السلام المتعثر

السلام المتعثر
ماهر الجعبري
يعرض هذا المقال مرحلة الانتخابات الفلسطينية الأولى التي تم فيها تشريع الخيانة ، وما رافقها وما تلاها من أجواء سياسية محلية واقليمية، وذلك ضمن سلسلة قضية فلسطين.
تمثلت البداية العملية لتلك المرحلة باجراء الانتخابات الفلسطينية العامة الأولى عام 1996، وهي التي تمت كاستحقاق لاتفاقية أوسلو الأولى اتفاقية أوسلو اعلان المبادئ حول ترتيبات الحكومة الذاتية الفلسطينية 13»9»1993 ، التي نصت ضمن البند الثالث منها على أن تجري انتخابات سياسية عامة ومباشرة وحرة للمجلس المنتخب للشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة تحت اشراف متفق عليه ومراقبة دولية متفق عليها، وذلك حسب صيغة محددة ومتفق عليها مع اسرائيل ، وأن الانتخابات ستشكل خطوة تمهيدية انتقالية هامة نحو تحقيق الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني ومتطلباته العادلة .
وبالطبع، فضحت تلك النصوص في الاتفاقية خطة الانتخابات التي تهدف الى تجديد التفويض لقيادات المنظمة ورجالات السلطة لاستكمال مخطط تصفية قضية فلسطين عبر مسار أوسلو، ولم تكن بحاجة الى جهد سياسي خاص لكشفها من شدة صراحتها أو وقاحتها . فوقفت كافة القوى الاسلامية، ومنها حزب التحرير وحركة حماس وحركة الجهاد الاسلامي، والعديد من التنظيمات الفلسطينية ضد انتخابات السلطة، وتبلور رأي عام قوي ضد المشاركة فيها ترشيحا وانتخابا، اذ اعتبرها الجميع تنفيذا لاتفاقية أوسلو الباطلة، وخصوصا أن الاتفاقية حدّدت دور المجلس المنتخب بالسير ضمن حدودها، حيث نصت أن كل عضو في السلطة الوطنية الفلسطينية ينضم الى وظيفة بعد التعهد بالعمل طبقاً لهذه الاتفاقية اوسلو 2 القاهرة 4»5»1994 .
وحسب تلك الخلفية السياسية للانتخابات، ولأنها جرت كاستحقاق لاتفاقات باطلة شرعا تُرسّخ كيان الاحتلال على أرض فلسطين، كانت حرمة المشاركة فيها جلية واضحة، حيث أن الأعمال التي تمكّن المحتل من بلاد المسلمين محرمة بحسب قول الله تعالى وَلَن يَجْعَلَ للَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى لْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ، وهي آية في سياق خبري تفيد الطلب من المسلمين لعدم تمكين الكافرين المستعمرين من المسلمين ومن بلادهم، ولذلك تلاقت القوى الاسلامية وغيرها في فلسطين على رفض المشاركة في تلك الانتخابات.
وفي هذا السياق أصدرت حركة حماس بيانا بيان حماس بشأن نتائج انتخابات الحكم الذاتي 24»1»1996 ، رفضت فيه الانتخابات التي اعتبرتها صورية جرت تحت حراب المحتل ، ووصفتها بأنها انتخابات أوسلو ، وأنها انتهت بتكريس قبضة سلطة الحكم الذاتي ذات التوجه السياسي ، وأكدّت على التلاعب في الانتخابات. وكان ذلك البيان لافتا في حينه من حركة حماس، كما تمت الاشارة الى نداءها السابق تعليقا على انعقاد مؤتمر مدريد، ضمن الحلقة السابقة من هذه السلسلة ، وهو ما يستوجب أيضا استحضاره لدى متابعة ما استجد في المشهد الفلسطيني.
وفازت حركة فتح فيها على نفسها بأغلبية المقاعد في المجلس التشريعي، وفاز رئيسها ياسر عرفات رئيساً للسلطة بأغلبية 88 ، بعدما نافسته فيها عجوز فلسطينية. وأنجبت المنظمة سلطة، أخذت تنمو سياسيا وتبتلع أمها التي أنجبتها من سفاح، حتى صارت السلطة سيدة الموقف، وواجهة الحدث السياسي الفلسطيني.
وافتتح ذلك المجلس التشريعي المنتخب سجل جرائمه باقرار تعديل الميثاق الوطني الفلسطيني بتاريخ 24»4»1996، بعدما أكّد رسائل الاعتراف المتبادلة مع الكيان الاسرائيلي ، وقرر الغاء المواد التي تتعارض مع تلك الرسائل المتبادلة. وكان المجلس الوطني قد توقف عن الانعقاد لمدة ثلاثة سنوات بعد اتفاقية اوسلو، بعدما كانت بعض الفصائل المعارضة للاتفاقية، قد دعت في حينه لعقده من أجل اتخاذ موقف الرفض من الاتفاقية ولكن قادة المنظمة منعوا عقده لعدم سحب البساط من تحت أرجلهم، وأجلوه حتى طبخوا تلك الانتخابات الفلسطينية لشرعنة جريمتهم. وكلّف المجلس التشريعي لجنة قانونية باعادة صوغ الميثاق الوطني الميثاق الوطني الفلسطيني وتعديلاته ، فكان ذلك الانبطاح التشريعي انجازا تاريخيا للسلطة المنتخبة في زمن قياسي في غضون ثلاثة أشهر ، مما أضاف تأكيدا حول الغاية الوسخة خلف انتخابات السلطة، والتي تتركز في استكمال مخطط مسيرة تصفية قضية فلسطين، واعطاء تفويض للمفرّطين. وكان شمعون بيرز قد تحدث عن موضوع الغاء 33 مادة من الميثاق الوطني الفلسطيني، وعلى احداث تغييرات جوهرية في مبادئ منظمة التحرير الفلسطينية، وذلك في كتابه شرق أوسط جديد الذي صدر في العام 1994، أي قبل انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني بعامين، وهو ما يؤكد أن ما يجري من انتخابات تحت الاحتلال هو في النهاية لمصلحة ذلك الاحتلال وضمن مخططاته.
وقد كان من المخطط أن تُستكمل الجريمة من خلال احتفال كبير يحضره الرئيس الأمريكي كلينتون مباشرة بعد قرار المجلس التشريعي في العام 1996 مع عدد من الزعماء الأوروبيين وبحضور رابين، كما نقل عن ستون أندرسون حصاد ثمانين عاما من الكفاح ، ولكن مفاجأة اغتيال رابين عطلت ذلك الاحتفال، وتم تأجيل الاعلان الرسمي عن تغيير الميثاق الوطني والذي تم لاحقا بحضور كلينتون في العام 1998 .
وبعد تعديل الميثاق الوطني، أرادت أمريكا متابعة السعي لاستكمال خطوات الحل، وزاد اهتمام أمريكا بمتابعة القضية، وباشر الرئيس الأمريكي كلينتون سعيا حثيثا للتقدم بملف التسوية، ولكنها تعطلت لأسباب عدة
مع احتدام العمليات الاستشهادية، تم عقد مؤتمر شرم الشيخ لمكافحة ما سمّوه الارهاب في آذار 1996 بحضور 70 دولة، وشاركت فيه السلطة الفلسطينية، وذلك لدعم اسرائيل في التصدي للمقاومة وفي محاصرة حركات المقاومة وتشكيل لجنة عمل لذلك الغرض البيان الختامي المؤتمر الدولي لصانعي السلام ، مع أن حماس أخذت تطلق اشارات للمجتمع الدولي تبرر فيها العلميات الاستشهادية بأنها للدفاع عن النفس، وحاولت في حينه خطب ودّ المجتمعين، وأبدت استعدادها لقبول وساطة المؤتمرين في القمة لانهاء الاحتلال الاسرائيلي للأراضي الفلسطينية ، وأعلنت أنها مع السلام القائم على الحق والعدل واعادة الحقوق لأصحابها مذكرة حماس الى قمة شرم الشيخ . وكانت تلك المذكرة بداية الانقلاب العلني في الخطاب على منطق رفض المؤتمرات الدولية كما جاء في نداء حماس ضد مؤتمر مدريد الذي تم ذكره في الحلقة 11 من هذه السلسلة .
لم تجد مذكرة حماس صدى لدى المؤتمرين، وأخذت السلطة دورها في التصدي للمقاومين، وفي اتهام حركة حماس بوجود صلات خارجية مع ايران بل حتى مع المتطرفين الاسرائيليين ، على حد تعبير عرفات بعد أيام من عقد مؤتمر شرم الشيخ.
وتزايدت فضائح قيادات السلطة في التعاون الأمني مع الاحتلال بعد مؤتمر شرم الشيخ، فمثلا نشرت جريدة الحياة في 17»4»1997 أن عرفات قال لديفيد ليفي على هامش مؤتمر مالطا أعمل لمكافحة الارهاب ولقد أوقفت العديد من المتهمين فرد عليه ليفي أتمنّى أن تؤخذ اجراءات مشتركة ضد المتطرفين، لقد علمت بحادث ارهابي اليوم، لذا عدنا وأغلقنا الأراضي هذا الصباح ، فقاطعه عرفات قائلاً نحن أحطناكم علماً بذلك فقال ليفي يجب أن نتعاون في قطاع الأمن مجلة الوعي العدد 120 .
وكالعادة، رد الحكام العرب على تلك الجريمة النكراء باتفاقهم على دفع عملية السلام في قمة جمعت عرفات والملك حسين ومبارك في الأردن في حزيران 1996، بعد لقاء عرفات مع كلينتون في واشنطن في أيار 1996.
ولكن فوز الليكود وتشكيل حكومة اسرائيلية برئاسة نتنياهو، عرقل الجهود الأمريكية رغم الانبطاح التام من المنظمة ورغم لهث مصر والأردن. ومن المعلوم أن حزب الليكود أكثر تطرفا في نظراته التوسعية، وفي رفض أي شكل لكيان فلسطيني يحمل معاني الدولة ولو على الورق، ولا يقبل بغير الحكم الذاتي تحت السيادة الاسرائيلية، ولا يوافق على الانسحاب الكامل من الجولان، في حين يتقبل حزب العمل نظريا دويلة فلسطينية منزوعة السلاح تمارس صلاحيات ادارية، دون سيادة حقيقية، ويقبل بمبدأ الانسحاب الكامل من الجولان لدى تحقيق المطالب الأمنية للكيان . ظلّت أمريكا تعمل على حل قضية الشرق الأوسط حسب مبدأ تلازم المسارات، وحرصت على أن يسبق المسار السوري وتابعه اللبناني مسار التسوية مع الفلسطينيين أو أن يتزامن معه، ولكن ذلك المسار لم يتقدم لأن اسرائيل مارست التفاوض برؤية تستهدف الاختراق الاقتصادي والتطبيعي وساعدتها على ذلك بريطانيا .
وعلى أساس تلك العقلية الاسرائيلية الأمنية، تتابعت الاتفاقيات التفصيلية ما بين السلطة واسرائيل لتزيد طين السلطة بلة، فجاءت اتفاقية الخليل في كانون ثاني 1997. وخلال المفاوضات حول اتفاقية الخليل، كانت أمريكا تجهد في استعادة مبدأ تلازم مسارات الحل، وخصوصا في ظل تعثر المسار السوري أمام تعنت اسرائيل بعد عودة حزب الليكود للحكم مما تتناوله الحلقة التالية من هذه السلسلة ، لذلك عرقلت أمريكا تلك المفاوضات وحشرت أنفها في كافة تفاصيلها من أجل تعقيدها، وكانت تدفع اسرائيل للتشدد، فيما كان مبارك سمسار أمريكا يدفع الفلسطينيين للتشدد، وذلك من أجل اطالة الأزمة، وقد ذكرت مجلة السياسة الدولية في العدد 134 أن رئيس لجنة العلاقات الدولية بمجلس النواب في الكونغرس الأمريكي بنيامين جيلمان عرض تقريرا سنة 1997 على لجنة العلاقات الدولية بالمجلس أكّد فيه أن مصر كانت تعرقل جهود التوصل الى اتفاق الخليل، وأنها ظلت الى ما قبل أربع وعشرين ساعة من توقيعه تبدي معارضتها له مجلة الوعي العدد 139 .
وشرخت تلك الاتفاقية مدينة الخليل الى قسمين، مع ترتيبات أمنية معقدة لحماية اليهود الذين سيطروا على قلب المدينة وأقاموا فيها كنيسا يهوديا، وجعلت حياة الناس فيها لا تطاق، وقد رسخت تلك الاتفاقية فكرة اسرائيل في تقطيع أوصال مناطق الحكم الذاتي كما فعلت في اتفاقية طابا 1995 مشاريع التسوية السلمية للقضية الفلسطينية . وزرعت أمريكا ألغاما لعرقلة تنفيذ الاتفاقية من أجل ربط الحلول وتلازم المسارات.
وظل المفاوضون في المنظمة يوقعون على كل ما هو مذل لهم ويضر بأهل فلسطين، من تنسيق أمني ومن تمزيق للبلاد، فيما تابعت اسرائيل تنفيذ مخططات الاستيطان. وفي المقابل، ظلت العمليات الجهادية في تصاعد مستمر، ولم تكن فصائل المقاومة الاسلامية على وجه الخصوص قد أفسحت لها مكانا ضمن الأروقة الدولية على ساحة الحلول السلمية. ولذلك صعّدت اسرائيل من قمعها ومن جرائم القتل والتصفية للقادة الميدانيين في المقاومة. وفي تلك الأثناء، بدأت رائحة فساد رجالات السلطة تنتشر، حيث تكشّف عدد ممن اعتبروا أنفسهم من المناضلين القدامى عن نماذج مهترئة من الموظفين المأجورين والمندفعين نحو مصالحهم، وكشف بعضهم عمّا تمرس به من فساد ضمن أجهزة المنظمة قبل السلطة، وتعالت الأصوات الفاضحة والمطالبة بالمحاسبة والتغيير منها أن تقرير المراقب لميزانية السلطة الفلسطينية في أيار 1997 أبرز اختفاء ما يزيد عن 300 مليون دولار، ومن ثم أثبتت لجنة تحقيق شكّلها مجلس السلطة التشريعي أن غالبية الوزراء وأصحاب النفوذ في السلطة فاسدون ومختلسون، وأوصت اللجنة بحل مجلس الوزراء واحالة الوزراء المتورطين للتحقيق ومن ثم للمحاكمة منهم نبيل شعث، وجميل الطريفي، وعلي القواسمة، وياسر عبد ربه، وغيرهم مجلة الوعي العدد 123 . ونشرت جريدة الحياة مقابلة مع حيدر عبد الشافي في 20»10»1997 تحدث فيها عن الفساد والكسب غير المشروع، وطالب باحداث تغيير وزاري، وتقديم المخالفين في قضايا الفساد الى النائب العام.
وصار للسلطة رجالاتها الذين يتعايشون مع الاحتلال ويرتعون بالفساد، ولكن الاتفاقيات لم تؤد الى منجزات تُرضي نتياهو وحكومته، فلم تتابع اسرائيل خطة اعادة انتشار قواتها، ولم توسّع من نطاق السلطة. وظلت المقاومة ضد الاحتلال مشتعلة، وتصاعدت العمليات الجهادية والاستشهادية، بينما قدّمت السلطة ومن ورائها المنظمة التي أنجبتها كل التنازلات دون جدوى، فأخذ اليأس مأخذه من رجالات السلطة وأنزل سقف تطلعاتهم، وقبلوا باتفاقية واي ريفر في 23»10»1998 ، بالانسحاب الاسرائيلي الجزئي في مقابل تصعيد الدور الأمني للسلطة The Wye River Memorandum .
تمثلت بشاعة اتفاقية واي ريفر في تركيزها على مواجهة ما أسمته الارهاب ، فكانت خطة أمنية بامتياز، تحت اشراف المخابرات الأمريكية CIA ، حيث قضت بتشكيل لجان أمنية مشتركة من الفلسطينيين واليهود والمخابرات الأميركية، ونصت الاتفاقية على أن يُشرِك الفريق الفلسطيني الولايات المتحدة في خطة عمل يُعدّها، ثم يبدأ تنفيذها فورًا، ليضمن التصدّي المنهجي والفعّال للمنظمات الارهابية وبُناها التحتية ، وتحدثت الاتفاقية عن التعاون الأمني الاسرائيلي الفلسطيني الثنائي ، وعن لجنة أمريكية فلسطينية تجتمع مرة كلّ أسبوعين، من أجل مراجعة الخطوات المتّخذة للقضاء على دعوات الارهابيين … ، و يقوم الفريق الفلسطيني باعتقال الأشخاص المشتبه في ارتكابهم أعمال عنف وارهاب، لاجراء المزيد من التحقيق معهم، ومحاكمة جميع المتورّطين في أعمال عنف وارهاب ومعاقبتهم .
/5/2012 Issue 4213 – Date 30 Azzaman International Newspape
جريدة الزمان الدولية العدد 4213 التاريخ 30»5»2012
AZP07