الاستهلاك البشري على حد سواء، وهذا ما يجب أن تقوم به أقسام مستقلة من الهيئة العامة للمياه الجوفية.
تنمية المياه الجوفية والجدوى الاقتصادية
حيث تشير احدى الدراسات أن متوسط الاستهلاك لبعض المدن الواقعة على الأنهار يتعدى 400 لتر»يوم، مما يعني تبذيراً هائلاً بكمية المياه على حساب بعض المناطق التي لا تصل اليها هذه المياه، والتي لاحظنا متوسط نسبها المتدنية. ان مسألة تنمية المياه الجوفية مسألة يجب أن تكون حتمية في كل المجالات، فقد توقعت دراسة الأمم المتحدة المعدة في أواسط القرن الماضي أن تبلغ نسبة المياه الجوفية المستخدمة في العراق الصالحة للشرب والمشار اليها آنفاً، وللأغراض المنزلية عام 1995 22 من المياه التي يتم تزويدها للمستهلكين، وهذا لم يتحقق بسبب ما مر به العراق من ظروف سياسية قاهرة. وبينت دراسة أخرى عام 1975، بأن تصل أنابيب امداد المياه الى 95 من سكان المدن و80 من سكان الريف في حدود عام 2000م، فيما لو تم استغلال المياه الجوفية بصورة كفوءة بجانب المياه السطحية، ولكن هذا الأمر لم يحصل أيضاً لما مر به العراق من ظروف استثنائية رافقها نسبة استهلاك عالية الفرد في بعض المناطق التي يصل اليها الماء الى 330 ــ 460 لتر»يوم، وهذه الكمية كانت على حساب فئات أخرى لا يصل اليها الماء كما ذكرنا. والحقيقة أن تنمية المياه الجوفية لأغراض الشرب والاستهلاك المنزلي والزراعة يبدو مشجعاً، فالانتاجية بصورة عامة جيدة رغم أن بعضها عميق الى أكثر من 150م مما يزيد من كلفة استخراجها، والذي يشجع على تنمية الاستهلاك للمياه الجوفية وخصوصاً في المنطقة الشمالية وعورة المنطقة وصعوبة ايجاد نظم اسالة تعتمد على الأنهار والروافد التي بدأت يالانحسار بشكل كبير خصوصاً في المناطق المحاذية للحدود الشرقية للعراق، وكذلك نسبة الأملاح المنخفضة في مياه المنطقة الصالحة للاستهلاك البشري والتي تقدر بـ 1500 جزء بالمليون. ان الاستقرار النسبي الذي ساد الاقليم الشمالي عموماً قد شجع استخدام المياه الجوفية، حيث تقدر احدى الدراسات بأن عدد الآبار المحفورة من عام 1990 الى عام 2000 قد بلغ 4000 بئراً، ولكن مع الأسف كانت هذه الزيادة غير متوازية مع تطور ونمو الزراعة هنالك. أما في بقية المناطق فان تنمية المياه الجوفية لغرض الاستهلاك المنزلي والشرب، تصطدم بمسألة الملوحة التي تتعدى الحدود المسموح بها للاستهلاك البشري.
ان الناحية الأخرى وهي الاستخدام الزراعي لاستغلال المياه الجوفية والتي لا يمكن تجاوزها الا بحل مشكلة الملوحة الى حد ما وذلك بزراعة المحاصيل المقاومة واستخدام طرق الري الحديثة، ومع ذلك ففي بقية المحافظات فان الهيئة العامة للمياه الجوفية قد قامت بحفر 1403 بئراً موزعاً على جميع محافظات العراق لأغراض مختلفة عام 2010 ، كما تم فحص 1345 بئراً، أما في عام 2011 فقد تم حفر حوالي 1000 بئراً وفحص 844 بئراً، ما يدل على أن هناك تحركاً ايجابياً في هذا المجال، وهذه الأمور تفرضها الزيادة المضطردة في السكان وارتفاع أسعار المحاصيل الزراعية في العالم قاطبة.
فسكان العالم قد ازداد من 2.5 مليار نسمة عام 1950 الى 6.8 مليار نسمة عام 2009 بصورة عامة وزادت النسبة في العراق بنفس الوتيرة وحدث ارتفاع في أسعار جميع المنتجات الزراعية الأساسية في العالم قاطبة، فمثلاً حصلت زيادة في الأسعار من النصف الثاني من سنة 2007 الى أواخر 2008 بشكل هائل، اذ زاد سعر الذرة 31 والرز 74 والصويا 87 والحنطة 130 ، بينما قبل هذه كان مؤشر صندوق النقد الدولي لارتفاع هذه المحاصيل من 100 في سنة 1990 الى 145 سنة 1996 ثم انخفض الى 75 سنة 2000 ثم عاد وارتفع الى 210 سنة 2008.
النتائج والتوصيات
وهذا يدل على أن العالم أمام مؤشرات خطيرة نستدعي استغلال كل العوامل لزيادة الانتاج الزراعي وضمن هذه المعطيات، حيث أن الزيادة فاقت كل الأرقام السابقة، وبتوفر الطاقة الرخيصة نسبياً في بلد كالعراق فان مسألة استغلال المياه الجوفية لأغراض الزراعة والرعي بعد ايجاد الحلول المناسبة لمشاكل الملوحة تبدو مسألة ضمن الحدود الايجابية للجدوى الاقتصادية لهذه المسألة.
من خلال استعراض الأرقام الواردة في هذه الدراسة، فانه يمكن القول بأن تنمية استغلال المياه الجوفية في العراق للأغراض كافة تعتبر مسألة حيوية ومهمة ويجب أن تؤخذ بنظر الاعتبار عند وضع الحلول لمسألة شحة المياه في العراق.
فالدراسات المتعلقة بالموضوع خلال القرن الماضي وفي هذه الأيام جيدة الى حد ما، ولكنها تحتاج الى تنسيق وتوحيد من خلال هيئة تضم أخصائيين من مهندسين وجيولوجيين وجغرافيين، ثم تقوم هذه بالتنسيق مع القائمين بدراسات حول تنمية المصادر الأخرى للمياه في عموم العراق. وأما مشاكل استغلال هذه المياه وخصوصاً عمقها عن سطح الأرض ومقدار الأملاح فيها ونوعيتها فيجب أن تكون من أولويات كل دراسة تتعلق بالموضوع، ووضع الحلول لمعالجة مسألة الأملاح قبل استخدامها بالتعاون مع الهيئات والمختصين في هذا المجال، فمشكلة ازالة الملوحة من المياه الجوفية مسألة لا يمكن تجاهلها، ويمكن التخفيف منها بزراعة المحاصيل المقاومة للملوحة، حيث يبرز الدور الفعال الذي يجب أن يلعبه الأخصائيون في علم المحاصيل ومهندسو الري الذين يقررون طرق الري الواجب اتباعها على أسس علمية. وعليه فالعملية يجب أن تكون متكاملة من جميع الأطراف التي لها علاقة بالأمر، والحقيقة أن من أكثر المناطق المرشحة للاستثمار والتنمية ضمن هذه المعطيات هي منطقة بادية الجزيرة والتي تبدأ من سنجار باتجاه الجنوب الشرقي، حيث نوعية التربة جيدة والمياه فيها متوسطة الغزارة، ونوعيتها بين متوسطة الى رديئة كما يبلغ تركيز الأملاح بين 3000 ــ 10000 جزء بالمليون والكثافة السكانية لا بأس بها خصوصاً أن المنطقة قد شهدت تراجعاً كبيراً لا يستهان به في كميات المياه المستخرجة من الآبار القديمة، أدى الى تدهور الزراعة الاروائية هناك.
جامعة الموصل ــ كلية الهندسة ــ قسم هندسة الموارد المائية
/4/2012 Issue 4172 – Date 12 Azzaman International Newspape
جريدة الزمان الدولية العدد 4172 التاريخ 12»4»2012
AZP07