محمد زكي ابراهيـم
كثيراً ما تساءلت، وأنا أرى ما يجري في بلادنا من حوادث محزنة، وما يمارسه الناس فيها من سلوك مؤلم، عن الوسيلة المثلى للتغيير. وكيف يمكن أن يتحول العراق إلى دولة متقدمة، يتخلى فيها المجتمع عما ألفه من قيم وأعراف وتقاليد قديمة.
وأنا لست أول من ضاق ذرعاً بمثل هذه الحال، ولن أكون الأخير بالطبع. فقد كانت نصب عين النهضويين العرب في أواخر القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين. وكانت العقبة التي تحول دون أن تصل دعوتهم إلى الجميع، هي الأمية. وبمرور الوقت، تحقق بعض التقدم على يد الحكومات المتتالية التي مرت على العراق. وكان الفضل في ذلك يعود لعامل مهم هو التعليم الذي أحدث هزة كبرى في المجتمع.
كان السلوك العشائري المتزمت سمة طاغية على الريف العراقي، الذي ابتلع المدن، وهيمن على الحياة فيها، في النصف الثاني من القرن الماضي. وبدلاً من أن تتخلى العشائر المهاجرة عن سلوكها ، وتندمج في حياة المدينة، إذا بها تفعل العكس. وتقوم بترييف المدن، بحكم الطوفان العددي الكاسح.
وبشكل عام، لم يستطع السكان الجدد الانسجام مع نمط الحياة المنظم في المدينة، وكانوا على الدوام عناصر ضاغطة على مسيرة التطور. وبقيت مناطق سكناهم تتسم بالفقر والعوز. إلا أن عاملاً مهماً غير قليلاً من المعادلة، وفكك كثيراً من عقدتها، وهو الاتجاه نحو التصنيع في عقدي الستينات والسبعينات من القرن الماضي. والشروع ببناء المصانع الضخمة، وإلى حد ما نشوء القطاع الخاص الصناعي أيضاً. وأدى ذلك مع جملة عوامل أخرى إلى توهين الرابطة العشائرية. ولو إلى حين.
لم تمر سنوات حتى تحولت المدن إلى مجمعات تجارية. وأقفلت الحرف والصناعات أبوابها. وتبع ذلك ارتداد المجتمع إلى الوراء وقطع أي صلة بالحداثة. وعادت الأتاوات من جديد. وبلغ الأمر ذروته في تصفية عدد من موظفي الشركات الحكومية، لمنعهم من أداء أعمالهم، أو فرض الأتاوات الهائلة على الشركات المقاولة. فالعشائر تؤمن أن الحيز الذي تقطن فيه، هو ملك صرف لها ولأبنائها، دون سواهم من العالمين.
إن الحل الوحيد لتحويل المجتمع العراقي إلى مجتمع متمدن هو التصنيع، الذي جرى تفكيكه بفظاظة. فوجوده يعني سيادة قيم العمل والإنتاج التي انهارت تماماً. ذلك أن الاتجاه إلى الصناعة ليس ترفاً، ولا خياراً ثانوياً، بل هو ضرورة قصوى للتحديث، وإنعاش الاقتصاد، وتقليل هدر العملة.
والأهم من ذلك كله أنه يسهم في تغيير المجتمع تغييراً شاملاً، ليتحول من مجموعة عشائر متناحرة، تعيش على مفردات الغزو والتعصب والجهل، إلى قوى عاملة، قادرة على تطويع الآلة، واكتساب الخبرات، وفهم متطلبات التقدم.
لا يمكن التعويل كثيراً على السياسة، ولا على النخبة المتعلمة، ولا على الإعلام، ولا على المظاهر الديمقراطية. فهي أمور ثانوية جداً بالنسبة إلى ما تحدثه عملية التصنيع المنظم من تأثير في النفوس والعقول والأفكار. وليس ثمة سبيل لذلك سوى الحماية الحكومية المباشرة التي تجعلها قادرة على الوقوف في وجه الأعاصير.