الدم شهادة ميلاد وطن – كامل الدليمي
لم تكن القضية الفلسطينية يومًا مجرد نزاع حدودي أو خلاف سياسي، بل كانت وما زالت جرحًا مفتوحًا في ضمير الإنسانية. أكثر من سبعة عقود مضت، قدّم خلالها الشعب الفلسطيني أنهارًا من الدماء، وتحمّل سياسات القمع والتهجير القسري، وفقد أجيالًا كاملة من حقها في العيش بكرامة وأمن. واليوم، بعد كل تلك المعاناة، يقترب العالم أكثر من أي وقت مضى من الاعتراف العلني بحق الفلسطينيين في إقامة دولتهم المستقلة، دولة فلسطين التي لطالما كانت حلمًا وحقًا لا يسقط بالتقادم.
وثيقة دامغة
لقد كشفت الإبادة الجماعية في غزة، وما رافقها من تجويع وحصار وتدمير ممنهج، الوجه الحقيقي للاحتلال، وأزالت ما تبقى من أقنعة طالما حاول الكيان الغاصب التستر خلفها. المشاهد القادمة من غزة لم تترك مجالًا للحياد، إذ تحوّلت إلى شاهد حيّ على الجرائم ضد الإنسانية، وصارت دماء الأطفال والنساء والشيوخ وثيقة دامغة تُدين سياسات الاحتلال أمام كل العالم. هذه الحقائق المروّعة دفعت كثيرًا من الدول إلى إعادة النظر في مواقفها، والاقتراب من الاعتراف بدولة فلسطين، ليس كخيار سياسي، بل كواجب أخلاقي وإنساني.
إن اعتراف المجتمع الدولي المتزايد بفلسطين يحمل أكثر من دلالة؛ فهو إقرار بأن المقاومة الشعبية والصمود الأسطوري للشعب الفلسطيني أثبتا للعالم أن الحقوق تُنتزع ولا تُمنح. كما أنه رسالة إلى الأجيال الفلسطينية القادمة بأن تضحيات من سبقوهم لم تذهب سدى، وأن الدماء التي سالت لم تكن عبثًا، بل كانت ترسم ملامح خريطة دولة طال انتظارها.
ومع ذلك، فإن الاعتراف الدولي، رغم أهميته، لا يكفي وحده. فالمطلوب أن يقترن هذا الاعتراف بإجراءات ملموسة تضمن وقف العدوان، وإنهاء الاحتلال، ومحاسبة المسؤولين عن الجرائم بحق المدنيين، ودعم مؤسسات الدولة الفلسطينية سياسيًا واقتصاديًا لتتمكن من ممارسة سيادتها الفعلية. إن العالم اليوم أمام اختبار حقيقي: إما أن يكون الاعتراف بفلسطين خطوة رمزية تُضاف إلى بيانات سابقة، أو أن يتحول إلى بداية فعلية لتصحيح مسار تاريخي قائم على الظلم.
إن الدم الفلسطيني الذي تحوّل إلى نداء عالمي للحرية، يضع الجميع أمام مسؤولية أخلاقية. فإقامة دولة فلسطين ليست مجرد استجابة لرغبة سياسية أو نتيجة لظرف إقليمي، بل هي إحقاق لحق تاريخي أصيل، وعدالة تأخرت كثيرًا، وواجب على كل من يؤمن بكرامة الإنسان وحقه في الحياة. وفي لحظة كهذه، يبدو أن العالم، وإن متأخرًا، بدأ يسمع صوت فلسطين. إنه صوت الضحايا الذين قضوا تحت الأنقاض، والأسرى الذين قاوموا خلف القضبان، والملايين الذين هجّروا قسرًا وما زالوا يحتفظون بمفاتيح بيوتهم كرمز للعودة. الاعتراف بفلسطين لم يعد مجرد قرار سياسي، بل أصبح شهادة ميلاد لوطن وصرخة ضمير للإنسانية جمعاء .