الشطرة قبلة الشعر
الشعر نشاط وجداني نابع من صميم الشعور الانساني ومتفاعل معه ليس بالضرورة ان يكون معبراً عن ما يدور حوله بدقة متناهية وانما يتبع ذلك ارهاصات الشاعر وولاءاته وما يضيفه الشاعر من ملكته الشعرية لكي يضفي على نتاجه صور تجتذب اليها من يقرأه ويتذوقه، ويقال سابقاً ان اجمل الشعر اكذبه وقد جاءت هذه العبارة لتؤكد حقيقة ما ذكرنا سلفاً.
وقد خضع الشعر عبر تاريخه الى مدارس مختلفة بدءاً بالدادائية مروراً بالرمزية والتعبيرية والواقعية ومدارس اخرى، وقد كتبت اعظم الملاحم واروعها باسلوب شعري رائع ساهم بشكل فعال في انتشارها وتقبلها من الجمهور على مختلف مستوياته، اما في المسرح فقد كان للشعر اثر كبير في ظهور نمط معين من المسرح فاق في اسلوبه وذياع صيته المسرح الكلاسيكي المتعارف عليه واخص بالذكر مسرح شكسبير الذي دخل الى عقول وقلوب الناس دون استئذان برغم فقدان النص الى بعض شاعرية الكلمة ومعناها جراء عمليات النقل والترجمة الا انها حافظت على قدر عظيم من اسلوبها وطريقة وصفها للحوادث الدرامية الممتعة.
واود هنا ان اشير الى ان الشعر قد كتب بطرق والوان مختلفة تناغمت مع معطيات العصر الذي كتبت فيه واذكر منها شعر الغزل والفخر والهجاء والمديح والوان اخرى يطول ذكرها، وفي وطننا العربي كان الشعر يشكل جزءاً من حياة الناس ونشاطاتهم الاجتماعية وقد كتب بدءاً باللغة العربية الفصحى واطلقوا عليه بالشعر العمودي او القريض وقد تفننوا في كتابته واوجدوا له صيغاً جديدة لضبط اوزانه اسموها (بحور الشعر) التي جمعها الخليل بن احمد الفراهيدي.
اما اللون الاخر فهو الشعر الحر الذي ظهر لاول مرة في الوطن العربي في بدايات القرن الماضي ليضيف الى الشعر العربي لون اخر وحلة جديدة اخرجته من ثوبه العربي والاسلامي لتتلاقح مع نتاجات شعوب العالم بطريقة واسلوب الكتابة الجديد.
وهناك ايضاً خصوصية شعرية لكل بلد بل لكل منطقة داخل البلد الواحد في كتابة الشعر حيث اللهجة الشعبية المشتركة ظهر من خلالها اسلوب جديد في كتابة الشعر وتداوله وانتشاره بشكل سريع فاق في كثير من الاحيان انتشار قصائد رائعة كتبت باسلوب الشعر القريض لسهولة تلقي المفردة الشعرية الشعبية وفهمها والنطق بها لانها جزء من لغة التفاهم بين هذه الشعوب اضافة الى انها العصب الرئيس في انتشار فن الغناء الذي اطلق عليه انذاك بالغناء الريفي.
وقد اخذ التخصص في هذا اللون من الشعر طابع لكل منطقة واسلوب لها والان موضوع اليوم هو الشعر في مدينة الشطرة فلابد ان اذكر ان هناك اجيال من الشعراء تعاقبت على كتابة هذا اللون من الشعر وابدعت به بدءاً بجيل الرواد الذين وضعوا بصمتهم على النتاج الشعري لهذه المدينة انتهل منه جميع من كتب الشعر من بعدهم لعذوبة اسلوبهم واصالة منبعه ولو خصصنا لكل واحد من هؤلاء مقال لم نفي بجزء يسير من نتاجهم الغزير والرائع وسوف اذكر بعض من هذه الاسماء التي حفرت في ذاكرة اهل الشطرة ومن استمع اليهم طريق اقتفى على اثره من تبعهم من الشعراء واذكر بالخصوص منهم هاشم فليح وعبد الواحد الهلالي وعبد الله الشطري وحسن معيوف ودحام جبار وجواد الجياشي وجبار خضر وعلي موسى ومطشر شليج واخرين لم تحضرني اسماءهم جميعهم كتبوا الشعر بالوانة المختلفة كالابوذية والدارمي والموال الزهيري والتجليبة والهجع والميمر والوان اخرى من الشعر الشعبي.
ثم تبعهم جيل اخر من الشعراء هم جيل نضجت شاعريتهم وغزر عطاءهم في سبعينات القرن الماضي وكان معظمهم من خريجي الكليات والمعاهد الذين كتبوا الشعر باسلوب اخر اضاف الى اصالة شعر الرواد بعض من عذوبة المفردة الاكاديمية الحديثة التي اعطت للشعر رونقاً واسلوباً جديد واذكر منهم الشعراء خالد عبد الحسين وخالد الشطري وزامل سعيد فتاح وشاكر حسن وكامل سواري ورحيم الغالبي وعاطف ذياب وحامد الشطري واخرين، وقدم هؤلاء الشعراء اضافة لما تقدم القصيدة الشعرية والغنائية بطريقة اختلفت بعض الشيء عن قصائد جيل الرواد بسبب ان من كان انذاك في الساحة الشعرية العراقية هم من افضل شعراء العصر في الشعر الشعبي واذكر منهم بالخصوص الشاعر الستيني المتجدد والمتالق بكل الوان الشعر الشعبي والفصيح هو المبدع مظفر النواب كذلك عريان السيد خلف وكاظم اسماعيل الكاطع واسماعيل محمد اسماعيل وكريم العراقي وكريم راضي العماري واعلام اخرى اخذت القصيدة والاغنية العراقية شكلها الجديد ومضمونها من نتاج هؤلاء الشعراء الكبار.
واستطيع القول ان شعراء مدينة الشطرة كانوا محظوظين بعض الشيء لوجود مثل هؤلاء الشعراء من جيلهم لكي يدخلوا من باب المنافسة والطموح للوصول الى اعماق النفس البشرية المغرمة بالوان الشعر ووجدانيته.
ثم تلا ذلك جيل اخر من الشعراء سيء الحظ لاقحامهم بحرب ضروس دامت مدة طويلة اكلت الاخضر واليابس كما يقال واجهزت على الكثير من الاحبة والاصدقاء مما اضفى على شعرهم صبغة الحزن والانفعال الا انهم ابوا الا ان يرفدوا مكتبة الشعر الشعبي بابيات وقصائد برغم محدوديتها لكنها بصمت بصمتها انذك وتنوع نتاجهم الشعري فكان الموال الزهيري احد اهم سماته كذلك الشعر الحر الذي ابدع فيه البعض منهم واخص بالذكر كريم جبار وعبد الواحد ناصر وفي شعر الابوذية والموال كان جمال الصفار ومحمد الق عقاع وكريم السيد وعلي خيون وعلي الحقجي وخضير السنجري واخرين.
ولو كلف احدنا نفسه بجمع النتاج الشعري للاجيال السالفة الذكر لخرجنا بمكتبة للشعر الشعبي يقف امامها كل من له ذائقة شعرية بتقدير واحترام لغزارة الانتاج وجمالية الاسلوب وعفوية المفردة التي اصبحت سمة هذه المدينة الصغيرة الحالمة على ضفاف نهر الغراف ولون خاص بها في الشعر والغناء.
وبعد ان استذكرنا على عجالة بعض من تراث مدينة الشطرة لنصل في النتيجة الى محصلة جامعة بين صحبة الرواد واكاديمية جيل السبعينات وحزن جيل الثمانينات بجيل جديد ظهر على حين غفلة من الزمن لم يكن في الحسبان الا انه صعق المتلقي باسلوب شعري حديث كان عصارة نظيفة لشعر الاجيال الثلاثة السابقة الذكر وطريقة في الكتابة لا يسع الناقد الشعري والمتلقي الا ان يقف امامها بتقدير واعجاب وقد ابدع هذا الجيل الشبابي في كتابة القصيدة والومضة والابوذية والدارمي بطريقة تلفت النظر وتبعث على الشعور بالفخر والاعتزاز لوجود مثل هؤلاء الشباب في مدينة لا تتجاوز مساحتها 6 كلم على الارض ولكنها كبيرة بل رائعة جداً في العطاء فقد كتبوا في شعر الغزل كما كتب دوقلة المنجبي وفي الرثاء كما كتب المتمم بن نويرة وفي الخمر كما كتب ابو نؤاس ومظفر النواب وفي الاغنية كما كتب زامل سعيد فتاح نتاج وفي الشعر الحسيني كما كتب عبد الحسين ابو شبع ولكن بطريقتهم الخاصة واسلوبهم الذي يستأنس به من كان مكلوم الحشى ولهان. ويؤسفني اني لا اعرفهم بالاسماء ولكني اكثر المعجبين بنتاجاتهم الشعرية وسوف يكون لنا محطات شعرية نقف عندها امام كل واحد من اولئك وهؤلاء.
كريم الرماحي – بغداد
AZPPPL