الرؤية السياسية لتاريخ العراق الحديث بلغة الأدب
أحمد شريف الجوراني
عن دار ضفاف للنشر صدرت الطابعة الثانية من رواية (الباشا وفيصل والزعيم) تأليف باسم عبد الحميد حمودي…الرواية مهما حاولت التجرد من الموقف الأيديولوجي المسبق عند قراءتها، ستجد نفسك منزلقاً فيه شئت أم أبيت، إذ إن ثورة الزعيم عبد الكريم قاسم في العام 1958 وقتل العائلة المالكة، وسحل الباشا نوري السعيد رئيس الوزراء في العهد الملكي موضوع خلافي، لم يتفق العراقيون على موقف موحد بشأنه، ولكل طرف قناعاته وأسبابه لا نريد الخوض فيها، لأنها منذ أكثر من ستة عقود مازالت مستمرة، ولو حالياً بأقل حدة وتشنج بفعل الزمن أو تكشف الدور الخارجي فيها أو بسبب العديد من المعطيات والمعلومات الدقيقة بشأنها فضلاً عن زيادة الوعي ووفرة المادة التاريخية التي كتبت عنها من دراسات وبحوث أكاديمية أو كتابات لسياسيين أو مذكرات لمن عاصرها أو ما كتبه أهم المؤرخون وفي مقدمتهم حنابطاطو(1926-2000)في بحثه التاريخي الاجتماعي عن العراق الذي يعد أهم مرجعاًعن تاريخ العراق الحديث، وما كتبه عبد الرزاق الحسني(1903 – 1997) صاحب كتاب تاريخ الوزارات العراقية في العهد الملكي، وكتاب تاريخ العراق السياسي الحديث.
الرواية اعتمدت على الحوار بين الشخصيات الفاعلة والمؤثرة في الأحداث وصناعة التاريخ، عبر تخيل عالم افتراضي لما بعد الموت، يتحاور المتخاصمون فيه بحيادية ومن دون عنف وكل طرف يبرئ ساحته من فعل القتل في الصفحة 19 “الأمير عبد الإله موجهاً كلامه للزعيم عبد الكريم: لماذا فعلت ذلك؟ هل نستحق ميتة كالتي حدثت؟ لا تتكلم دعني فقط أتحدث، ستقول إننا قتلنا الصباغ والعقداء الآخرين” ص20 “لماذا قتلت جماعتك أيضاً العقيد الشواف والطيارين وكذلك جماعتكم، الطبقجلي ورفعت؟ أهي دوامة القتل سارية أم ماذا؟”ولكسر رتابة الأحداث وخشية الوقوع في شرك الخبر أو التقرير أو السرد التاريخي، عمد المؤلف إلى إشراك حنا بطاطو وعبد الرزاق الحسني عبر طرحهم الأسئلة إلى أبطال الرواية، فضلاً عن توظيف رأي المثقف العراقي في الأحداث عن طريق الأدباء كتاب الرواية والقصة الذين زامنوا الأحداث وما تعرضوا له من اعتقالات منهم عبد الملك نوري وفؤاد التكرلي و مهدي عيسى الصقر، جاء في الصفحة 40 “كان اعتقال الجواهري قد تم بأمر قضائي وكذلك اطلاق سراحه بكفالة، ضحك عبد الرزاق الحسني وهو يستكمل حديث الزعيم قائلاً:أطلق سراح الجواهري بكفالة قدرها درهم واحد إمعاناً في إهانته وهو رئيس اتحاد الأدباء ونقيب الصحفيين وممثل الحزب الجمهوري الذي قدم طلباً للإجازة من دون أن يحصل عليها”. قال “مهدي الصقر هامساً في أذن عبد الملك نوري إنهم لا يعرفون إلا قصيدة صوت صفير البلبل” ص43 ما يعني أن ثمة صراع وعداوة بين الحاكم في العراق الحديث والمثقف ” أنتم بعد أن حكمتم وقتلتم وسجنتم لنقول لكم إنكم لو سمحتم للحرية أن تسود وقرأتم أدبنا وأدب غيرنا من العراقيين لما فعلتم ما فعلم” يقول عبد الملك ص45 “سجنونا جميعاً، كل صاحب فكر ديمقراطي وضع في المعتقل عدا الذين تمت تصفيتهم قتلاً من شهداء انقلاب 8 شباط” نستشف مما طرحته الرواية أن من حكموا أوغلوا في العراقيين سجناً وقتلاً وتنكيلاً، وحاربوا المثقف وصاحب الفكر وما ادعوه من حرصٍ على بناء الديمقراطية أو الوحدة العربية محض هراء…وما ادعوه من محاربة الاستعمار البريطاني كان الزعيم على علاقة وطيدة مع السفير البريطاني السيد همفريتريفليان ص58 ” حتى أنهما كانا يلتقيان معاً بشكل يومي في السفارة البريطانية في منطقة الكريمات بالكرخ ويسبحان سوية في مسبح السفارة” قالت نعيمة ص83:”هم في لندن عاملونا معاملة سيئة بعد الانقلاب وطردونا من السكن، ولولا دعم رجال العراق النشامى وتدبيرهم لمعيشتنا لجلسنا في شوارع لندن ونحن نشحذ”. ما جاء في الرواية أن تريفليان كان سفيراً في مصر أثناء ثورة أو انقلاب 23يوليو العام 1952وهو أيضاً في ثورة العام 1958 كان في العراق، ما نضيفه هنا المفارقة أن جمال عبد الناصر كان على صلة بوليم ليكلاند مساعد الملحق العسكري في السفارة الأميركية، وكان ينسق مع الضباط الاحرارعبرعبدالناصر،وليكلاند كان يستقبل عماش كل يوم سبت، قبل انقلاب 8 شباط وكانت لقاءاتهما الرسمية تجري في مكتبه داخل السفارة الأميركية وهو من دار انقلاب 8 شباط 1963. عموماً الرواية تحمل الكثير من التساؤلات والشفرات بشأن التاريخ العراقي الحديث. كتبت بأسلوب جميل ولغة تشد القارئ بالمتعة والمعلومة، وأهم ملاحظة لا بد من الإشارة إليها أن المؤلف لم يكتب جملة واحدة مستوفية لاشتراطاتها اللغوية، إذ إنه لم يضع نقطة واحدة في الرواية من أول كلمة حتى آخر كلمة فيها. كما هو معروف من اشتراطات الجملة التامة وضع النقطة (.) في نهايتها حتى تستوفي كل مكملاتها اللفظية،وكذلك توضع عند الانتهاء من آخر كلمة، في إشارة من المؤلف أن الرواية افتراضية في رؤاها ولها منطقها المتأرجح بين المعقول واللامعقول مفتوحة على جميع المستويات يشكلها فكر القارئ بشأن الموقف الأيديولوجي وحقيقة ما جرى عن شرعنة القتل ومفهوم العمالة …