السنارة- فارس السردار

 ‎فارس السردار

في يوم تشريني مشمس ، من اواخر القرن الماضي، طرق الباب ساعي البريد، الذي نادراً ما يطرق بابنا. لأن الصلة بالعالم الخارجي كان يؤمنها الهاتف الارضي. كما ان العائلة لم تتشظ بعد في البلاد. قدم لنا ساعي البريد كارتاً داخل غلاف مفتوح، وكان المضروف يحمل عنوان دارنا. هيمن الفضول على دواخل كل من في الدار. حتى تجرأ أحدهم واقتحم الغلاف المفتوح، مخرجاً منه صورة لعروسين اطلا عليه وكل منهما يتكئ على كتف الاخر في لقطة اريد لها ان تكون حميمية او مغرقة بالرومانسية، معززين ارتباطهما الازلي بباقة ورد بيضاء نظرة،مع ابتسامة هي الاكثر جموداً فيما رايت في حياتي. هذا الاستنتاج جاء لاحقاً، من شدة ما تأملت الصورة، محاولة مني لمعرفة صلة الارتباط التي دفعتها الى باب داري.

التفت الى الجميع سائلاّ: هل يعرف أحد منكم أي منهما؟!.

جاءت الاجابة: بلا..

تناولت المضروف لأقرأ أن الرسالة  معادة من مجلة التضامن التي كانت تصدر في لندن حينها.

نعم كنت ارسلت رسالة الى مجلة التظامن تتظمن مشاركة في مسابقة القصة القصيرة التي لا تتجاوز عدد كلماتها المائة كلمة وكان عنوان الفصة « بقايا جثة « .

في ظهر الصورة يخبر العروسان ذويهما بان حفل زواجهما كان مبهراّ. وانهما اقاماها في الاحد الاول من وصولهما الى لندن، وانهما سعيدين ببعضهما. وان الحياة هنا هادئة ورخية فلا صور من المعركة ولا صوت طائرات مغيرة. متمنين للعراق ان يحضى بالامان قريباً، ولاهليهماوذويهما وكل الاصدقاء السلامة، مع خالص الامنيات الحارة. الصورة رافقتني طويلا، الى أن اهتديت لزيارة مبنى دائرة البريد في النبي شيت، والتفيت الرجل المسؤول عن الرقابة، وفهمت منه انهم لا يمارسون فتح المظاريف او الاطلاع على محتوى الرسائل او الكروت في حالتي الارسال او الاستلام، لان الامر ليس من صلاحياتهم. واكد لي ان مثل هذه الممارسات تحدث في البريد المركزي في بغداد حصراً. وفسر لي ان المظاريف قد تكون ابدلت فوصلتني الصور وذهبت رسالتي الى ذوي العروسين. لكن الرجل المسؤول تسائل وانا في ذروة انشغالي لفك شفرة ما حدث. لجواب رسالتي التي قد تكون اشعار من المجلة بفوز قصتي بالمسابقة العربية التي تبنتها مجلة التضامن. كيف تسنى لهذين العروسين الخروج من العراق في مثل هذه الظروف.؟! لم انتبه لسؤاله في ذلك المقام لاني كنت اتحرق لمعرفة رد التضامن عن رايهم في قصتي القصيرة او المرتبة التي حصلت عليها. خاصة وان تجربة كتابة نص من مائة كلمة  كانت تجربة لم يسبق لي الولوج فبها. وربما كانت التظامن تريد ان تؤسس لنمط القصة القصيرة جداّ التي اضطلعت بها الكاتبة الفرنسية نتالي ساروت، ومن ثم بات هذا النمط من الكتابة جنساً ادبياً جديداّ. لذلك كنت حريصاً على الفرصة التي اقتربت مني كثيراً وطرقت بابي عبر مشاركتي في المسابقة. لأكون احد طلائع هذا الجنس الأدبي فيما لو كان نصي قد اشر الى ومض ما في فضاء ذاك النمط من الكتابة وحقق اي مرتبة. في ذاك النهار التشريني المشمس ذاته كانت طائرات الحلفاء تخترق الاجواء وتحدث خدوشاً في صفاء سمائنا الازرق. لأن التحالف الدولي الثلاثيني وقتها كان قد فرض على العراق حضراً جوياً الى حدود خط عرض حماية لأقليم كردستان والذي هو بالمناسبة خط الهدنة في نهاية الحرب العالمية الاولى بين الاتراك والانكليز. الان وتحت نفس السماء الصافية من تشرين ما تزال تحلق طائرات التحالف ، تحت ذريعة انها تترصد داعش وتحركاتها وتستهدف نشطائها. وفي الوقت نفسه وبعد تشتت العائلة بعض منها في اقليم كردستان والبعض الأخر في عمان والاخرين في تركيا او دبي وقسم وصل الى كندا وامريكا وحتى السويد. بتنا لا نملك اي وسيلة اتصال لا عبر بريد ورقي تقليدي لان هذا النظام يبدو انه تنحى امام تقدم التكنلوجيا واغلقت مكاتبه. ولا عبر الهاتف الارضي الذي دمرت بدالاته الارضية على مدار هذه السنوات المكتظة بالحروب والحصارات والاحتلال. الا ان التقدم التكنلوجي انقذنا اخيراً بمنجزيه الهائلين الاول ممثلاً بالهاتف النقال ، والثاني بالانتريت وكل ما يحتويه من تطبيقات اتصال. لكن داعش وجد نفسه موضع تهديد من قبل هذه الوسائل  الحديثة للاتصال فمنع العمل بها  ونفذ عقوبات الاعدام بحق المخالفين لاوامره بحجة التخابر مع جهات اجنبية عدوة وتسريب معلومات امنية. وبات من يعثر بحوزته على سيم كارت لاي من الشركات العاملة كان تكون كورك او اسيا سيل او اي شركة اتصال اخرى في خطر شديد. ولم يكتف بذلك بل حاصر شركات الانترنبت وقيدها باشتراطات تعجيزية قاسية الى ان اوقفها عن العمل. وكان قبل ذلك قد سحب من المواطنين كل ما يملكونه من اطباق الستلايت وتوابعها. حتى هوائيات التلفاز التي لا تؤمن سوى القنوات الناطقة باللغة الكردية. فاطبقت الظلمات من كل جانب.

بقي ان اخبركم أني كنت قد نشرت قصتي القصيرة بقايا جثة  ذات المائة كلمة تحت عنوان آخر أقل قسوة واكثر حيادية لاسخف من خلالها اي معنى يراد له ان يكون نبيلا لما تقوم به اي حرب .وكان عنوانها السنارة.

فارس السردار

مشاركة