السبيل إلى المجتمع المدني

السبيل إلى المجتمع المدني

 

 

عماد علو

 

 

 مقدمة

 

يعبر الإنسان عن اجتماعيته من خلال حاجته إلي بني جنسه وحاجتهم إليه للاستمرار في الحياة الإنسانية واستكمالها بالتعاون والحماية والتنظيم، اجتماعياً بما يكفل تأمين التفاعلات الاجتماعية بمختلف أشكالها، أو سياسياً بإيجاد المؤسسات الكفيلة بإنتاج المجتمع السياسي .

 

إزاء هذه العلاقة الاجتماعية والسياسية، لا يمكن النظر إلي مسألة الانتماء، كشعور وممارسة، إلا من خلال الإحساس الطبيعي بالانتماء إلي الجماعة الأولية، التي يولد فيها الإنسان. لذلك فان مؤسسات المجتمع الأهلي تكون ذات طابع قرابي عصبوي(انظر عبد الإله بلقزيز : في الديمقراطية والمجتمع المدني ،بيروت ، إفريقيا الشرق، 2001، ص 20- 21 ) فانتماء الأفراد إليها لا تحدده إرادتهم الحرة وإنما تحسمه مسبقا عوامل معينة ، كروابط الدم ، أو الولاء القائم علي أساس العرق أو الدين والمذهب أو الطائفة أو الوشائج الاجتماعية الأخرى ، علاوة علي أن وجودها يسبق وجود الأفراد المنتمين إليها عادة . والسؤال المطروح هو عن كيفية تلمس السبيل الى المجتمع المدني .

 

تراجع مقومات المجتمع الأهلي تقوم مؤسسات المجتمع الأهلي، بالعمل، وبأكثر الوسائل تحديثاً، علي ترسيخ روابط المجتمع الأهلي بانتماءاته الأولية القائمة علي العصبية القرابية مهما كانت تفريعاتها والانطلاق منها، كأولوية انتماء، إلي بناء علاقاتها مع الخارج، إن كان هذا الخارج علي حدود الولاءات الفردية التي تتحكم بها اعتبارات القرابة والمكان، أو علي حدود الطائفة التي تتحكم بها اعتبارات الولاء الطائفي تجاه بقية الطوائف، أو علي حدود الدين التي تتحكم بها اعتبارات الولاء للدين الواحد تجاه بقية الأديان.  لقد أثرت الحداثة وثورة الاتصالات والعصرنة التي تزامنت مع الاتجاه إلي العولمة علي مقوماته وخصائص المجتمع الأهلي والتي كانت تتناسق وتتكامل للمحافظة علي وجوده واستمراريته بشكل منتج يقنع أفراد المجتمع بالانتماء إليه والمحافظة عليه وذلك للأسباب الآتية:

 

– المجتمع الأهلي يعمل علي إقصاء ما يعطل توجهه، ويستعمل في عملية الإقصاء هذه شتي أنواع العنف وصولاً إلي القتل الرمزي بهدر الدم.

 

– المجتمع الأهلي محكوم بروابط ومحددات أولية تحيل الإنسان فيه إلي انتماءاته الأولية التي لا إرادة له فيها.

 

– المجتمع الأهلي يعمل علي ترسيخ روابطه وانتماءاته الأولية وتقويتها بما يتعرض له من عمليات تنشئة اجتماعية متولدة من عمل مؤسسات أهلية، أو حكومية، تعيد إنتاج عناصر انتماءاته، وترتب أولوياتها بما يخدم توجهات هذه المؤسسات، إن كانت مجسدة لمتحدات اجتماعية تتميز باختلافاتها الدينية، المذهبية، أو الاثنية؛ أو معبّرة عن توجّه أجهزة الحكم في الحفاظ علي ما هو قائم، وترسيخه بتعميق جذور إيديولوجيتها المبنية علي الوفاق والتوافق المنتجين بطبيعتهما للانقسام ومن ثم للتسوية.

 

– المجتمع الأهلي لم يعد قائماً بخصائصه الناصعة، ومقومات وجوده المعزولة عن منطق العصر وموجبات العصرنة. وهو بالتالي تعرض للتأثر بالحداثة المنتجة في الغرب، فوقع في دوامة من المتناقضات أدت به إلي التخبط والبلبلة.

 

إذن يمكننا الاستنتاج ببساطة أن المجتمع الأهلي، لم يعد مجتمعاً أهلياً، لأن مقوماته لم تعد قادرة علي الثبات في وجه رياح التغيير، ولا علي تلبية متطلبات الحياة الحديثة، وبات من الضروري أن يتحول إلي مجتمع مدني بخصائصه ومتطلباته وعناصر وجوده.

 

المجتمع المدني في زمن العصرنة

 

إن المجتمع المدني في زمن الحداثة والعصرنة هو أكثر استجابة لمتطلبات اتجاه العالم اليوم نحو العولمة بجوانبها الايجابية التي تنطلق من التفاعل الحضاري مع مخرجات الثورة الصناعية وثورة الاتصالات والحوار الحضاري بين الشعوب المعبرة عن فضاء واسع من حرية الاختيار في إطار هذا التفاعل وبحسب الدكتور محمد عابد الجابري (أن المجتمع المدني هو أولا وقبل كل شيء مجتمع المدن ، وان مؤسساته هي التي ينشئها الناس بينهم في المدينة لتنظيم حياتهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية ، فهي إذن مؤسسات إرادية أو شبه إرادية يقيمها الناس وينخرطون فيها أو يحلوّنها أو ينسجون منها ، وذلك علي النقيض تماما من مؤسسات المجتمع البدوي /القروي التي تتميز بكونها مؤسسات طبيعية يولد الفرد منتمياَ إليها ومندمجاَ فيها ولا يستطيع الانسحاب منها مثل القبيلة والطائفة). (انظر محمد عابد الجابري ومحمد محمود إمام :التنمية البشرية في الوطن العربي :الأبعاد الثقافية والمجتمعية ،سلسلة دراسات التنمية البشرية (2)،ك1،1995،بدون مكان الطبع ، ص72 ). وعليه فان المجتمع المدني كمفهوم ينهض علي عناصر أساسية هي باختصار:

 

1. الشعور والوعي بالانتماء إلي المجتمع والدولة بوصفهما دائماً في طور التشكل من الوجهة المعيارية. نتيجة الأنشطة التي يقوم بها الإنسان نفسه، بالوعي والإدراك والتنظيم الاجتماعي باعتبارها، جميعاً، عوامل أساسية في تحول المجتمع من طبيعته الأهلية إلي حالته المدنية، المرتكز علي أساس الانتماء المشترك للناس جميعاً علي اختلاف انتماءاتهم الفرعية إلي (المواطنة) الذي يتصدر الانتماءات جميعاً دون أن يلغيها.

 

2. المراقبة والمساءلة بما تتيحه الديمقراطية كنظام حكم ومنهج سلوك لإبقاء الممارسة العملية في ما هو متشكل فعلاً وواقعاً علي طريق التوجه المعياري وفي ما يمكن أن يكون، والعمل بموجب هذا التوجه في الممارسة العملية الفردية بما يعني الحقوق والواجبات والعمل بموجبهما حسب ما تقتضيه المواطنة ويفرضه الحس المدني في العلاقة مع الذات ومع الآخر.

 

صناعة المجتمع المدني

 

مما لاشك فيه أن تنظيمات المجتمع المدني هي تنظيمات (وضعية) وليست (طبيعية) فهي من صنع الإنسان وتقوم بناء علي حاجته إليها، وتختفي أو تستبدل متى ما انتفت حاجة الناس إليها أو وجدوا حاجة في استبدالها. لذلك فهي تنظيمات أنية وحاجوية في نفس الوقت تخضع لقوانين التطور الاجتماعي، وليست أزلية ولا دائمة ، وهي تشمل قطاعا واسعا من الأنشطة تبدأ بمجال الخدمات بمختلف أنواعها وأشكالها من صحية وثقافية (والخ) وتنتهي بالمجالات السياسية التي تختص بها عادة الأحزاب والتنظيمات السياسية الأخرى(انظر نفيس صادق ، حالة السكان في العالم 1999، صندوق الأمم المتحدة للسكان ،نيويورك ،22/أيلول /1999،ص46) . وعليه فان التجانس بين أفراد أو بين القائمين علي مؤسسات المجتمع المدني أمر ضروري ومطلوب (انظر شرف الدين، فهيمه ،”الواقع العربي وعوائق تكوين المجتمع المدني”، مجلة المستقبل العربي، ع 278، 2002، ص36-48 ) ، وذلك لان هذه المؤسسات هي تجمعات تحاول المساهمة في الحفاظ علي مجتمع متحضر ويدعمها تمويل خاص وتشمل المؤسسات التعليمية والخيرية ومنظمات الصحة والخدمة الاجتماعية والمنظمات الدينية والثقافية( انظر إقبال حسون القزويني ، المنظمات غير الحكومية ودورها في بناء المجتمع المدني ، المجلة العراقية لحقوق الإنسان، ع 6، 2002، ص 18- 29).

 

 وبما أن الدولة العصرية منوط بها تنظيم أحوال المجتمع في شتي المجالات، إذن يمكننا القول أن صناعة المجتمع المدني لابد أن أيضا تتم بإشراف وتوجيه الدولة باعتبارها المسئولة عن تنظيم وقيادة وتوجيه المجتمع. ويكون دور مؤسسات المجتمع المدني هو تنظيم مجال علاقة الدولة بالفرد حصرا وليس بأية جهة أخري غيره..

 

الانتقال من مجتمع أهلي إلي مجتمع مدني

 

في دول العالم الثالث أو الدول التي ترغب شعوبها أو أنظمة الحكم فيها بالسير باتجاه مجتمع ديمقراطي متحضر يتناغم مع الحداثة و العصرنة التي تشهدها البشرية لابد من بذل الجهود لنقل المجتمع الأهلي المتنفذ فيها إلي مجتمع مدني حيث أن المجتمعات ذات الأنظمة الديمقراطية يتم تداول الأنشطة فيها من قبل مؤسساتٌ رسمية ومدنية وأهلية تعمل علي إبقاء المجتمع في حالته التي تتناسب مع توجه الدولة وإيديولوجيتها، والعمل علي نقل الفرد من تبعيته لروابطه الأهلية إلي الانخراط، بالإرادة والوعي، في روابط مجتمعية مدنية من خلال ما يأتي :

 

– قيام المؤسسات المدنية في المجتمع بالعمل علي إنشاء الوعي بالذات، ووعي الانخراط في مجموع تتأمن فيه مصلحته، ويحس فيه بحرارة الانتماء المتولدة من الإحساس بالإرادة الواحدة والمصير المشترك الواحد المتناسبين بدورهما مع توسيع مساحة المصلحة العامة.

 

– ترسيخ عناصر المجتمع المدني، إن كان علي مستوي الممارسة اليومية بما تتيحه الديمقراطية في النظر إلي الذات وإلي الآخر، وفي قبول حق الاختلاف تحت سلطة القانون وحكم المؤسسات ومنطق المساواة كما تقررها العدالة الاجتماعية، أو كان علي مستوي صوغ ما يمكن أن يحوّل الفرد إلي مواطن يدرك تماماً ما تعنيه المواطنة ، وما يفرضه الحس المدني في الوعي والممارسة.

 

– دعم وتقوية المؤسسات التي تشكل عناصر المجتمع المدني. مثل النقابات والمنظمات الثقافية والروابط والاتحادات المدنية التي تأخذ من الإنسان وحدة اهتمامها مهما كان توجهه، وتنصرف إليه من أجل تعزيز موقعه كصاحب مصلحة في التغيير إلي ما هو أفضل لمصلحته ولمستقبله باعتباره مواطناً في النظر إلي ذاته، وفي نظر الآخرين إليه، وفي نظرته إلي الآخرين دون مفاضلة لأحد علي آخر إلا بما يتيحه موقعه ودوره في المجتمع، وبموجب هذه الاعتبارات بالذات (انظر حسين علوان ، الديمقراطية وإشكالية التعاقب علي السلطة ، مجلة المستقبل العربي ،ع/236/ت1/1998ص101 ).

 

– الاهتمام الجاد والفعال بالتنمية الاقتصادية وتامين متطلبات التقدم الحضاري والعلمي الذي يؤهل البلد للاستفادة من منجزات العلم والتكنولوجيا وتسخيرها لصالح تحسين ظروف أفراد المجتمع بتنمية وتطوير بناه التحتية ، والتغلب علي مشاكله الاجتماعية والاقتصادية خصوصا تلك المتعلقة بالأمية والفقر ، وإلا فأن عيش بعض المجتمعات في ظل أوضاع اقتصادية وظروف اجتماعية سيئة لا يؤهلها لبناء مجتمع مدني متطور بسبب ضعف الوعي الشعبي ،وأحيانا فقدانه الإحساس بضرورة الإقدام علي فعل كهذا .

 

الخاتمة

 

لقد أثرت الحداثة وثورة الاتصالات والعصرنة التي تزامنت مع الاتجاه إلي العولمة علي مقوماته وخصائص المجتمع الأهلي والتي كانت تتناسق وتتكامل للمحافظة علي وجوده واستمراريته بشكل منتج يقنع أفراد المجتمع بالانتماء إليه والمحافظة عليه لأن مقوماته لم تعد قادرة علي الثبات في وجه رياح التغيير، ولا علي تلبية متطلبات الحياة الحديثة، وبات من الضروري أن يتحول إلي مجتمع مدني بخصائصه ومتطلباته وعناصر وجوده . إن المجتمع المدني في زمن الحداثة والعصرنة هو أكثر استجابة لمتطلبات اتجاه العالم اليوم نحو العولمة بجوانبها الايجابية التي تنطلق من التفاعل الحضاري مع مخرجات الثورة الصناعية وثورة الاتصالات والحوار الحضاري بين الشعوب المعبر عن فضاء واسع من حرية الاختيار .إذن فان خلاصة القول أن دول العالم الثالث أو الدول التي ترغب شعوبها أو أنظمة الحكم فيها بالسير باتجاه مجتمع ديمقراطي متحضر يتناغم مع الحداثة والعصرنة التي تشهدها البشرية لابد من بذل الجهود لنقل المجتمع الأهلي المتنفذ فيها إلي مجتمع مدني يواكب متطلبات الحداثة والعصرنة التي يسير علي إيقاعها عالم اليوم…!

 

مشاركة