الدكتور علي العكيدي .. الأب الأستاذ والعراقي الأصيل
غفران علي العكيدي
من الصعب عليّ جدا أن أمسك القلم واكتب عنك وأرثيك يا والدي ، لأول مرة اكتب سطوراً وانشرها بدون ان تكون القارئ الاول والناقد الاول والمصحح العلمي واللغوي في ذات الوقت فمنذ سنوات طوال منذ ان بدأت الكتابة في الصحف وانا اعرض عليك اي موضوع اكتبه لتقوم بتدقيقه من جميع النواحي وبعد تدقيقك له يصبح جاهزا للنشر . فاليوم انا اكتب بدون مدقق لكلماتي فاني اكتب رثاء لذلك الانسان الراقي الاب والاستاذ في ذات الوقت فانت يا والدي لم تكن أبا لنا فحسب بل كنت الاستاذ الاول لنا أستاذنا في مدرسة الحياة منك تعلمنا الاخلاق والمبادئ وتعلمنا ان حب الوطن من الايمان .
لم يكن والدي مجرد اب يلبي طلبات ابنائه بل كان شخصا مسؤولا بكل ما تحمل كلمة المسؤولية من معنى هو اب لكنه يمثل لنا الحياة ، الحياة بكل تفاصيلها وأشخاصها. فبوجود والدي في حياتنا لم نكن نحتاج لاحد ولم نكن نحتاج لشيء فوالدي قدم لنا كل شيء وعلمنا ان نكتفي بالذي يقدمه لنا. كنا ننظر أليه فنراه جبلا عاليا لا يتأثر بشيء كان يتابعنا في كل امورنا من بداية ان نتعلم اول الحروف من الكلام ونخطو اول خطوات على الارض وهو من يوصلنا بنفسه في اول يوم دراسي في المرحلة الابتدائية ويتابع نشاطاتنا المدرسية ويحثنا على التفوق وتحصيل اعلى الدرجات وحتى بعد ان وصلنا للمرحلة الجامعية اخذ بيدنا الى قاعة الدراسة مباشرة وانا واحدة من بناته التي اوصلني بنفسه في اول يوم في حياتي الجامعية وادخلني الى القاعة الدراسية وسط تعجب الطلبة والاستاذ (معقولة والدج وصلج للقاعة شعجب شنو متعرفين تجين وحدج) لكنهم لم يكونوا على علم بمدى تحمل والدي للمسؤولية وحتى بعد ان حصلنا على وظيفة فكان لابد ان يذهب لمكان عمل كل واحدة منا ليتأكد بنفسه من ملاءمة المكان لنا فليس اي مكان يليق بان نكون موظفات به وليس اي شخص ممكن ان نختلط به حسب وجهه نظر والدي وقناعاته الخاصة فكانت له حسابات خاصه به وكان ذو نظرة بعيدة المدى لكل الامور فليس هو ذلك الرجل الذي يفكر بيومه فقط بل كان يفكر للأمام ويحسب للأيام حسابات دقيقة بكل شيء يتعلق ببناته فكان يقول باننا امانة ويجب عليه تأدية الامانة بأتم وجه ليرضي الله سبحانه وليصنع منا جيلا واعيا ومدركا وخلوقا ويخدم البلد. كان والدي فخرا لنا عندما نمشي بجواره نشعر بالفخر والامان والمباهاة به فنحن بحماية رجل لامثيل له وحبنا له فاق الوصف كنا دائما نحسد على والدنا ممن حولنا فكثير ما سمعنا من صديقاتنا عبارة (هنيالكم على ابوكم ) بسبب ما يرون من تعلق وحب واهتمام منه اتجاهنا والعكس . فوالدي ليس ككل الاباء تفاصيل كثيرة عشناها معك لا تكفي لتدوينها سلسلة من الكتب تركت فينا برحيلك يا والدي جرحا لن يندمل .
أما عن الدكتور علي العكيدي الاستاذ فهو أيضا كان ابا فبعد ان كان استاذا لبناته فهو ابا لطلبته كان يؤدي واجبه كأستاذ جامعي على اتم وجه كان مهتما بطلبته محبا لهم ناصحا لهم قاسيا عليهم عندما يتطلب الامر بعض القسوة . يعمل بضمير حي دائما يخاف الله في عمله يحرص على اتمام كل شيء في موعده المحدد يحرص على المتابعة وتجديد المعلومات وكتابة البحوث . داخل القاعة الدراسية هو الاستاذ الملتزم الدقيق الشديد الذي يقوم بايصال المعلومة الى اذهان الطلبة بشكل مبسط ومحبب ولا يسمح باي تهاون يحدث داخل المحاضرة فكانت محاضراته نموذجية بشهادة طلبته فلطالما طالبوه بان يدرس لهم مواد اخرى لكونهم يرغبون به كأستاذ ويفضلون طريقته بالتدريس .
متابعة الدراسة
كان يعطي لكل ذي حق حقه ويحث طلبته على المتابعة والدراسة وكتابة البحوث لدرجه انه كان يقوم بإعارتهم المصادر من مكتبته الخاصة فلطالما جهزت انا كاتبة هذه السطور مصادر عديدة ليصطحبها معه الى الجامعة لكون طلبته بحاجة لها وكان يعيرها لهم بكل حب وسلاسة ليشجعهم على كتابة البحوث وتطوير نفسهم بهذا المجال. خارج القاعة كان هو الاب والاخ والصديق لطلابه فهو لا يرد اي محتاج منهم فمنهم من يحتاج النصيحة ومنهم من يحتاج الاستشارة ومنهم من يحتاج ان يتوسط له بموضوع فلم يكن يعرف ان يرد ايا منهم وكان لا يضجر من مساعدتهم . لكن ذلك كله بحدود مرسومة فيبقى هو الاستاذ المهاب ولا يستطيع اي احد من طلبته ان يستغل هذه الطيبة وهذا التعامل الاخوي والابوي فدائما كانت هناك خطوط حمر لا يمكن تجاوزها بين الاستاذ والطالب حسب وجهة نظر والدي. وحب طلبته كان واضحا فكانوا يعبروا عنه دائما وبعد ان توفاه الله ظهر هذا الحب بشكل اكبر فالتأثر والحزن كان شديدا فطلبته رثوه بأقوى عبارات الرثاء وكلهم يذكرون مواقفه الرائعة معهم وتعامله الابوي وكلهم يقولون له اننا لن ننساك فلم نر مثلك استاذا. فكيف لا وهو يحبهم وينصحهم وملتزم معهم لدرجة انه على فراش المرض ويرسل لهم على صفوفهم الالكترونية يعتذر لهم بها بانه بسبب مرضه سيؤجل المحاضرة . فعلى الرغم من مرضه لم ينس ان له طلبة ينتظرون محاضرته ولم يتركهم بدون ان يبلغهم بتأجيل المحاضرة فهو دقيق وملتزم جدا.
علي العكيدي قبل ان يكون ابا واستاذا فهو انسان عراقي اصيل غيور على بلده محب ومخلص له حد النخاع ، الحب الذي يحمله للعراق ارهق قلبه النقي فكان والدي يتغنى بحب العراق ويبكي بحرقة على ماحل به من دمار وكان يتألم اشد الالم على بلد من اعظم البلدان وهو يراه في تراجع مستمر . حب العراق ارهق قلب والدي وادمع عيناه واقلق منامه كان يتمنى ان يرى بلده سالما منعما متطورا متقدما لكن توفى قبل ان يرى ذلك اليوم كتاباته عن العراق لا تحصى ولا تعد وجريدة الزمان شاهدة على هذا الكتابات ، الواقع الامني . السياسي . الخدمي ، الاجتماعي ، الاقتصادي كلها مواضيع عالجها والدي وانتقدها بشكل لاذع في كتاباته اما الواقع الصحي فشاءت الصدف ان يكون اخر مقال ينشر لوالدي قبل وفاته هو عن الواقع الصحي في العراق اذ نشر المقال بجريد الزمان بتاريخ 2020/6/23 بذات اليوم الذي دخل فيه والدي للمستشفى لتلقي العلاج ليتوفى بعدها ب 48 ساعة اذ توفى بتاريخ 2020/6/25 فذات الوقت الذي نشر فيه موضوعه الذي يناقش به الواقع الصحي العراقي كان والدي يرقد بمستشفى يفتقر لأبسط الخدمات الصحية من كل الجوانب لم يحتمل والدي وضع المستشفى المزري للغاية ولطالما طلب بمغادرتها لكونه غير مرتاح بها ابدا واشمئز منها جدا ولأخر ساعات حياته وهو يرى وضع المستشفى كان يردد جملة (منو للعراق) كان دائما يقول من يتمرض بالعراق يموت وبالفعل عندما مرض والدي مات لم يجد من يقدم له الرعاية الكافية .
حضور عراقي
العراق كان دائما حاضرا في قلب والدي وفي كتاباته وفي نقاشاته وعندما رثاه اصدقاؤه وطلبته رثوه بجمله العاشق لبغداد والباكي على خرابها وحسب قول طلبته انه لا تخلو محاضرة له من اسم العراق وبغداد واتفق اغلب المقربين منه على جملة معناها ( انه كان محبا للعراق لدرجه ان تدمع عيناه عند ذكر اسم العراق ويفقد هدوء اعصابه هو يتحدث عن مأساة العراق السبب الذي يؤدي بالجالسين الى تغيير الموضوع لكون الدكتور علي يتأذى من ذكر مواضيع كهذه).
غادرت روحك يا والدي الى الرب الرحيم كما كنت تقول دائما بان من يموت يذهب الى رب رحيم فاليوم انت عند ربك في جنات الخلد ان شاء الله فمن مثلك لا تليق بهم غير الجنة لكونك اديت امانتك تجاه بناتك واهلك وطلبتك وبلدك اديتها على اتم وجه ويشهد لك الجميع على اعمال الخير ما علِمنا منها وما لم نعلم الا بعد وفاتك فقد كنت تعمل الخير صامتا لكنه ذُكر بعد وفاتك مواقفك النبيلة مع الناس عديدة . سيجازيك الله عنها خير الجزاء لك الجنة يا والدي ولنا الصبر من بعدك خسرناك أبا وأستاذا وخسر العراق أبنا بارا ومحبا وغيورا لامثيل له رحمك الله واحسن مأواك رحلت عنا جسدا لكنك في قلوبنا وعقولنا حيا لا تموت مكانك في قلوبنا الى الابد .
{ محامية